التزجيج في العصور التاريخية
تزجيج في عصور تاريخيه
-
التزجيج
نبال محيسن
التزجيج في العصور التاريخية
التزجيج glazing هي عملية تعتمد على معالجة سطح المادة الفخارية؛ وذلك من خلال إضافة مواد التزجيج التي تشتمل على السيلكا silicate والشمع والألمنيوم، وهي عناصر تتوفر في بنية الصلصال الطبيعي. تحتاج تلك التقانة إلى أفران متطورة قادرة على إنتاج درجة شواء عالية جداً؛ حيث يتشكل في نهاية العملية طلاء زجاجي على سطح الفخار. إن تشكل تلك الطبقة الزجاجية يُكسب الفخار قوةً وصلابةً ولمعاناً جميلاً؛ إضافة إلى أنها تجعل المادة الفخارية قادرة على الاحتفاظ بالسوائل مدة طويلة.
مع مطلع الألف الرابع ق.م عرف المصريون القدماء وسكان بلاد الرافدين أولى وسائل التزجيج؛ إذ تمت معالجة الحجر الناعم المعروف باسم الحجر الصابوني steatite بتشكيل طبقة زجاجية قَلوية عليه تكون خضراء أو زرقاء اللون، تؤدي إلى تشكل الحجر الجيري أو الفاينس faïence. تُكسب تلك الطبقة الزجاجية الحجر منظراً جميلاً وملمساً رقيقاً، وقد استخدم الفاينس لاحقاً - في أثناء الألف الثالث خاصة- على نطاقٍ واسع في مختلف أرجاء الشرق الأدنى القديم في صناعة الكثير من الخرز والأختام والقلائد، كما شُكلت الأواني المزخرفة من تلك المادة. ويُشار أيضاً إلى وجود دلائل في تلك المرحلة على محاولات تشكيل الزجاج الخام بوساطة سحق حجر الفريته frit وصهره ومن ثم تبريده.
كأس من الفخار المزجج مزينة بوجه نسائي من أوغاريت |
استخدم الحرفيون القدماء عدة وسائل للتزجيج؛ إذ يُلاحظ أن المواد الزجاجية الصغيرة كان يتم صبها ساخنة في قوالب على طريقة «الشمع المفقود»، واتُّبعت تقنيات أكثر تعقيداً لتشكيل الأواني الزجاجية مثل طريقة «النفخ»، واستُعملت أيضاً الأكاسيد المعدنية لتلوين الأواني بحسب الطلب. واستعملت خامات النحاس لإعطاء اللون الأزرق الفيروزي وخامات الكوبلت لإعطاء درجات غامقة من اللون الأزرق؛ وخامات الحديد لإعطاء ألوان صفراء وسوداء. أيضاً رُتّبت خطوط الزجاج الملونة على أشكال متداخلة؛ ليتم لصقها في النهاية بعضها مع بعضها الآخر وتثبيتها على سطح الإناء، ولا شك أن هذه التقنيات ترافقت مع ظهور الأفران المتطورة.
مع بدايات الألف الثاني؛ أصبحت تقانة التزجيج أكثر تطوراً وتعقيداً، وتذكر الوثائق المسمارية كيف استطاع الصنّاع إتقان طريقة إنتاج الأواني الزجاجية وتلوينها بوسائل مختلفة. لقد تزايدت وعلى نحو كبير مع منتصف الألف الثاني حتى بدايات الألف الأول ق.م صناعة المُزجّجات في مختلف المواقع السورية والرافدينية، وهذا ما دلّت عليه مكتشفات بابل وإيبلا وماري. لكن التطور النوعي الأهم كان في عهد مملكة ميتاني في نحو 1600 - 1300ق.م حينما تطورت الوسائل التقنية، وتعددت المنتجات الزجاجية. وتذكر نصوص تل العمارنة أن المصريين القدماء كانوا يتزودون بالمواد الضرورية لصناعة الزجاج من بلاد الشام. تجلى ذلك التطور أيضاً بانتشار تقانة تزجيج الفخار على نطاقٍ واسع بدلالة مكتشفات المواقع السورية مثل تل براك في الجزيرة السورية وتل عطشانة (ألالاخ) في سهل العمق. لقد انتشرت في المرحلة اللاحقة - أي العصر البرونزي الحديث- تقنيات متقدمة ومعقدة للتزجيج في مختلف الممالك السورية القديمة، وأبلغ دليل على ذلك المُزجّجات التي تم الكشف عنها في مدينتي أوغاريت وقطنا القديمتين؛ حيث شُكّلت قطع الحلي من قبيل القلائد والخرز المزخرف بنقوش والأختام و الخواتم والأواني والأباريق والصحون والكؤوس، كما استخدم التزجيج في عمليات التطعيم و ترصيع قطع الأثاث.
الطوب المزجج في بوابة عشتار - بابل |
تعرضت الصناعات الزجاجية لتوقفٍ مفاجئ إثر غزوات «شعوب البحر» التي ضربت المنطقة مع مطلع القرن الثاني عشر ق.م، ولكنها عادت بقوة مع مطلع الألف الأول حينما انتشر تزجيج الطوب والقرميد على نحو واسع، واستعملا في تزيين العناصر المعمارية مثل الأعمدة وأوتاد التأسيس. وقد وجدت في مكتبة الملك آشور بانيبال - في القرن السابع ق.م - الكثير من الوثائق الكتابية التي تصف تقنيات صناعة الزجاج، وتم الكشف عن عدد من الأواني والصحون وقطع الحُلي المزجّجة والتي أنتجتها المشاغل السورية- الفينيقية حينذاك. ومن أمثلة استعمال الآجر المزجج بوساطة الرصاص والملوّن بالأزرق واجهات شارع الموكب وبوابة عشتار في مدينة بابل التي شيّدها الملك نبوخذ نصر في نحو 572 ق.م.
تُعدّ تقانة التزجيج شاهداً مهماً على سعي المجتمعات القديمة إلى الحصول على تقانات جديدة في مجال الفخار والزجاج وتطويرها دائماً، وذلك لأسباب اقتصادية وفنية؛ مما جعل المزجّجات تنافس قطع المعادن النفيسة والجواهر قيمةً وجمالاً
- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :