الترسانة
ترسانه
-
الترسانة
أحمد الدالي
ويقصد بها دار صناعة السفن، وكان السبب الأساسي في إنشا دور الصناعة لبنا سفن الأساطيل العربية هو التحول التخطيطي في الفكر الحربي العربي وانتقاله من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية، لغزو الثغور البيزنطية وإخضاعها، ونشر الدعوة الإسلامية في بلاد ما ورا البحار، ولعل حلم الاستيلا على القسطنطينية كان الحافز الأكبر في ذلك التحول.
كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان (٤١-٦٠هـ/٦٦١-٦٧٩م) أول من عمد إلى إنشا دورٍ لصناعة السفن، وذلك حين كان والياً على الشام، فقد ذكر صالح بن يحيى «أن معاوية بن أبي سفيان والي الشام عمّر المراكب في بيروت عندما أراد غزو جزيرة قبرص سنة ٢٨هـ/٦٤٨م».
ومن دور الصناعة التي أنشئت في العهد الأموي تلك التي أنشئت في جزيرة الروضة بمصر سنة ٥٤هـ/٦٧٣م، ويعدّها المقريزي أول دار صناعة أنشئت في مصر. كما اهتم العباسيون بإنشا دور الصناعة أيضاً، وذلك في أحواض البحر المتوسط والمحيط الهندي، كما تم بنا اثنتين من دور الصناعة هذه على النيل، من قبل أمير مصر عنبسة بن إسحاق بأمر من الخليفة العباسي المتوكل على الله سنة (٢٣٢–٢٤٧هـ/٨٤٦-٨٦١م) أي في القرن ٣هـ/٩م. وزاد إنتاج دور الصناعة في العصر الفاطمي ازدياداً ملحوظاً، وأنشئت دور صناعة في كل من: القاهرة والمقدس ودمياط والإسكندرية وطرابلس الغرب وسوسة.
سفينة ذات ساريتين في مراحل الصناعة الأخيرة قبل نزولها الما |
ولما تولى الموحدون الحكم (٥٢٤-٦٦٨هـ/١١٢٩-١٢٦٩م) ازدادت قوتهم البحرية، وانتشرت دور الصناعة على طول مراسي المملكة الموحّدية في سواحل العدوة من طنجة وسبتة إلى المهدية والأندلس. وقد أنتجت دور صناعة السفن في سنة ٥٥٧هـ /١١٦١م أسطولاً مؤلفاً من ٤٠٠ قطعة؛ منها في سلا والمعمورة ١٢٠ قطعة، وفي مراسي طنجة وسبتة وباديس ومراسي الريف ١٠٠ قطعة، وفي مراسي الأندلس ٨٠ قطعة. ونقل الخليفة عبد المؤمن مركز قيادة الأسطول إلى سبتة لتصبح مركزاً دائماً للأسطول الموحدي.
وخوفاً من احتمال عودة الصليبيِّين - بعد اتفاقهم مع نصارى جبل لبنان – إلى احتلال بيت المقدس في العصر المملوكي؛ أرسل الأمير يلبغا العمري إلى بيروت نائب دمشق الأمير بيدمر الخوارزمي لبنا أسطول بحري، فحضر إلى بيروت سنة ٧٦٧هـ/١٣٦٥م، ومعه كثير من الصناع من مختلف المناطق في مصر والشام، وبنى مصطبة في ضاحية بيروت القديمة خصصها لصناعة السفن التي اعتمد فيها على خشب الصنوبر من حرج بيروت.
ومن أهم دور الصناعة البحرية التي انتشرت في سواحل الدولة الإسلامية في عهودها المختلفة:
الإسكندرية: هي من أكبر موانئ البحر المتوسط، حيث احتوت على دار للصناعة منذ عصر البيزنطيِّين والعصر الإسلامي الأول، وقد تولّت الإسكندرية بأسطولها غزو جزر البحر المتوسط، إلى أن تمكنت دار صناعة تونس من إنتاج ما يكفيها من السفن، وقد اهتم المنصور ببنا أسطول بها، واهتم بدار الصناعة، وكان لشدة اهتمامه بصناعة السفن يعفي الذميِّين الذين يعملون في مصاطب بنا السفن من دفع الجزية، تشجيعاً لهم على العمل.
القلزم: وهي مينا البحر الأحمر من طرفه الشمالي الغربي، وفيها دار لصناعة السفن منذ العصر الأموي، ومنها كانت تأتي الميرة إلى الحجاز عبر البحر في العصرين الأموي والعباسي، وكان العاملون من القبط في دار صناعة القلزم من الصناع والنجارين والقلافين.
عكا: كانت دار صناعة للسفن في العصر الأموي، كما كانت من أهم موانئ جند الأردن ودور الصناعة في العصر العباسي، وكان فيها مرسى يتسع لعدد كبير من السفن، وقد وصف المقدسي مينا ها بالعجيب.
صور: كانت من أكبر الموانئ البحرية منذ أواخر العصر الأموي، وبها دار صناعة كان قد طورها العباسيون لمواجهة الهجمات البيزنطية.
بيروت: بدأت تكتسب أهميتها بصفتها دار صناعة السفن ومنطلقاً للأسطول الإسلامي لدر الهجمات الرومية ومنطلقاً للفتوحات البحرية منذ العصر الراشدي في عهد الخليفة عثمان بن عفان سنة ٢٧هـ/٦٤٧م. ثم في العصر الأموي استحدث الخليفة معاوية بن أبي سفيان منصب أمير بحر الشام في بيروت سنة ٥٢هـ/٦٧١م، واعتمد على المسلمين من سكان مدن ساحل بلاد الشام الذين برعوا في صناعة السفن ونبغوا في قيادة الأساطيل، وذلك لصدّ غارات البيزنطيّين ثم الهجوم على مراكز إعداد هذه الغارات. واستمرت بيروت دارَ صناعة سفن إلى العصر المملوكي في عهد الأشرف ناصر الدين سنة ٧٦٧هـ/١٣٦٥م، ثم في عهد السلطان برسباي الذي أمر ببنا الحمّالات والأغربة (السفن الكبيرة والصغيرة) فيها للمشاركة في غزو قبرص سنة ٨٢٩هـ/١٤٢٦م، ثم انتها ً بالعصر العثماني في عهد السلطان عبد الحميد خان الثاني الذي جعل بيروت مركز ولاية، وعمل على توسيع مرفئها وتحسينه سنة ١٣١٢هـ/١٨٩٤م حتى أضحت مينا ً رئيساً لساحل بلاد الشام.
طرسوس: في خليج الإسكندرونة على الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، وأول من أوصى أن تكون قاعدة لجيوش المسلمين القائد العباسي الحسن بن قحطبة الطائي ١٦٢هـ/٧٧٨م في عهد الخليفة المهدي، وكانت مركزاً مهماً للرباط البحري، وأعظم القواعد البحرية في الثغور الشامية في العصر العباسي الأول.
إحدى المراحل التي تمر بها صناعة السفينة | إحدى الترسانات المخصصة لصناعة السفن الصغيرة |
البصرة: كانت المركز البحري الوحيد في العراق، إلى الجنوب من العاصمة العباسية بغداد، وهي المينا الرئيسي لواردات الدولة العباسية. وقد اختصّت دار الصناعة التي كانت فيه بصناعة السفن الكبيرة، كما كانت تزوّد السفن بما يلزم من معدات وصيانة، كالشحم والنورة.
برقة: من الموانئ المهمة في الساحل الإفريقي منذ العصر الأموي، وبها دار صناعة منذ عهد عبد الملك بن مروان.
تونس: وهي مينا مهم، وبها دار للصناعة منذ العصر الأموي، وبما أن تونس تقع إلى الداخل غرب البحيرة التي تتصل بالبحر من جهة الشرق، وكانت البحيرة ضحلة لا تسمح بسير المواكب الحربية؛ لذلك وجب حفر قناة في وسطها تصل ما بين دار الصناعة في تونس والمينا ، وهذا ما فعله حسان بن النعمان. وقد أصبحت من أهم الموانئ ومن أكبر دور الصناعة في العصر العباسي إبان حكم الأغالبة.
دور صناعة السفن النهرية: كانت السفن النهرية تجري في النيل والفرات ودجلة، ولها دور صناعتها الخاصة؛ كالتي في البصرة، والروضة في مصر على نهر النيل، ومن أهم الترسانات النيلية: ترسانة بولاق؛ إذ يرجع تاريخ بولاق بصفتها مينا وترسانة عندما أنشأ المماليك فيها ترسانة لصناعة السفن والمراكب الحربية والشواني. وقد صُنِع الأسطول الأول لمحمد علي في بولاق وتمّ تركيبه وتدشينه في السويس، كما كان يتم تجديد السفن المصنوعة في الإسكندرية وترميمها داخل ترسانة بولاق.
وقيل إن العرب بدؤوا أولاً بصناعة السفن الصغيرة وبأعداد قليلة وتجهيزات متواضعة، وتعدّ الشواني من أقدم السفن التي عرفها العرب وصنعوا منها، ثم طوّر العرب هذه الصناعة، وابتكروا لها تجهيزات متطورة، وتنوعت سفنهم كثيراً، فتعددت الأسما التي أطلقها العرب على السفن التي صنعوها بسبب التنوع الكبير في صفاتها وأشكالها وزينتها ومهامها، وهذا العدد الكبير دليل على شغف العرب بصناعة السفن وتطويرها والاستفادة منها في الحرب والسلم.
وقد وصف ابن بطوطة في رحلته طريقة صناعة السفن التي شابهت سفن الصين قائلاً: «كانوا يضعون حائطين من الخشب يصلون ما بينهما بخشب ضخم جداً موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام طول المسمار منها ثلاثة (ثلاث) أذرع، فإذا التأم الحائطان بهذه الخشبة صنعوا على أعلاهما فرش المركب الأسفل ودفعوهما في البحر وأتموا عمله ويبقى ذلك الخشب والحائطان موالية للما ينزلون إليها فيغتسلون، ويقضون حاجتهم، وعلى ذلك الخشب تكون مجاذيفهم وهي كبار كالصواري يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلاً، ويجذفون وقوفاً على أقدامهم، ويجعلون للمركب أربعة ظهور».
ومن حيث الطريقة التي اُتبعت في صناعة السفن فقد صنع العرب نوعين من السفن:
- سفن خاصة للإبحار في البحر المتوسط.
- سفن للإبحار في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
حيث يختلف كلٌّ من هذين النوعين عن الآخر من حيث شكل السفينة وحجمها والمواد التي استخدمت في صنعها، فسفن المتوسط كانت أكبر حجماً وذات شراع مربع (الذي ابتكره المصريون القدما )، وقد اعتمدت على التثبيت بالمسامير أكثر من اعتمادها على التثبيت بطريقة التلبيس بالغرا ؛ في حين اعتمدت سفن البحر الأحمر والمحيط الهندي على الشراع المثلث (الذي كان العرب أول من استخدمه فيما بعد بالمتوسط وذلك لما يمنح السفينة من قدرة كبيرة على المناورة)، وكانت أخشاب هذه السفن تخاط بالليف أو بخيوط من قشر جوز الهند، ولم تعتمد على التثبيت بالمسامير حتى القرن ٩هـ/١٥م، فقد عزا المسعودي السبب إلى طبيعة مياه البحر الأحمر والهندي التي تذيب الحديد فترق المسامير، ومنها ما كانت ألواحه من عيدان النخل، وكانت تطلى بالشحوم والنورة، وذكر أبو زيد السيرافي في القرن ٤هـ/١٠م أن شحم الحوت كان يستخدم في طلا المراكب، كما كانت فقرات عظامه تستخدم مقاعد للجلوس. وقد صنعت سفن البحر المتوسط من خشب الصنوبر والبلوط والعرعر والسرو والأرز الذي كان يحمل من جبال لبنان وسورية، أو من مدينة العلايا الواقعة على ساحل المتوسط في الأناضول. وفي القرن ٤هـ/١٠م أخذت مدينة البندقية تمدّ العرب بالخشب لبنا السفن، مما جعل الامبراطور البيزنطي يحتج لدى دوق البندقية الذي أمر بوقف بيع الخشب الذي يصلح لبنا السفن للتجار العرب.
رسم لمرحلة من مراحل صناعة سفينة من سعف النخيل وخيوط القنب |
أما أخشاب سفن البحر الأحمر والهندي فإنها كانت تحمل من بلدة قديمة بنواحي الصعيد على الضفة الشرقية للنيل، تدعى «أنصنا»، أو من مناطق أخرى في صعيد مصر، ذكرها ابن مماتي في تاريخه بقوله: «الحراج وهي في الوجه القبلي من الديار المصرية بالبهنسا في سفط رشين، وشبطال، بالأشمونين، والسيوطية، وبالخيمية، وبالقوصية، ولم تزل الأوامر السلطانية خارجة بحراستها وحمايتها والمنع منها والدفع عنها، وأن توفر على عمائر الأسطول المظفرة، ولا يقطع منها إلا ما تدعو إليه الحاجة وتوجده الضرورة». كما أن أشجار هضبة عُمان وجبال فارس كانت تقطع ليصنع منها خشب السفن التي تجري في المحيط الهندي بين بلاد العرب والصين.
كما أن أخشاب السَّنْط المصري كانت تصنع منها الصواري وضلوع جوانب السفن، وخشب الجمّيز والأثل واللنج والدوم لصناعة المجاذيف والقرايا (أعمدة الأشرعة)، ونبات الدقس لصناعة حبال السفن.
ومن أهم أنواع الأخشاب المستعملة شجر جوز الهند، حيث كانت تصنع منه الهياكل والسواري وخيوط التغريز، والحبال والشرع، إضافة إلى خشب الساج الذي كان يستخدم في بنا الهيكل.
وقد سميت صناعة السفن بـ «قلافة السفن» وقلف السفينة بمعنى: خرز ألواحها بالليف، وجعل في خللها القار. وتنسب «قلافة السفن» إلى «القلّاف» وجمعها «قلّافون» وهم الرجال الذين يصنعون السفن الكبيرة والصغيرة الشراعية، ويقومون بتسوية الأخشاب ونجارتها وقلافتها. كما يدخل في صناعة السفن مادتا الصل والشونة، إذ يستخرج الصل من الأسماك، وتدهن به أخشاب السفينة عقب الانتها من صنعها، وقبل تدشينها لأنه يطيل عمر الأخشاب. أما الشونة فهي مزيج من الدهن والجير، ويطلى بها النصف الأسفل للسفينة لكي يقاوم ملوحة المياه. وقد يُكسى النصف الأسفل للسفينة بمادة النحاس التي تمنع تآكل الأخشاب.
كذلك كان معدن الحديد اللازم لعمل المسامير والمراسي والخطاطيف والسلاسل والفؤوس يتوفر في مصر والشام واليمن.
وإن كان لكل دار صناعة مدير يتولى إدارتها، وهو منصب من مناصب الجيش في الدولة، إلا أن من مهام أمير البحر أيضاً تفقد السفن، وجودة صناعتها، واكتمال آلاتها، وكذلك حسن اختيار العاملين فيها والمقاتلين على ظهرها.
مراجع للاستزادة: - وفيق بركات، فن الحرب البحرية في التاريخ العربي الإسلامي (معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، ١٩٩٥م). - عبد الفتاح عبادة، سفن الأسطول الإسلامي وأنواعها ومعداتها في الإسلام (مطبعة الهلال، مصر ١٩١٣م). - إحسان الهندي، الجيش العربي في عصر الفتوحات (دمشق ١٩٧٣م). - أنور عبد العليم، «الملاحة وعلوم البحار عند العرب»، مجلة عالم المعرفة، العدد ١٣، الكويت، ١٩٧٩م. - عصام شبارو، تاريخ بيروت (بيروت ١٩٨٧م). - محمد جمال الدين محفوظ، فجر البحرية الإسلامية (دار الاعتصام، القاهرة ١٩٩٧م). |
- التصنيف : آثار إسلامية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :