التخطيط في العصور الكلاسيكية
تخطيط في عصور كلاسيكيه
-
التخطيط
مأمون عبد الكريم
تخطيط المدينة في العصور الكلاسيكية
بدأ مفهوم التخطيط العمراني المنتظم يظهر في الحضارة الكلاسيكية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، بما يسمى مفهوم المدينة الشطرنجية أو ما يعرف بالهيبودامي hippodaméen نسبة إلى المهندس هيبوداموس من مدينة ميله Hippodamos de Milet، إذ دلّت التنقيبات الأثرية التي أجريت في مدينة ميله Milet على أنها بنيت وفق المخطط الشطرنجي في القرن الخامس قبل الميلاد، فأصبحت هذه المدينة نموذجاً للمدن التي بنيت وفق هذا المخطط. وعندما هاجر هيبوداموس ميله إلى أثينا بعد الاحتلال الفارسي لمدينته قام ببعض المشاريع العمرانية منها تأسيس مرفأ بيرة Pirée، ومدينة توريوا Thourioi، كما يعتقد أن مخطط مدينة رودس Rhodes التي تأسست عام 408 ق.م أحد أعماله. وهكذا بدأت تظهر نماذج المدن الشطرنجية في العالم الإغريقي ومن ثم الهلنستي والروماني، نقلها الإغريق معهم إلى المناطق التي احتلوها، وسار الرومان على هذا الدرب في تخطيط المدن من خلال تنظيم المدينة وتوزيعها على جزر سكنية متشابهة، وتخصيص مساحات من الأرض لبنا المباني الدينية والمدنية ذات الطابع الرسمي، كما قاموا بتوسيع الشوارع وتنظيمها من خلال وجود شارعين رئيسيَّن، الشمالي -الجنوبي يسمى بالكاردو Cardo والشرقي-الغربي يسمى بالديكامانوس Decumanus، وبنا على هذين الشارعين فقد تم تنظيم الشوارع الأخرى بطريقة مستقيمة ومتوازية ومتقاطعة؛ مما يخلق فراغات منتظمة داخل المدينة، أما الأسوار فغالباً ما خضعت أشكالها لطبوغرافية الأرض التي بنيت فوقها المدينة. لذا فإن تنظيم المدينة قد يكون عموماً شطرنجياً على كامل مساحة الأرض، أو على أجزا معينة من مساحتها في بعض الأحيان.
أما في سورية فقد بدأت تظهر المدن الشطرنجية مع بدايات العصر الهلنستي، حيث اختار السلوقيون مواقع ذات ميّزات دفاعية وتجارية وزراعية لتأسيس المدن الجديدة في سورية، وقد حملت أسما الملوك السلوقيين، أو أسما مدن وقرى واقعة في مقدونيا، تم تنظيمها وفق مخططات هندسية شبيهة بالمدن اليونانية المقدونية، فبنيت أنطاكية على نهر العاصي، وأصبحت عاصمة الدولة، كما بنيت أفامية في موقع دفاعي مهم يطل على سهل الغاب الغني بالزراعة، واللاذقية وسلوقية على البحر، ودورا أوروبوس على نهر الفرات في موقع استراتيجي مهم، وكذلك مدينة سيروس في وادي عفرين في المنطقة الشمالية... إلخ.
مخطط مدينة تدمر |
أما بالنسبة إلى المدن القديمة كدمشق وحلب وحماة وغيرها فقد تمت إعادة تخطيطها من جديد من خلال إضافة حارات جديدة ومنظَّمة مُنحت لها أسما مقدونية، إذ سميت حلب (بيرويه) Beroea، وحماة (أبيفانيا) Epiphaneia، ودمشق (ديميترياس) Demetrias، أحيطت بأسوار مهمة واستوطنها المستعمرون القادمون من اليونان ومقدونيا.
اهتم المؤرخون والباحثون منذ بدايات القرن العشرين بمسألة تخطيط المدن خلال العصرين الهلنستي والروماني، وطرحوا العديد من الفرضيات والأفكار عن أهمية هذين العصرين في بنا المدن في سورية وتخطيطها وتطورها، فمنهم من رأى أن المدن السورية لم تشهد حركة عمرانية ومعمارية مهمة خلال العصر الهلنستي،على عكس ما شهدته في العصر الروماني، وأنها تميزت بإنشا المستوطنات فقط. في حين رأى آخرون أن المدن السورية قد حظيت بالرعاية والاهتمام اللازمين لبنائها في العصر الهلنستي وفق مخطط مدروس ومنظَّم وأنها استمرت خلال العصر الروماني، حيث أعادوا بنا ها وتطويرها على نحو ملحوظ من دون إحداث تغيرات جذرية.
وحاول جان سوفاجيه J. Sauvaget في ثلاثينات القرن العشرين طرح أفكار مهمة حول تخطيط المدن الحالية مثل اللاذقية وحلب ودمشق، وبرأيه فإنه من الممكن إيجاد آثار لتخطيط ذي مقياس هلنستي في المدن المذكورة. أما إرنست. ويل E. Will فقد نشر عام ١٩٨٩م مقالاً مهماً عن طبيعة المدن في سورية خلال العصرين الهلنستي والروماني، حلل فيه المعطيات التاريخية والأثرية المتوافرة آنذاك، كما ركَّز في أبحاثه على أهمية العمران في سورية خلال العصر الروماني، حيث يرى أن الأغلبية العظمى من الآثار الموجودة تعود إلى هذا العصر. إذ تعد دورا أوروبوس برأيه النموذج الوحيد الذي يعطي صورة واضحة عن المدن السورية في العصر الهلنستي.
مخطط مدينة دورا أوروبوس |
ولم يعثر في مدن العصر الكلاسيكي في سورية أو في مدن بلاد الشام عامة على تنظيم هندسي دقيق، فالمخططات ليست متعامدة على كامل مساحة المدينة، إنما كانت تضم زوايا غير منتظمة، ومن الصعب أن يُحدد نموذج موحد لها، ففي عدد من الحالات يمكن تمييز عناصر للتنظيم العمودي، ولكن في قطاعات محدودة من المدينة.
إنَّ تطور شارع الأعمدة الرئيس في مدن بلاد الشام خلال العصر الروماني كان مرتبطاً بتطور المدينة عمرانياً، فقد أقيم من أجل ربط الأقسام غير المنسجمة من تجمع عمراني ومنحه نوعاً من الوحدة المعمارية المهيبة، وهذا النمط المعماري يمكن أن يخفي ورا صفوف المحلات التجارية نسيجاً عمرانياً ذا تنظيم مختلف كالكتل المتراصة من السكن التقليدي، إذ تنفتح الصروح الرئيسة للمدينة عموماً على أروقة شوارعها المتعامدة.ويبدو أن الشوارع الرئيسة في المدن الهلنستية في سورية لم تكن تملك في أي حال من الأحوال الأهمية التي حصلت عليها في العصر الروماني، إن كان ببلاطها أو رصفها بالأعمدة أو بدكاكينها، والجدير بالذكر أنَّ بنا المحلات التجارية على الشوارع المعمَّدة كان ظاهرة سورية عائدة إلى العصر الروماني.
وقد كشفت السويات الأثرية في مواقع كلاسيكية عديدة عن الكثير من المعلومات عن تخطيط المدن خلال العصرين الهلنستي والروماني والبيزنطي في سورية، فعلى سبيل المثال فإن مدينة أفامية تعد إحدى المدن الأربع التي أسسها الملك السلوقي سلوقس نيكاتور في شمالي سورية مع أنطاكية وسلوقية البحر واللاذقية، وثاني أكبر مدينة فيها، وهي تقع في موقع استراتيجي دفاعي فوق هضبة مطلة على سهل الغاب. وتم تخطيط المدينة وفق طبوغرافيّة الموقع مما يعطيها تخطيطاً غير منتظم، وقد بلغت مساحتها نحو ٢٢٥ هكتاراً وطول سورها نحو ٨ كيلومتر، وتم تدعيمه بمئة برج. إن مخطط المدينة هو مخطط هلنستي، إذ بيَّنت التنقيبات الأثرية التي أجريت في بعض أجزا سور المدينة ولاسيما الشمالية منها؛ أساسات عائدة إلى العصر الهلنستي قائمة تحت سور المدينة الذي يعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي. وللسور أبراج لا تملك الحجم نفسه إذ تميزت الأبراج العريضة الهلنستية بتغير في اتجاه الجدار، أما الأبراج الرومانية فقد كانت أصغر حجماً، ويفترض أن السور قد أقيم بعد إنشا المدينة بنحو مئة سنة من تأسيس المدينة في بداية العصر الهلنستي.
مخطط مدينة أنطاكية |
أما مدينة سيروس فقد حافظت على العديد من عناصرها المعمارية الواضحة حتى الآن، مما ساعد على فهم شكل المدينة وتنظيمها خلال العصور المتلاحقة.إن أسوار هذه المدينة غير المنتظمة الشكل تتماشى مع طبوغرافية الموقع ذات الطبيعة الهضبية، وقد تم تدعيمها بمجموعة من الأبراج القوية العائدة إلى القرن السادس الميلادي خلال عهد الامبراطور جوستينيانوس، ولذلك فإن مخطط المدينة خلال العصر البيزنطي ربما جا مطابقاً للمخطط العائد إلى العصر الهلنستي، وقد بدأت دراسات أثرية جديدة في الموقع بهدف التأكد من طبيعة تطور هذه الأسوار. أما التنظيم الداخلي للمدينة فقد تم تخطيطه وفق نظام شبكة ترابعية مستطيلة الشكل، يخترقها الطريق المستقيم الأساسي الذي يؤدي إلى مقاطعة كوماجين في الشمال، وينفتح هذان الطريقان المتقاطعان بأربع بوابات رئيسة.
مخطط مدينة سيروس |
وتضم المدينة منشآت مهمة كالمعبد الروماني جنوبي المسرح، ومجموعة من البيوت العائدة إلى العصر الروماني، كما توجد ثلاثة جسور تعود إلى نهاية العصر الروماني أو بداية العصر البيزنطي، وبالنسبة إلى مسرح سيروس فيعد ثاني أكبر مسرح في سورية بعد أفامية، وقد بلغ قطره ١١٥م.
أما مدينة دورا أوروبوس فقد شيّدت على ارتفاع ٤٠م في موقع متميز فوق هضبة مطلة على الضفة اليمنى للفرات الأوسط، وتبلغ مساحتها ٧٥ هكتاراً، وتتسم بتحصيناتها المتمثلة بالقلعة المطلة على سفح الفرات الشديد الانحدار، وأسوارها المدعَّمة بالأبراج، خاصةً تلك الموجودة في الجدران المستقيمة من جهة الغرب. ومن الأبنية الأخرى العديد من المباني كالمعابد وقصر الحاكم والآغور Agora أو الحمامات. كما تتميز المدينة بالشوارع المتعامدة التي جزأتها إلى عدة جزر سكنية منتظمة الأبعاد تحمل خصائص المدينة الهلنستية، لكن لم يرتسم مخطط المدينة الشطرنجي إلا بعد منتصف القرن الثاني ق.م، وتمت المحافظة على شكل المدينة وتنظيمها خلال الاحتلال البارثي للمدينة.
أما مدينة بصرى فبعد إلحاقها عام ١٠٦ م بالولاية العربية تم تنظيم شوارعها بطريقة شبه شطرنجية، وازدانت الشوارع المتقاطعة الرئيسة بالأروقة والمحلات على غرار المدن السورية الكبرى الأخرى خلال العصر الروماني. ويقع المسرح في الجهة الجنوبية من المدينة، وبجوار المدرج في الجهة الغربية وفي أقصى الجنوب يقع ملعب السيرك. أما المقبرة فتقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة، والبركة في الجهة الشرقية، وتوجد بركة أخرى في الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة. وتقع الحمامات في وسط المدينة إضافة إلى الأسواق، في حين يقع المعسكر في أقصى الشمال من المدينة.. الخ. وهكذا حملت مدينة بصرى سمات مدينة متكاملة ومنتظمة خلال العصر الروماني.
مخطط مدينة أفامية | مخطط مدينة بصرى |
وتشترك جميع المدن السورية التي شيدت في العصرين الهلنستي والروماني بمجموعة سمات تتشابه فيما بينها من حيث المخطط العام للمدينة، حيث يتوافق سور المدينة وتخطيطها مع التضاريس المشيَّدة فوقها، وكذلك شبكة الطرق التي تأخذ بصورة عامة شكل رقعة الشطرنج، بحيث تندرج فيها الأبنية الرئيسة ضمن نظام المقاسم أو الجزر، إذ يمكن العثور في كل مدينة من المدن التي تأسست في تلك العصور على فضا منظم ومخصص بتنظيم استعمال الأرض لبنا مقاسم للسكن متشابهة تستعمل كنموذج لتوزيع مناطق السكن، كما خصصت أجزا أخرى لبنا المباني مثل: الآغورا – المعابد – الصروح الرسمية...إلخ. إضافة إلى ذلك توجد الخاصية الدفاعية التي تملكها تلك المدن، إضافة إلى السور الذي يحيط بالمدينة أو القلعة وغيرها، دلّتَ عليها الدراسات والتنقيبات التي قامت في موقعين متباعدين مثل أفامية ودورا أوروبوس، إذ تتشابه بينها من حيث التخطيط العمراني والعناصر المعمارية التي تملكها كلتا المدينتين.
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :