جبول
جبول
-
جبول
جبول
الجبول Jabbul منطقة أخذت اسمها من بحيرة شديدة الملوحة (سبخة)، تقع على بعد ٣٥ كم جنوب شرقي مدينة حلب، تقارب مساحة سطحها المائي٢٦٢ كم٢؛ في حين تمتد المنطقة على مسافة تراوح بين ٤٠- ٨٠ كم ، فيها ٢٧ قرية وبلدة صغيرة إحداها تحمل اسم الجبول.
والمنطقة حوض واسع مغلق بين وادي نهر قويق في الغرب والفرات في الشرق، تحده من الشمال هضاب محدبة، ومن الجنوب الكتلة البازلتية لجبل الحص. وكان هذا الحوض قديماً يجمع مجاري مياه المنطقة التي تتلاقى كلها لتغذي بحيرة الجبول التي تكوّن القاع الأعمق من الحوض؛ أقوى هذه المجاري هو نهر الذهب الذي ينبع من جوار مدينة الباب ويتجه جنوباً نحو الجبول، وهناك نهر الملح ونهر أبو الغر، وبعض الينابيع ومنها نعيم (في تل شلاش) والسلة في الغرب. وتتغذى البحيرة حالياً من مياه السيول والمياه الفائضة عن مشاريع استصلاح الأراضي ومصدرها الفرات، بعد تعرض المنطقة للجفاف منذ أواسط القرن العشرين.
تتوضع منطقة الجبول على هامش المناطق الزراعية المطرية بين حلب والفرات، وبالتالي يلتقي فيها نمط الحياة الرعوية المتنقلة ونمط الحياة الزراعية المستقرة، و تعد من الأراضي الزراعية الخصبة، وهذا ما يذكره معظم الرحالة الذين زاروا المنطقة حتى وقت قريب.
جاءت الأهمية التاريخية للمنطقة من كونها معبراً للطريق التجارية التي كانت تربط منطقة الساحل وغربي سورية بمناطق الأناضول وأعالي بلاد الرافدين، والتي مرت من خلالها المراسلات والبضائع والجيوش بين حلب وماري في القرن الثامن عشر ق.م، عبر إيمار. وهي الطريق التي يفترض أن الملك الأكادي نرام ـ سين سلكها عند زحفه على أرمان(حلب) وإبلا، والطريق المفضلة لدى الملوك الآشوريين الذين اجتازوا الفرات عند تل أحمر(بارسِب) في مسيرهم إلى سورية. وقد ظلت هذه الطريق مستخدمة خلال العصر الروماني حيث كانت المنطقة تؤلف مع حوض قويق جزءاً من إقليم خالكيس (قنسرين)، على الرغم من عدم وروده في مصور بوتنغر[ر] المعد لضباط الجيش الروماني. وهي الطريق نفسها التي سلكها المؤرخ اليوناني إكسينوفون Xenophon عام ٤٠١ ق.م مع جيش قورش الأصغر في مسيره نحو بلاد الرافدين قادماً من كيليكية وعابراً نهر عفرين أو قويق، ثم يجتاز نهراً يبلغ عرضه نحو ٣٠ متراً، ولا شك في أنه هو نهر الذهب الذي ذكره لاحقاً ياقوت الحموي باسم « بُطنان الذي ينصب من الجبل ثم يجمد مالحاً». ولاشك في أن أهمية الطريق بقيت على حالها خلال العصر البيزنطي حيث كانت بلدة الجبول موقعاً محصناً ومركز مطرانية منذ ٣٢٥ ميلادي، فيما أصبحت خلال العصر المملوكي مركزاً للقضاء.
منطقة الجبول |
سلك هذه المنطقة لاحقاً عدد من الرحالة، ومنهم الكونت دو بورتويس De Perthuis عام ١٨٦٦م، والذي أشار إلى خطورة الطريق وتعرض المسافر عند اجتيازه المنطقة من حلب إلى مسكنة عبر السفيرة والجبول؛ للسلب والنهب. كما ارتادها الرحّالان ساره Sarre وهرزفيلد Herzfeld، في عام ١٩٠٧/١٩٠٨م، ورسما لها مصوراً ووصفاها بدقة وسمياها بالدرب السلطاني، وذكرا تل «أبو ضنة» أول محطة على هذه الطريق بعد حلب.
المسوحات الأثرية:
من أقدم أعمال المسح الأثري التي جرت في المنطقة كانت تلك التي أجراها البريطاني ماكسويل- هيسلوب Hyslop - Maxwell برعاية المدرسة البريطانية للآثار في القدس ومعهد الآثار في جامعة لندن. وقد شمل المسح منطقة واسعة تمتد من حلب إلى منبج ومسكنة، كشف من خلاله عن ١٠٩ تل أثري، يركز أغلبها على ضفتي نهر الذهب الشرقية والغربية، مع توضع عدد قليل منها جنوبي حلب مباشرة. وتبين له من خلال دراسة الفخار السطحي أن سكن المنطقة يعود إلى عصري البرونز والحديد، ولم تلحظ الدراسة وجود فترات انقطاع أو تغير مفاجئ في سكن سهل الجبول.
في عام ١٩٨٣ أجرى ك. هازه C. Hasse مسحاً أثرياً في منطقة جبل الحص (جنوبي البحيرة) عثر من خلالها على عدد كبير من المواقع الأثرية التي تعود إلى عصر حلف والعصور البرونزية والرومانية والبيزنطية، علاوة على عدد من المدافن الميغاليتية (دولمن).
مدفن من موقع تل أم المرا |
وفي أيار عام ١٩٩٦ أجرت البعثة الهولندية الأمريكية التي تنقب في تل أم المرا؛ مسحاً أثرياً للمنطقة المحيطة بالتل الواقع وسط سهل الجبول، وقد شمل المسح المنطقة الممتدة من مجرى نهر الذهب إلى ضفة نهر الفرات شرقاً، ومن الشاطئ الشمالي والشرقي لبحيرة الجبول إلى تلال المنحني المنخفض، والمحيطة بالسهل، أي ما مساحته نحو ١٠٠٠كم٢. وكان الهدف من المسح هو دراسة المواقع الأثرية الموجودة في المنطقة وتوثيقها، ومعرفة التبدلات البيئية الحاصلة وتأثيرها في الأراضي الزراعية وقيام المستوطنات عليها. ومع أن مشروع المسح لم يستكمل إلا أن البعثة عثرت في الموسم الأول على ١٤٥ موقعاً أثرياً. وأظهرت الدراسة أن بداية السكن في سهل الجبول كان في عصر النيوليت الفخاري، ثم عصر حلف، أما في منتصف الألف الثالث فقد تطورت المجتمعات المدنية في المنطقة وأصبحت تابعة لمملكة إبلا. وفي بداية الألف الثاني ق.م وبعد فترة من التغيرات أصبحت المنطقة جزءاً من مركز سياسي واقتصادي قوي هو مملكة يمحاض Yamkhad وعاصمتها حلب. أما في عصر البرونز المتأخر وعصر الحديد فقد أصبحت المنطقة تتبع لقوى كبرى هي المملكة الميتانية والمملكة الحثية ثم المملكة الآشورية الحديثة والبابلية الحديثة والأخمينية. كما بينت الدراسة أن منطقة الجبول كانت غنية بالنباتات والغابات والحيوانات البرية التي كان من أهمها الخيول والحمر الوحشية والغزلان علاوة على بعض قطعان الفيلة. أما استثمار الملح في المنطقة فقد تم إثباته منذ العصر الهلنستي والروماني ثم البيزنطي على الشاطئ الشمالي والجنوبي الغربي من البحيرة كما يرد في نصوص كتابية منسوبة إلى أثاناسيوس الأول (سائق الجمل) وهو ناسك دير قنسرين. ويثبت ذلك العثور على بناء مستطيل الشكل له جدران رقيقة (٦٠سم) كان يستخدم لاستخراج الملح ويرجح أنه يعود إلى هذه المرحلة.
وفي عام ٢٠٠٣ أجرى ج. ريجو J. Rigot دراسة مورفولوجية في منطقة الجبول تضمنت مسحاً أثرياً للمنطقة الواقعة جنوب البحيرة وغربها، استدلّ من خلاله أيضاً على عدد من المواقع الأثرية يعود معظمها إلى عصري البرونز والحديد. كما بدأ الألماني كاي كولماير Kay Kohlmeyer عملية مسح أثري في المنطقة الواقعة بين حلب ونهر الذهب، ضمن مشروعه الذي يتضمن مسح المنطقة الواقعة في محيط حلب حتى مسافة 30 - 35 كم. وكانت النتيجة الأبرز أن منطقة حلب شهدت كثافة في الاستيطان خلال مختلف العصور التاريخية القديمة مع وجود مساحات واسعة ضمن المنطقة الممسوحة خالية من أي مستوطنة ترجع إلى ما قبل العصر الهلنستي.
التنقيبات الأثرية:
اقتصرت أعمال التنقيب في المنطقة على بضعة مواقع أهمها تل «أبوضنة» وتل أم المرا، فيما عُثرَ مصادفة على العديد من اللقى المهمة في المنطقة أشهرها ثلاثة أجزاء من نقش آرامي عثر عليها بدءاً من عام ١٩٣٠ في منطقة السفيرة (٢٦ كم جنوب شرقي حلب)، ويعود تاريخه إلى منتصف القرن الثامن ق.م وموضوعه معاهدة بين برغاية ملك كتك ومتع إيل ملك أرفاد. ويعد تل «أبو ضنة» [ر] المحطة الرئيسة الأولى على الطريق التجارية المتجهة من حلب إلى مرفأ إيمار(مسكنة) على الفرات؛ نقبت فيه بعثة أثرية بلجيكية بين عامي 1975 و1983، وكشفت عن مدينة لها سور منحدر بُني في النصف الأول من الألف الثالث ق.م، وجُدد في الألف الثاني ق.م، لكن بداية السكن فيها كان في الألف الرابع ق.م، واستمر خلال عصور البرونز المختلفة وعصر الحديد حتى العصر الروماني. أما تل أم المرا [ر] فتأتي أهميته من وقوعه وسط السهل في منتصف المسافة بين حلب والفرات على الطريق التجارية القديمة. وقد جرت فيه أهم التنقيبات في منطقة الجبول وأوسعها حتى الآن، فعملت به أولاً البعثة البلجيكية نفسها التي كانت تعمل في «أبو ضنة»، بين عامي ١٩٧٥ و١٩٨٣م، وتوصلت إلى أن الموقع كان مركزاً إقليمياً يتبع لمملكة إبلا ومحطة أساسية على الطريق التجارية التي تربط الفرات بحلب وصولاً إلى الساحل السوري غرباً. ثم تابعت العمل بعثة هولندية أمريكية مشتركة بدءاً من عام ١٩٩٤ بهدف دراسة نشأة التجمعات العمرانية في منطقة الجبول وتطورها خلال العصر البرونزي[ر]؛ حيث كان الموقع محاطاً بتحصينات وأسوار وبوابات، وفيه مبان عامة ومنازل وحواصل لتخزين الحبوب. وأهم ما عثر عليه المجمع الجنائزي وبجواره منشآت خاصة بالأضاحي وأخرى احتوت على هياكل عظمية لبشر ولحيوانات من بينها جراء وحمير عادية وحُمر وحشية آسيوية onagers، وللخيليات equids الهجينة من هذين النوعين. ولهذا الكلام أهميته نظراً لأن نصوصاً مِنْ إبلاEbla ومن مواقع أخرى تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد أشارت في كثير من الأحيان إلى نوع محيّر من الخيول وتسمّى كنغا، وورد ذكره بصيغة «أنسه. بار.أن». Anse-Bar. An؛ هي نوع من الخيول التي كَان لها قيمة كبيرة جداً عند أرستقراطيةِ سورية وبلاد ما بين النهرين، لأنها كَانت تُستَخدم في جر عرباتِ النخبةِ؛ وربما يكون وجود حيوان «الكنغا» في أم المرا هو أول برهان أثري على وجودها في المنطقة. إن دفن هذه الحيوانات ذات الشأن الرفيع في هذه المنشآت يدل على أهمية الشخصيات المدفونة بجوارها، والمنزلة الاجتماعية الرفيعة لهم، وربما كانوا من أفراد الأسر المحلية الحاكمة.
بدأت أهمية مواقع منطقة الجبول بالتضاؤل مع نهاية الألف الثالث ق.م لأسباب غير مؤكدة، وربما كانت التغيرات البيئية التي أصابت المنطقة جزءاً منها، فتقلص الاستيطان إن لم يكن قد انتهى كلياً، قبل أن يعود ليشهد مرحلة جديدة من إعادة الأعمار خلال عصري البرونز الوسيط الأول والثاني، وربما كان هذا النهوض مقترناً بانضمام المنطقة إلى مملكة يمحاض القوية والقريبة. وخلال هذه الفترة وجدت في أم المرا أبنية تحتوي على الكثير من الرماد والنفايات تضمنت عظام حيوانات كان من أهمها الحمير والغنم والماعز والغزلان والكلاب والخنازير والحمر الوحشية والطيور. وقد أوضح تحليل هذه العظام أن صيد حيوانات الحمر الوحشية في المناطق الواقعة إلى الشرق من أم المرا كان عاملاً مهماً في اقتصاد المنطقة.
أما في أثناء العصر البرونزي المتأخر ١٦٠٠- ١٢٠٠ق.م فقد كانت منطقة غربي سورية تمر بتعاقب نفوذ الممالك المصرية والحثية ثم الميتانية.
خلال العصر الحديدي[ر] هجر الموقع مع وجود استيطان بسيط في العصر الأخميني٥٣٩-٣٣٣ق.م، لكنه عاد ليشهد كثافة بالسكن خلال العصر الهلنستي، دل على ذلك الأبنية المنتشرة في كل أرجاء الموقع، مما يشير إلى حالة من الاستقرار والازدهار في المنطقة. أما خلال العصر الروماني فلا وجود إلا للقليل من البقايا المعمارية التي يرجع معظمها إلى أواخر القرن الأول بعد الميلاد.
محمود حمود
مراجع للاستزادة: - رولان تفنان، «الذهب والملح، مذكرة عن البيئة الطبيعية في منطقة من سورية القديمة»، تعريب: عدنان البني، الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلدان ٢٧/٢٨، دمشق١٩٧٧-١٩٧٨، ص ص٣٥٧-٣٦١. -H. Curvers, G. Schwartz, Urban Origins, Collapse and Regeneration in the Jabbul Plain,(AAAS,Vol. 45-46), Damas, 2002/ 2003 , pp. 75-83, - Sarah Yukich, Spatial Dimensions of Social Complexity: Environment, Economy, and Settlement in the Jabbul Plain, 3000-550 BC, (Maryland, 2013). - Hans Curvers, and Gleen Schwartz, “Umm El-Marra, a Bronze Age Urban Center in the Jabbul Plain, Western Syria”, American Journal of Archaeology, 101, 1997, pp. 201- 227. |
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :