تصوير اسلامي
-

التصوير الإسلامي

غزوان ياغي

 

 

يُعرف التصوير بأنه الرسم بالألوان أو تمثيل شيء عن طريق الخرط؛ أي بوساطة الكتل والأحجام، ويتفق الدارسون على أن التصوير الإسلامي يُعدّ أحد الأنواع المهمة للفنون الإسلامية التي تشكل بدورها جزءاً مهماً من الآثار الإسلامية، حيث يقدم التصوير معلومات مهمة، ويسجل الكثير من الأحداث اليومية والتاريخية الناجمة عن ذلك التفاعل الخلاق بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، وهذا ما يظهر في الآلاف من المشاهد التصويرية التي وردت في الصور الجدارية على الفريسك أو الفسيفساء وكذلك في صور المخطوطات الإسلامية التي تشكل أهم ميادين التصوير في الحضارة الإسلامية، حيث كان لتزويق المخطوطات بالصور الملونة على الكتب (المنمنمات) الأدبية المختلفة- مثل دواوين الشعر والسِّير والقصص وكتب التاريخ والجغرافيا، والكتب العلمية مثل كتب النبات والبيطرة والعقاقير والفلك والحيل (الهندسة) وغيرها- الدور الكبير في لفت نظر الدارسين لأهمية التصوير الإسلامي؛ فقدم العديد من الباحثين الأوربيين مؤلفات مهمة، مثل كتاب «تصوير المنمنمات في الشرق الإسلامي» Miniaturmalerei im Islamischen Orient لكونل Kuhnel سنة 1923م، وقدم أرنولد Arnold سنة 1928م كتابه «التصوير في الإسلام» Painting in Islam، أما بلوشيه Blochet فقد ألّف كتاباً سنة 1929م بعنوان «التصوير الإسلامي» Musulman Painting؛ ليقوم بعد ذلك الباحث زكي محمد حسن سنة 1936م بوضع كتابه: «التصوير في الإسلام عند الفرس» الذي صدر في القاهرة، وتلاه كتاب المرحوم حسن الباشا بعنوان: «التصوير الإسلامي في العصور الوسطى» الذي صدر في القاهرة سنة 1959م. وتلا ذلك العديد من الكتب الأخرى المهمة لرايس Rice وثروت عكاشة و»أبو الحمد فرغلي» وغيرهم ممن ساهم في التعريف بهذا الفن وإعطائه ما يستحقه من الأهمية.

صورة الساعة التي رسمها ابن صانعها رضوان وكانت خارج باب المسجد الأموي الشرقي بدمشق

تشير الدلائل إلى أن العرب قبل الإسلام عرفوا التصوير سواء في مكة أم في يثرب، ومارسوه على الرغم من قلة الإنتاج الفني، فقد صنع بعض العرب في مكة التماثيل، وصوروا الصور على جدران الكعبة، مثل صور بعض الآلهة والأنبياء كإبراهيم وإسماعيل وعيسى ومريم. كما عرف العرب بعض من زاولوا صناعة التماثيل والصور، ومنهم شخص كان يدعى «أبا تجزأة». وقد أثر الموقع الجغرافي للجزيرة العربية - الذي يتوسط حضارات قديمة عرفت التصوير ومارسته- في العرب الذين احتكوا بشعوبها عن طريق التجارة؛ ولا سيما اليمن والشام (رحلة الشتاء والصيف)؛ مما زاد من معارفهم، وساهم في عنايتهم به.

ومن الآلهة التي كان لها تماثيل في مكة ذو الخلصة وهبل والجلساد، وكانوا أوثاناً بهيئة آدمية. وهناك آلهة أخرى على هيئة حيوانية مثل يعوق التي كانت بصورة فرس، ويغوث وكانت بصورة أسد، ونسر وكان بصورة نسر. وقيل: إنه كان بالكعبة 365 صنماً، ويؤكد الأزرقي في كتابه «أخبار مكة» أن الكعبة عندما أُعيد بناؤها قبل الإسلام زوِّقت دعائمها وسقفها وجدرانها من الداخل بصور لبعض الأنبياء والملائكة والشجر.

صورة العالم الفلكي تقي الدين الراصد مع علماء الفلك في مرصد إسطنبول في القرن 10 هـ/ 16مصورة سورة الفاتحة بالخط النسخي في العصر السلجوقي

يذكر الأزرقي أن رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة أمر بالتماثيل فحطمت؛ وبالصور فمُحيت. وقد عدّ كثير من المسلمين ذلك دليلاً على تحريم التصوير في الإسلام.

وقد كان لموقف الإسلام من التصوير آثار، منها:

1- لم يعرف العصر الإسلامي بلوغ المصورين مرتبة عالية وشيوع أسمائهم مثل الشعراء والمفكرين والخطاطين ومثلما كان بالنسبة إلى أقرانهم من الحضارات الأخرى، ولم يصل عنهم على الرغم من كثرة كتب الطبقات في الحضارة الإسلامية سوى كتاب واحد؛ ذكره المقريزي في خططه، وهو «ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس»، تأثر بذلك أيضاً عمل المصورين أنفسهم، فأصبح دورهم يأتي بعد الخطاط والمذهّب أي إن الخطاط كان يقوم بنسخ المخطوط، ويترك مساحات بيضاء للمصور الذي يشرع في توضيح نصوص المخطوطات بالصور في حدود ما يتركه له الخطاط من مساحة في صفحات المخطوط، ومن ثم يندر العثور على توقيعات للمصورين في المخطوطات الإسلامية قبل القرن 7 هـ/13م تقريباً، وعليه فإن فن التصوير الإسلامي لم يحظَ بما حظي به غيره من الفنون الإسلامية الأخرى من عناية ورعاية، فلم يحرص الناس على المحافظة على إنتاج المصورين؛ مما أدى إلى قلة تنوع منتجاتهم وطرق صناعتهم، ونتيجة لذلك صارت دراسة هذا الفن حتى نهاية القرن 7هـ/13م تتم في ضوء الإنتاج من دون العناية بالمصورين الذين أغفلوا توقيعاتهم.

2- لم يستخدم التصوير الإسلامي لخدمة الدين، ولم يتخذ وسيلة للإرشاد والتهذيب وتعليم الدين كما كان في الفن المانويّ والفن المسيحيّ، فجاء مدنياً في طابعه ينظر إليه بوصفه فنّاً من فنون الدنيا لا عملاً من أعمال الآخرة؛ ومن ثم كان أقرب من غيره إلى الفكرة الفنية الخالية (الصرفة) كما صار ميدانه الحياة الدنيا بما فيها من مناظر طبيعية وحوادث إنسانية وأعمال يومية.

صورة الغلاف الخارجي لمصحف في مكتبة السلطان أحمد - إسطنبولالتصوير على صحن خزفي من إزنيق /تركيا في نهاية القرن 10هـ/16 م
التصوير الملون في قباب جامع أحمد باشا - إسطنبولالتصوير الملون في قباب جامع السليمانية - إسطنبول

3- جاءت الصور الإسلامية بعيدة عن محاكاة الطبيعة والتجسيم عن طريق إهمال الظل والنور وقواعد المنظور أو البعد الثالث في رسوم صوره، وعدم مراعاة النسب التشريحية في الرسوم الآدمية والحيوانية؛ فجاءت هذه الرسوم محورة، أدّى الخيالُ بها دوراً واضحاً، ويغلب عليها الطابع الزخرفي. وعلى الرغم من أن هذه الصفة تُعدّ اليوم بحسب المقاييس الفنية العالمية عيوباً؛ فقد أعطت التصوير الإسلامي شخصية مميزة بين تاريخ الفنون الأخرى.

4- وكنتيجة لكل هذا فقد انصرف الفنانون المسلمون إلى إتقان الزخارف النباتية والهندسية والخطية، فبرعوا في الزخارف النباتية التي قوامها الفروع النباتية المتماوجة بأوراقها المكونة من مراوح نخيلية وأنصاف مراوح نخيلية، فأطلق عليها الغربيون الأرابيسك [ر]؛ أي التوريق كما برعوا في الزخارف الهندسية وأشكالها من مربع ومستطيل ودائرة ونجمة حتى استنبطوا الطبق النجمي بأضلاعه المتعددة بصورة لم تسبق في فن من الفنون قبل الإسلام، وكذا صار للزخرفة الخطية مكانتها المرموقة؛ إذ خص الإسلام الخط برعايته لوثيق صلته بالدين الحنيف، وكل ذلك على حساب الابتعاد عن تصوير الكائنات الحية ما أمكنهم ذلك ومن دون أن يعني ذلك عدم ظهور مدارس إسلامية مختلفة في التصوير كان لكل منها مميزات وخصائص عرفت بها.

صورة طغراء السلطان سليمان القانوني في متحف توب كابي - إسطنبول

ومن الثابت تاريخياً أن الأمويين (41 - 132هـ/661 - 750م) عنوا بالتصوير، وجملوا به عمائرهم وتحفهم، واستخدموا مصورين استدعوهم إلى سورية من مختلف الأقطار التابعة لهم، ويُرى ذلك واضحاً على التحف التطبيقية المختلفة وكذلك على جدران المباني المدنية والدينية مثل صور الفسيفساء في قبة الصخرة [ر] 72هـ/691م بالقدس والصور في الجامع الأموي [ر] 96هـ/715م بدمشق حيث جاءت الصور خالية من الكائنات الحية بخلاف صور الفريسك التي ظهرت على العمائر المدنية التي ظهر بها تصوير كائنات حية كما في قصير عمرة [ر] 92-96هـ/711-715م وكذلك في قصر خربة المفجر [ر] وقصر الحير الغربي[ر] اللذين ينسبان إلى الخليفة هشام بن عبد الملك (105 - 125هـ/724 - 743م).

ومن الواضح أن التصوير الأموي قام على عاملين أساسيين مهمين، هما:

- توجيهات التشريع الإسلامي القاضي بالابتعاد عن تصوير ما فيه روح، وقد تجلى ذلك بصور قبة الصخرة والجامع الأموي.

- الإرث الفني السوري الذي كان قائماً أمامهم والمتمثل بما أنتج في فنون العصور الكلاسيكية، حيث الميل إلى تصوير الإنسان والحيوانات بأنواعها وهذا ما عثر عليه في أبنيتهم المدنية مثل قصير عمرة وخربة المفجر والمشتى وغيرها مما خلفوه في البادية السورية.

أما العامل الثالث الذي أثّر في التصوير الإسلامي في هذا العصر والعصر العباسي الذي تلاه 132 - 656هـ/750 - 1258م؛ فهو التأثر بالتقاليد الفنية الساسانية التي نافست التقاليد الفنية السورية، وتغلغلت تدريجياً لتظهر على قدم المساواة مع التأثيرات السورية قبل الإسلام في صور قصر الحير الغربي، ثم لتسيطر على الطابع الفني للصور الجدارية التي ظهرت في جناح الحريم بقصر الجوسق الخاقاني في مدينة سامراء 221هـ/836م بالعراق، الذي يتفق على عدّ صوره هذه ذات شخصية إسلامية لم تلبث أن شاعت وصارت من المميزات المهمة للتصوير الإسلامي الذي نضجت خصائصه وصفاته بعد فترة وجيزة؛ لتكتمل شخصيته بمساهمات مختلفة من الشعوب الإسلامية المختلفة عبر قرون الحضارة الإسلامية المعروفة.

وقد سار الدارسون في منهج دراسة التصوير الإسلامي بالتركيز وبصفة أساسية على دراسة التصاوير التي زينت الكتب والمخطوطات أو التي وضحت نصوصها والتي جمعت من قبلهم في «ألبومات» سميت أحياناً «مرقعات».

ويتضح من خلال هذه الصور أنها تنقسم إلى نوعين رئيسيين:

النوع الأول: يضم التصاوير التي رسمت لتوضيح الكتب العلمية.

النوع الثاني: يضم التصاوير التي رسمت لتوضح الكتب الأدبية والتاريخية.

وقد استطاع دارسو التصوير الإسلامي تصنيف دراسته في ضوء ما وصلهم في مدارس فنية أطلقوا عليها أسماء حملت دلالات عرقية أو لغوية أو جغرافية، فشهرت بناء على ذلك مسميات عديدة مثل: المدرسة العربية والمدرسة الفارسية والمدرسة الهندية والمدرسة العثمانية، وقد قسمت كل من هذه المدارس الرئيسية إلى مدارس ثانوية، فانقسمت المدرسة العربية إلى مدرسة بغداد والموصل وديار بكر ومصر وبلاد الشام وشماليّ إفريقيا والأندلس، وشملت المدرسة الفارسية المدرسة السلجوقية والمغولية والتيمورية والصفوية، كما تفرع من المدرسة الهندية مدرستان، هما الرسمية والشعبية اللتان انقسمت كل منهما لمدارس ثانوية أخرى أيضاً، وكذلك الحال بالنسبة إلى المدرسة العثمانية التي شهرت بكثرة مدارسها الفرعية.

صورة تمثل السلطان سليمان مع جيشه في أثناء هجومه على قصر بوذا
(966هـ/ 1558م)

تُعدّ المدرسة العربية أولى مدارس تصوير المخطوطات في العالم الإسلامي، حيث ترجع أقدم المخطوطات الإسلامية المزوقة بالصور الملونة إلى القرن 6هـ/12م، بيد أن ذلك لا يعني أن هذه الصور تمثل أولى المحاولات وأقدمها في تزويق المخطوطات الإسلامية، بل كانت هناك محاولات جادة لتزويق المخطوطات بالصور الملونة منذ القرون الأولى للإسلام بدليل ما جاء في كتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه إلى اللغة العربية عبد الله بن المقفع نحو سنة 132هـ/750م؛ إذ يفيد أنه يحتوي على صور توضح موضوعات الكتاب؛ لتكون بأصباغها وألوانها أنساً لقلوب الملوك، فيحرصون على اقتنائه وكذلك من يتصفحه من عامة الناس، فيكثر بذلك انتساخه؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ، وهذا الكلام يوضح مدى التعاون بين الناسخ والمصور في سبيل إنجاز نسخة مخطوطة من كتاب في أي علم من العلوم؛ إذ يدفع المؤلف بكتابه لكل من الناسخ الذي ينسخ النص، ويترك للمصور المساحات المناسبة لمحتوى النص؛ ليقوم بوضع صوره فيها حتى يصبح المخطوط في صورة يليق أن يطلع عليه الملوك وكذلك عامة الناس. ومن ثم ينسخ أكثر من نسخة مزوقة بالصور الملونة؛ إذا وجد إقبالاً وقبولاً في النسخة الأولى. وهذه حقيقة مهمة تعود إلى النصف الأول من القرن 2هـ/8م؛ مما يرجح وجود مدرسة عربية إسلامية في فن التصوير ازدهرت في تلك الفترة، واستمرت في إنتاجها، ولكن مما يؤسف له أنه لم تصل إلينا مخطوطة كاملة مزوقة بالصور الملونة من هذه المدرسة يمكن نسبتها إلى ما قبل النصف الثاني من القرن 6هـ/12م.

صورة السلطان سليمان القانوني في قصر توب كابي-إسطنبولصورة تمثل هجوم العثمانيين على قصر بلغراد وأبراج أسوارها (928هـ/1521م)

يغلب أن المدرسة العربية انطلقت من العراق، وكان لها في هذا البلد وقتذاك أكثر من مركز فني، من أهمها مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية ومدينة الموصل وديار بكر وكذلك في واسط والكوفة والبصرة، ثم انتشرت في بلاد الشام حيث مدينة دمشق وفي مصر حيث كانت القاهرة عاصمة الديار المصرية كما انتشرت في فارس؛ ولاسيّما خلال عصر سلاجقة فارس، وعاشت فترة طويلة جنباً إلى جنب مع المدرسة المغولية في التصوير الإسلامي بفارس إبان العصر المغولي كما امتدت المدرسة العربية إلى شماليّ إفريقيا وإلى الأندلس. وقد استمرت هذه المدرسة فترة زمنية طويلة تمتد من القرن 6هـ/12م إلى القرن9هـ/15م، وتتألف مخطوطاتها عموماً من كتب مكتوبة باللغة العربية.

خزف مملوكي تقليد خزف سلطان أباد

وتمتاز صور المخطوطات التي تنتمي إلى هذه المدرسة بمميزات رئيسية عامة تختص بها دون غيرها من مدارس التصوير الإسلامي الأخرى التي ظهرت خلال العصور الإسلامية، وكان من أهم هذه المميزات جميعاً الإغراق في الطابع الزخرفي والميل إلى البساطة وعدم التعقيد، حيث جاءت صور مخطوطات المدرسة العربية؛ لتكون جزءاً من المتن يقصد بها شرحه وتوضيحه، وليست ميداناً لإظهار المواهب الفنية للمصورين. ومن ثم هناك بعض المخطوطات قد زوقت بصور ذات أحجام صغيرة طبقاً للمساحة الخالية التي تركها الخطاط الذي قام بنسخ المخطوط، فأصبح لا يحيط بالصورة إطار يفصل بينها وبين المتن، كما يغلب على صور هذه المدرسة الطابع العربي في سحنة الرسوم الآدمية التي تلوح في وجوهها المسحة السامية، واختصت بقني الأنوف واللحى السوداء. وكذلك يتمثل في الملابس التي يرتديها أشخاص هذه الصور أنها شرقية وعربية في أغلبها، فرسمت واسعة فضفاضة قوامها القميص والجلباب ينسدل حتى يكاد يغطي القدمين في كثير من الصور. كما في صور مخطوطات كتاب «كليلة ودمنة» وكتاب «مقامات الحريري» وكتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني وكتاب «الترياق» لجالينوس، ويضاف إلى ذلك غطاء الرأس؛ وهو عمامة متعددة الطيات. كما يتضح الطابع العربي أيضاً في صور المدرسة العربية في العناية برسوم الخيل والإبل، وفي البعد عن التمثيل الواقعي وعدم الصدق في تمثيل الطبيعة، فرسمت الصور الآدمية بأسلوب مُحوّر أهمل فيه مراعاة النسب التشريحية للجسم الإنساني، فاعتنى بإبراز الشخصية الرئيسية في الصورة على أساس أنها محور موضوع الصورة، وكذلك ابتعد عن التعبير عن العمق وعن التكتل، فأهمل بعض القواعد الفنية التي تؤدي إلى التجسيم والعمق في الصورة مثل الظل والنور، فتُلفى كل صورة مضيئة كأنما صورت في وضح النهار حتى لو كان موضوع الصورة يقتضي أن يحدث ليلاً، فكان المصور يرمز إلى ذلك برسم ما يعبر عن القمر والنجوم فقط. واستخدم الفنان بصور هذه المدرسة الألوان الزاهية الساطعة، ومن ثم لم يعبر عن الظل والنور، وكذلك أهمل قواعد المنظور والبعد الثالث حسبما يقتضي أسلوب التمثيل الواقعي في الرسوم، فجاءت صور هذه المدرسة مسطحة لا عمق فيها، كذلك أضاف المصور إلى الصور الآدمية رسوم هالات حول رؤوس الأشخاص وكذلك حول رؤوس الطيور والأزهار كما في بعض صور مخطوط من كتاب «الترياق» لجالينوس؛ مما يبرهن على أن رسم الهالة هنا لم يكن يرمز إلى أي مظهر من مظاهر القداسة؛ ولكن ربما قصد به لفت الأنظار إلى هذه الرسوم.

التصوير في فسيفساء الجامع الأموي بدمشق

ولم يقتصر تزويق المخطوطات في هذه المدرسة وغيرها على الكتب العلمية والأدبية، بل امتد إلى المؤلفات التاريخية والدينية، وأتاحت الموضوعات التاريخية للمصورين فرصة الابتكار والتنويع، مثل كتاب «جامع التواريخ» الذي ألفه الوزير رشيد الدين، وكتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية» للبيروني.

تُعدّ المدرسة العربية في بلاد الشام ومصر من أهم مراكز هذه المدرسة حيث ازدهر فن تزويق المخطوطات بالصور من كتب أدبية وعلمية ازدهاراً عظيماً، منها على سبيل المثال كتاب «مقامات الحريري» وكتاب «كليلة ودمنة» وكتاب «الحيل» وكتاب «التنجيم» لأبي معشر البلخي وكذلك في الفروسية، كما تحتفظ المكتبة الأهلية بباريس بنسخة مخطوطة من كتاب «الأربع بشائر» مزوقة بعدد من الصور التي تتناول سيرة السيد المسيح وبعض الحواريين رسمت بحسب الأسلوب التصويري في العصر الأيوبي.

أما في الأندلس فقد ازدهرت المخطوطات المصورة كما ازدهرت في الأقاليم الشرقية من العالم الإسلامي، حيث عُرِف من المخطوطات المصورة بالأندلس ثلاثة مخطوطات: أولها عن الأعشاب الطبية أو خواص الأشجار، وهذا المخطوط يرجع إلى القرن 6هـ/12م، وهو محفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس، والمخطوط الثاني عن قصة غرام، وهو يعود إلى القرن 8هـ/14م، ومحفوظ الآن بمكتبة الفاتيكان، أما المخطوط الثالث؛ فهو بعنوان «سلوان المطاع في عدوان الأتباع» لابن ظفر الصقلي، وهو يعود إلى القرن 10هـ/16م. وتتميز صور المخطوطات الأندلسية بأنها تسير وفق التقاليد المتبعة في تصوير مخطوطات المدرسة العربية في العصر المملوكي، مع بعض الاختلافات في رسوم العمائر؛ حيث إن صورة العمائر في المخطوطات الأندلسية كانت وفقًا للطراز الأندلسي.

التصوير في فسيفساء الجامع الأموي بدمشق

وبدخول المغول فارس وضح في التصوير الفارسي المشبع بخصائص المدرسة العربية آنذاك بعض التأثيرات الصينية التي تتمثل في محاولة التعبير عن العمق، والميل نحو التجسيم إضافة إلى بعض التفاصيل كالسحنة المغولية والأدوات والثياب المعروفة في الشرق الأقصى، ورسم التنين والسحاب الصيني، وكان من نتيجة ذلك ظهور أسلوب جديد صار يعرف باسم المدرسة المغولية انتشر في فارس والعراق في القرن 8هـ/14م.

أما في العصر التيموري في القرن 9هـ/15م؛ فقد بدأت إشاعة التأثيرات الصينية وإخضاعها للمزاج الوطني الفارسي إضافة إلى ظهور الشغف برسم المناظر الطبيعية بدقة وإتقان، وتصوير مظاهر الترف والتعبير عن مشاعر البهجة والسرور، هذا إضافة إلى وضوح الطابع الزخرفي، ووصل هذا الأسلوب قمته في العصر الصفوي الأول في القرن 10هـ/16م؛ مما أدى إلى ظهور المدرسة الصفوية الأولى أولاً، ثم - ومنذ عهد الشاه عباس الأول 997 - 1039هـ/1588 - 1629م - ظهرت المدرسة الصفوية الثانية التي تميزت بظهور التأثيرات الأوربية من حيث الأسلوب والموضوع، كما انتشر رسم الصور المستقلة والمفردة التي كانت تتسم بالتحرر من التقاليد القديمة إلى حد ما، وتبع المدرسة الصفوية الثانية أسلوب جديد في التصوير شاع في العصر القاجاريّ الذي استمر في بلاد فارس مدة طويلة نسبياً 1193 - 1344هـ/1779 - 1925م، وضح فيه التأثيرات الأوربية والهندية.

التصوير في فسيفساء الجامع الأموي بدمشق

وقد عبر الفنانون الفرس عن إبداعاتهم الفنية عبر عنايتهم بتصوير بعض الكتب الفارسية ذات الصلة القوية بتاريخهم العميق مثل «الشاهنامه» التي هي أشهر ملحمة فارسية تتألف من نحو50 ألف بيت أتم نظمها أبو القاسم الفردوسي في سنة 400 هـ/1010م، وأهداها للسلطان محمود الغزنوي، وبها ذكر لأغلب أساطير الفرس قبل الإسلام. وتعكس تصاوير النسخ المتعددة للشاهنامه بحق تطور التصوير الإسلامي في فارس بمدارسه المختلفة من مغولية وتيمورية وصفوية وقاجارية وغيرها .

ومن الكتب الأخرى التي أقبل الفرس على تزويقها كتاب « المنظومات الخمس» لنظامي وكتابا «البستان» و«الجلستان»، وهما كتابان في الشعر والنثر لأشعر شعراء الفرس سعدي الشيرازي.

إضافة إلى صور المخطوطات عرف الفرس إنتاج التصاوير المفردة؛ ولاسيما في العصر الصفوي، وكانت هذه الصور تجمع أحياناً في مرقعات أو «ألبومات»، وعرف هذا النوع أيضاً في الهند، كما انتشر رسم الصور باللاكيه على لوحات الأثاثات الخشبية وأغلفة الكتب؛ وذلك في العصر الصفوي والعصر القاجاريّ، وكان كثير من هذه الصور يشتمل على تأثيرات أوربية، وذاع صيت صور اللاكيه التي تزخرف الصناديق والمرايا والمقلمات وغيرها.

وعرفت فارس في القرن 13هـ/19م التصوير بطريقة الورق المقوى papier - mâché على الأخشاب والرسم بالزيت، وشاعت هذه الطرق في التصوير القاجاريّ.

التصوير في فسيفساء الجامع الأموي بدمشق

ومن أشهر المصورين الفرس «نيد نقاش» و»سلطان محمد» و»رضا عباسي» و»معين» و»محمد قاسم» غير أنه ربما كان أشهرهم في العالم الإسلامي كله «بهزاد» الذي ولد في نحو منتصف القرن 9هـ/15م في فارس، وعاش عمراً طويلاً أنتج خلاله إنتاجاً فنياً ضخماً وصل بعضه مثل تصاوير في مخطوطة «بستان سعدي» المحفوظة بدار الكتب المصرية وتصاوير في مخطوطة «خمسة نظامي» المحفوظة بالمتحف البريطاني.

وقد أثر بهزاد تأثيراً كبيراً فيمن عاصره أو جاء بعده من الفنانين بحيث يمكن عدّه صاحب مدرسة فنية لها طابعها الخاص انتشر أسلوبها في سائر أنحاء فارس وفي غيرها من الأقطار التي خضعت للتأثيرات الفنية الفارسية.

ومن حيث الأسلوب يمثل بهزاد قمة المدرسة التيمورية، يتميز أسلوبه بالطابع الأرستقراطي المتأنق من حيث رسم الزخارف الدقيقة النباتية والهندسية، وتصوير العمائر والأثات الفخم، والمناظر الطبيعية، وكذلك تميز برسم الأشخاص وتمثيل حركاتهم بحيوية، وتنويع الشخصيات، والتعبير عن الحركات الجسدية بحيوية وعن الحالات النفسية المختلفة.

وكان للتصوير الفارسي الفضل الأول في نشأة التصوير الهندي الإسلامي حيث كان الامبراطور «أكبر» قد أنشأ في الهند معهداً للتصوير، وعهد به إلى فنانين فرس، كما جمع كثيراً من التصاوير والمخطوطات الفارسية المزوقة بالتصاوير في مكتبة قصره، وتم في عهده تصوير عدد كبير من الكتب التاريخية مثل «تيمور نامه» و«بابر نامه» و»أكبر نامه» و»روز نامه»، وقد استمرت العناية بالتصوير في الهند بعد ذلك حيث وُجد العديد من تصاوير الحفلات والرحلات وصور الحيوانات والطيور والنباتات والأزهار؛ إضافة إلى الصور المستمدة من الحياة العامة ومن القصص الشعبية والأساطير القومية، والصور الشخصية التي شاعت زمن الامبراطور شاه جيهان وخلفه.

وعلى أساس التصوير الفارسي أيضاً نشأ التصوير العثماني، ومن المصورين الفرس الذين كان لهم فضل كبير في تأسيس المدرسة العثمانية «شاه قولي» والمصور «ولي جان التبريزي»، وتميزت المدرسة العثمانية بازدياد التأثيرات الأوربية. ومن المعروف أن السلطان محمد الفاتح 855 -886هـ/1451-1481م استدعى إلى إسطنبول المصور الإيطالي المشهور «جنتيلي بلّيني Gentile Bellini في سنة 885هـ/1479م حيث رسم له صورته الشخصية المحفوظة حالياً في الصالة الأهلية بلندن.

وتتميز التصاوير العثمانية بصفة عامة بظهور العمائم الكبيرة، واستخدام اللون الأخضر الناصع المشوب بصفرة، ومن الكتب العثمانية المزوقة بالتصاوير التي وصلت نسخ منها كتاب «تاريخ السلاطين العثمانيين إلى عهد السلطان سليمان الثاني» لرشيد أفندي، وكتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني و»سليمان نامه» و»شاهنامه عثمان» و»هوتان فتحنامه سي» التي تتضمن أشعار العثماني التركي نادري و»باشا شاهنامه» للمؤلف طلوعي.

واشتهر من المصورين العثمانيين «نجارى» و»حيدر باشا» مصور البلاط في عهد السلطان سليمان 926– 974هـ/1520–1566م.

مراجع للاستزادة:

- أبو الحمد محمود فرغلي، التصوير الإسلامي (الدار المصرية اللبنانية، 1991م).

- حسن الباشا، التصوير الإسلامي في العصور الوسطى (دار النهضة العربية، القاهرة 1992م).

- زكي محمد حسن، أطلس الفنون والتصاوير الإسلامية (بغداد 1958م).

- م.س. ديماند، الفنون الإسلامية، ترجمة أحمد محمد عيسى (دار المعارف، القاهرة 1982م).


- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق