الأناضول (بلاد) في عصور ماقبل التاريخ
اناضول (بلاد) في عصور ماقبل تاريخ
Anatolia -
الأناضول (بلاد -)
الأناضول في عصور ما قبل التاريخ
نظير عوض
الأناضول كلمة يونانية الأصل مشتقة من Anatolia، وتعني الشرق، وهي منطقة جغرافية تشكل شبه جزيرة جبلية تقع في أقصى غربي قارة آسيا على البحر المتوسط، وتضم حالياً معظم الأراضي التركية، وتعرف بآسيا الصغرى حيث يحدها من الشمال البحر الأسود، ومن الجنوب البحر المتوسط وبحر إيجة من الغرب. تبلغ مساحة هضبة الأناضول الجبلية 280.000كم2 حيث ترتفع تدريجياً من الغرب 800م إلى الشرق لتصل إلى 1300-1500م عن سطح البحر في الشرق.
تعد هضبة الأناضول نواة تركيا من الناحية الجيولوجية والتضاريسية، وتتكون من قاعدة جبلية التوائية صلبة قاومت الحركات الالتوائية الحديثة مما أدى إلى تغيير اتجاهها وإعطائها الشكل القوسي، وهي محاطة بجبال وسلاسل التوائية فتية ومنها جبال طوروس في الجنوب إضافة إلى انتشار الجبال الجزرية في جنباتها وبارتفاعات تراوحت ما بين 200- 600م والتي نجمت عن عملية حت الجبال القديمة. تعرضت الهضبة لتصدع في وسطها أدى إلى ظهور سهل واسع، كما أحدثت المياه التي تصب باتجاه البحر الأسود تأثيراً حتياً في الجزء الشمالي منها فحولته إلى شبه سهل تناثرت فيه مجموعة من التلال العالية، توضعت العاصمة أنقرة فوق إحداها. تغطي الصخور الجصية الجزء الجنوبي من الهضبة الذي تكثر فيه الصدوع والأغوار والبحيرات المغلقة حديثة التشكل كبحيرة آق شهر وإيفلين وتوزغولو، وهي أكبر البحيرات المالحة، وتبلغ مساحتها نحو 3600 كم2. كما تكثر الكتل والتلال البركانية في جنوب شرقي الهضبة ومنها جبل قرة واغ وأفيون قرة حصار وأرمياس (3196م)، وهو جبل تغطية الأحراج المتنوعة. ومن الكتل الجبلية الصلبة القديمة المنشأ كتلة جبل قزيل إراق إلى الشرق من بحيرة توز.
إن وجود الجبال التي تحيط هضبة الأناضول من كل الجهات جعلتها أكثر أقاليم تركيا جفافاً وأفقرها مياهاً؛ لأن الجبال جعلت منها منطقة مغلقة ويتزايد فيها الجفاف كلما كان الاتجاه إلى المركز حيث يصبح المناخ قاسياً فالشتاء بارد وجاف والصيف حار قائظ ومعدل التهطال فيها 200مم في الوسط يصبح على الأطراف 350مم-500مم. أمطارها ربيعية تمتد أحياناً حتى مطلع الصيف.
تميزت هذه الهضبة بأهمية تاريخية وأثرية منذ أقدم العصور، ومثلت معبراً مهماً ما بين قارة أوربا ودول المشرق العربي القديم والشرق الأقصى، وكانت ملتقى حضارات قديمة متنوعة وأقوام كثيرين مروا بها أثروا وتأثروا بسكانها، منهم الحثيون والميديون، ثم اليونان والرومان ثم العرب الذين فتحوا مناطق واسعة فيها، إلى أن ظهر الترك في القرن الثاني عشر الميلادي.
يعد نهرا دجلة والفرات اللذان يربطان هذه المنطقة المهمة ببلاد النهرين أهم العوامل الطبيعية والجغرافية التي ساعدت على حدوث تفاعل حضاري وثقافي مهم جداً بين بلاد ما بين النهرين مع هضبة الأناضول وذلك منذ أقدم العصور، فقد أكدت المعطيات الأثرية المكتشفة في مواقع ما قبل التاريخ في منطقة الأناضول أنها واكبت في تطورها الحضاري المواقع السورية العائدة إلى الفترة نفسها.
قطعة من فنون النيوليت الأناضولي من نيفالي شوري تصور مشهد صيد |
حتى مطلع التسعينيات كانت المعلومات الأثرية عن مجتمعات عصور ما قبل التاريخ في الأناضول قليلة وغير واضحة؛ وذلك لندرة المواقع المنقَّبة وقلة الدراسات الميدانية المختصة، لكن حصيلة السنوات العشر التي تلت كانت كافية لتسليط الضوء على أهم المواقع الأثرية والمستوطنات العائدة لفترة ما قبل التاريخ منذ العصر الحجري القديم حتى مطلع العصر الحجري النحاسي، وقدمت النتائج والدراسات معلومات مهمة عن مدى الترابط الوثيق والعميق لمواقع هضبة الأناضول بمثيلاتها من المواقع السورية.
إن تبادل شعوب المنطقة للخبرات والمعارف المختلفة من دون عوائق أدى على نحو ملحوظ إلى تنامي معارفها وثقافاتها وتطورها، وبالتالي سلوك هذه الشعوب الدرب نفسه للانتقال من مرحلة ما قبل التاريخ إلى المراحل التاريخية وطبع المنطقة بطابع حضاري واحد متشابه إلى حد بعيد في أدق التفاصيل الحياتية واليومية والمعاشية المتعلقة بالأنشطة المختلفة الزراعية والتدجين وتقنيات البناء وصناعة الفخار وتحضير الأدوات وصناعتها للاستخدامات المتنوعة، وكذلك أولى أشكال الفنون والطقوس والمعتقدات.
موقع غوبكلي تبه من عصور ما قبل التاريخ قبل الفخار وبعده |
كان لنهر الفرات الشريان الحيوي في المنطقة دور مهم في عملية التبادل والتطور المعرفي لشعوب المنطقة من أواسط هضبة الأناضول حتى أواسط سورية، وهيأ العوامل التي ساعدت سكان شرقي الأناضول على دخول الثورة الزراعية باكراً مع سكان الشمال السوري بخلاف سكان جنوبي الأناضول وغربه التي بقيت متأخرة حضارياً عن سكان شرقي الأناضول الذين دلت الأبحاث الأثرية على أن الزراعة وصلتهم في عصر النيوليت ما قبل الفخار B من سكان بلاد الشام ومن مناطق سورية تحديداً.
سكنت منطقة الأناضول على نحو مبكر منذ عصر الباليوليت الأدنى فالأوسط فالأعلى حيث ظهرت حضارات محلية في المناطق الساحلية جنوب غربي الأناضول مارست الصيد والالتقاط وصنعت أدوات دقيقة هندسية تشبه إلى حد بعيد الأدوات المكتشفة في مواقع بلاد الشام (الكوم - تدمر)، وأشهر هذه المواقع بلباشي [ر] Belbasi. كما ظهرت في السوية C لموقع بلديبي [ر] Beldibi المجاور الذي سكن بعد فترة انقطاع قصيرة أدوات حجرية تشبه الثقافة النطوفية [ر] التي مثلت في سورية في موقع الكوم (2)، وكانت شديدة الشبه بالمستوطنات الزراعية في شمالي سورية ومنطقة الفرات، ولم ترتبط بأي علاقة تطورية بالمستوطنات الساحلية جنوب غربي الأناضول المؤرخة بالفترة نفسها، وهذا ما عزز الاعتقاد بأن الثورة الزراعية وصلت إلى الأناضول بدءاً من الشمال السوري في عصر النيوليت ما قبل الفخار.
جدارية تصور ثوراً وغزالاً وشخوصاً بشرية كشفت في موقع جطل حيوك تعود إلى عصر النيوليت الفخاري (متحف الحضارة الأناضولية) |
ويمكن تحديد أربع مناطق في الأناضول تمثلت فيها ما يسمى بـ "النيوليت الأناضولي" كما يأتي:
> المنطقة الأولى هي جنوب - شرقي الأناضول، وتعد أقدم المناطق، ارتبطت بعلاقات حضارية بمنطقة المشرق وزاغروس، ومن أهم مواقعها:
> نيفالي شوري [ر] .Navali Cori
> غوبكلي تبه [ر] .Gobekli Tepe
> كفر هويوك .Cafar Hoyuk
وجميعها مواقع أرخت على عصر النيوليت ما قبل الفخار (PPNB) (B)، وقد ظهرت فيها بقايا معمارية مهمة وبيوت متطورة ومعابد وأرضيات لبعض البيوت من البلاط والموزاييك مارست الفنون ومعتقدات دفن الجماجم، كذلك مارست تجارة حجر الأوبسيديان والنحاس مع جيرانها.
> المنطقة الثانية هي المنطقة الوسطى في الأناضول، وأهم مواقعها: أزيكلي. قرى هذه المنطقة شديدة التنظيم، ضمت أبنية لها باحات وشوارع، وهي قريبة من مواقع الأوبسيديان الطبيعية الذي بادلته مع جيرانها بلاد الرافدين وبلاد الشام حتى قبرص.
> المنطقة الثالثة غربي الأناضول، وأشهر مواقعها حجيلار [ر] Hacilar.
اشتهرت مواقع هذه المنطقة بإنتاجها الفخار الملون خاصة، ويشير بعض الباحثين إلى أن النيوليت انتقل من هذه المنطقة إلى سواحل المتوسط.
> المنطقة الرابعة هي الشمال الغربي من الأناضول حيث تطورت هذه المنطقة النيوليتية بتأثيرات من غربي الأناضول، وأهم مواقعها إيلبينار Ilipinar، وهي مستوطنة بيوتها من اللبن والخشب، وأوانيها الفخارية تشبه أواني منطقة البلقان.
مع نهاية الألف السابع قبل الميلاد ومطلع الألف السادس ق.م انتشرت صناعة الفخار على نطاق واسع في الأناضول، وانتشرت المستوطنات التي صنعت مجمعاتها الفخار بكثرة، ولم يستطع البحث تأكيد فيما لو كان فقد التطور محلياً أو بتأثير من مواقع سورية .
يعد موقع جطل حيوك [ر] Çatal Hüyük من الأهمية بمكان في عصر النيوليت الفخاري وبمساحته البالغة 32 فداناً (13 هـ آ)، وقد يكون أضخم المواقع في الأناضول وسورية يقع في قلب جزيرة الأناضول على مرتفعات كونيا.
إن كثرة المواضيع الفنية والدلالات الرمزية في هذه المستوطنة أوحى أن جطل حيوك كانت مركزاً دينياً رئيسياً في المنطقة في ذلك العصر.
- التصنيف : عصور ما قبل التاريخ - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :