تنينير (تل-)
تنينير (تل)
Tuneinir (Tell) - Tuneinir (Tell)
تنينير (تل -)
عمار عبد الرحمن
يقع تل تنينير Tuneinir على الضفة الشرقية لنهر الخابور، على بعد ٣٠كم جنوب شرقي مدينة الحسكة، ويرتفع عن السهول المحيطة به نحو ٢٠م. وتبلغ مساحته ٤٦ هكتاراً، وللتل مدينة عليا ومنخفضة ترتفع الأخيرة نحو ٥م عن الأرض المجاورة، وتبلغ أبعاد التل ٢٥٠×٣٠٠م.
تكرر الاستيطان في موقع تنينير في عدة طبقات أثرية، وكانت البقايا المعمارية دلائل مؤكدة على استيطان من الفترتين البيزنطية والإسلامية. ويمكن الاستدلال على عصور أخرى في الموقع من خلال اللقى الأثرية. فقد عثر على كسر فخارية حملت نقوشاً قديمة تعود إلى الفترة الآشورية الحديثة، ولكن أقدم استيطان عرف في التل يعود إلى عصر حلف بدلالة الفخار الحلفي الملون الذي كشف عنه في بعض الحفر العميقة.
المخطط الطبوغرافي لموقع تنينير وعليه مناطق التنقيب |
جرت عمليات التحري والكشف في تل تنينير في ثلاث مناطق رئيسة هي: المرتفع الواقع في شمالي الموقع (منطقة ١-٢ بحسب ترميز المنقبين)، والمنطقة المنخفضة في جنوبي الموقع (منطقة ٤-٥-٦-٧-٨)، والأخيرة تقع خارج حدود الموقع وإلى الشرق من المرتفع وهي (المنطقة ٣). وأسفرت هذه التنقيبات عن اكتشاف منشآت معمارية لمدينة مهمة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وعلى نحو رئيسي في الفترة الأيوبية، والتي غطت منشآتها شمالي التل وجنوبيه وسوف يأتي تفصيلها لاحقاً.
مخطط منزل في المنطقة I | مخطط الكنيسة |
وقد ضمت المنطقة (٣) آثاراً من العصر البيزنطي تجلت بكنيسة يعود تاريخها إلى الفترة البيزنطية، وأبعادها ١٨×٢١م باتجاه شرق –غرب. وتتألف هذه الكنيسة من مدخل في الجهة الغربية، يؤدي إلى صحن الكنيسة الذي تبلغ أبعاده ٨,٥، ١٠,٤ م، ويتألف من بهو كبير (مصلى) يتسع لنحو مئتي شخص، وهو مقسوم بأعمدة لتخصيص مكان للرجال وآخر للنساء، ويؤدي هذا المصلى إلى الهيكل حيث توجد حنية الكنيسة في الجهة الشرقية. ويوجد غرفتان في الجهة الشرقية الجنوبية إحداهما مخصصة للعمادة والكاهن، أما الأخرى فعلى الأرجح أنها تنتمي إلى كنيسة ملاصقة مفتوحة لم تكتشف ملامحها بعد. وتوجد غرفتان في الجهة الشمالية الشرقية إحداهما تحتوي على قبر أحد القديسين، ويعتقد أن الفراغ الكبير الذي يلي المدخل في الجهة الغربية كان مخصصاً لوقوف الأشخاص غير المقبولين من قبل الكنيسة لأنهم غير معمدين.
تتميز هذه الكنيسة بالزخارف الجصية والرسوم الملونة التي زينت الجدران الداخلية فوق المدخل وبين المصلى وقدس الأقداس، ومن أهمها الزهور حيث تضم كل واحدة منها أربعة تويجات. كما دلت آثار الزيت في الجهتين الشرقية والغربية على وجود ثلاث ثريات تضاء بالزيت، أما في الزاوية الشمالية الغربية فقد عثر على بقايا ثلاث جرار لحفظ الخمر المستخدم في الطقوس الدينية.
جزء من عنق جرة من نموذج حب (القرن 13 ميلادي) |
إن المتابعة الدقيقة لتاريخ الكنيسة في الفترة البيزنطية غير ممكنة، ولكن بعض اللقى التي كشف عنها في بئر موجودة بجانب المدخل أظهرت معلومات مهمة، وهي مصباحان زجاجيّان وكأس ذات ساق من الزجاج طولها ١٧.٨ سم يعتقد أنها لاستخدام ديني، تم تأريخها بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين. كما بينت كتابات على بعض الأواني الفخارية والزخارف الجصية أن رواد هذه الكنيسة كانوا يتحدثون السريانية والعربية، وقد ظلت هذه الكنيسة مستخدمة خلال الفترات الأموية والعباسية (الأيوبية) جنباً إلى جنب مع المسجد. وهذا يشير إلى التسامح الديني خلال العصر الإسلامي.
إن تاريخ الكنيسة له ما يؤكده من مقارنة العمارة -فهناك تشابه مع عمارة كنيسة مشابهة في دورا أوروبوس من القرن الثالث الميلادي- مع الكنائس الأرثوذكسية عموماً في الجزيرة السورية، التي يبدو أنها حافظت على هذا الطراز حتى وقت متأخر.
كما عثر على دير في الجهة الجنوبية الغربية من التل يعود تاريخ بنائه إلى بداية العصر العباسي جدرانه من الحجر، وله مدخلان في الجهتين الغربية والجنوبية. يضم كنيسة وغرفة المعمودية كما هو معروف، وكذلك وجدت مقبرة مخصصة لرجال الدين المسيحيّين. وجُهز هذا الدير بمعصرتي خمر وورشة لصنع الفخار. كما حملت بعض الكسر الفخارية كتابات عربية وآشورية وسريانية.
مشهد المنطقة I خلال الأسبوع الأول من الحفريات صيف ١٩٨٧ | المنطقة I مشهد باتجاه الجهة الجنوبية |
ضمت قطاعات التنقيب في الجهة الجنوبية من الموقع عدة منشآت دينية وتجارية، ويبدو أنها أنشأت بشكل منظم أهمها: الحمام والخان والسوق التجاري. أما المسجد فإنه يقع في القطاع الرابع؛ وهو ملاصق للجهة الشمالية للخان، ولم يكشف منه سوى المحراب والجدار الحجري الذي يضمه والجدار المقابل له. وقد زين أعلى المحراب بلوحة جصية دائرية تحمل كتابة بخط الثلث المجدول «رب العالمين»، وقد أحيط المحراب بأربع كوى عثر في اثنتين منها على لوحتين كتبتا بالخط الكوفي للآيات الأولى من سورة الفاتحة. أما الجدار المقابل للمحراب فقد زين بلوحة مشابهة لمثيلتها فوق المحراب وكتب عليها «رب العالمين»، وقد احتوى هذا المسجد على تزيينات كثيرة وجدت آثار بعضها على أرضية المسجد.
يوجد في القطاع الخامس حمّام عام يتسع لقرابة أربعين شخصاً، وقد بني من الحجر البازلتي، ويتألف من فسحة كبيرة تليها غرفتان دافئتان، ثم أربع غرف حرارتها أعلى، وقد جهز الحمام بمرجل لتسخين الماء وبئر ليزوده بما يحتاج من الماء.
وفي هذه المنطقة بالقرب من المسجد كشف عن خانين أحدهما كان مخصصاً للفقراء وسعته كبيرة تصل إلى مئتي شخص، وثانيهما أقل اتساعاً وكان مجهزاً للأشخاص الأثرياء، وقد تميز بتزيينات وفن معماري لم يتواجد في عمارة سابقه، كما كثرت اللقى الموجودة من أوانٍ فخارية وزجاجية ونقود.
أربع قطع نقدية من الفضة وجدت في المنطقة II |
واحتوت المنطقة ذات الرقم ستة (بحسب ترميز المنقبين)- شمالي المنطقة ذات الرقم أربعة- على سوق تجارية أسست على نحو مدروس ولها مخطط شبكي تتجه شوارعها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، ولها مداخل متقنة وواضحة، وقد استخدم الحجر الكلسي والمونة في البناء. ويشير عدد الحوانيت المكتشفة التي تصل إلى مئة إلى ضخامة التعامل التجاري خلال الفترة الأيوبية الذي وصل إلى سنجار وميا فارقين والموصل وحران وحلب ومصر وأرمينيا. وقد ضمت هذه الحوانيت مهن مختلفة مثل الجزار والخباز والنساج والخزاف وبائع الطعام. وكذلك حوانيت مخصصة للمجوهرات والأواني الزجاجية الفاخرة.
واحتوت المنطقة ذاتها (رقم أربعة) على ورش إنتاج للاحتياجات اليومية من فخار وأدوات معدنية؛ فقد تم الكشف عن فرن ذي مدخنة عمودية وحفرة لتصنيع الفخار ومستودع ضم وأوانيَ وكؤوساً وجراراً وكلها مصنوعة من الفخار الأحمر الفاتح.
كما عثر في المنطقة ذات الرقم ثمانية على ورشة أخرى لتصنيع الفخار، ومن أهم اللقى الفخارية جرة فخارية من الفخار الأخضر الفاتح تحمل كتابة عربية تدل على صناعتها في تل تنينير، وربما يوجد صلة بين اسم هذا التل « تنينير» ووجود العديد من التنانير اللازمة لتصنيع الخبز والأدوات الأخرى. كما عثر على ورشتي تصنيع للأدوات المعدنية في المنطقتين أربعة وستة، وعلى العديد من المناشير لقطع الأشجار والسكاكين ورؤوس السهام والسيوف القصيرة والمسامير كبيرة الرأس المستخدمة في تزيين الأبواب.
سراج فخاري | كأس من الزجاج من المنطقة III |
تؤلف المساكن العامة قسماً مهماً من المدن الإسلامية، وفي تل تنينير غطت المساكن الأيوبية أغلب المناطق. وتعد المنطقتان الأولى والثانية الأكثر حفظاً لها، فقد بنيت هذه المساكن من اللبن وفي حالات خاصة من الحجر والمونة إذا كانت تخص أغنياء المدينة. وقد كان مخطط بناء المنازل نوعين؛ الأول وهو الأكثر شيوعاً يتألف من غرفة واحدة وربما من اثنتين، وتضم الغرفة الأساسية خزانة من أجل وضع الفرش والأغطية والسلاح، وموقداً في إحدى الزوايا على مصطبة جصية لتوفير التدفئة والغذاء، وكانت أرضيات البيوت البسيطة من التراب المدكوك الممزوج مع القش.
عثر على الكثير من اللقى في المنازل الأيوبية، مثل الأباريق غير المطلية والجرار الكبيرة للتخزين وأوانٍ زجاجية وكاسات الخمر ، وربما كان أهمها عنق جرة كبيرة مطلية زخرفتها غنية بأشكال منحوتة أو نافرة تمثل أشكالاً تجريدية ونصفية لأسود ونساء. ويطلق على هذا النوع اسم حب (HABB) وهو معروف في مواقع معاصرة عديدة في العراق وتركيا.
أما النوع الثاني من البيوت فكان بالتصميم العام نفسه ولكن مع إضافة فسحة سماوية، وبعض الغرف الأخرى. وكانت مادة بنائها في البيوت العادية من الحجارة والمونة.
أما آخر طبقة سكنى في تل تنينير فإنها تعود إلى الفترة المملوكية الأولى حيث كان الاستيطان أقل كثافة من الفترة الأيوبية، وقد كشف عن منزلين في قمة التل يعودان لهذه الفترة وقد أسست هذه المنازل بالأحجار.
وهجر الموقع جزئياً بعد الغزو المغولي في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، ثم هُجِر تماماً مع غزو تيمورلنك بداية القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي.
مراجع للاستزادة: - ميشيل فوللر، «تل تنينير المطل على الخابور»، ترجمة رامز حوش في الحوليات الأثرية العربية السورية، مج 38-39، 1988-1989، ص ص. 257-261، - مشيل فوللر ونيثري فوللر، «العمارة في العصر الأيوبي والفنون والحرف في تل التنينير»، في الوثائق الأثرية السورية مج 1، المديرية العامة للآثار والمتاحف، 2002م، ص ص.277-279. |
- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :