التجارة في العصور التاريخية
تجاره في عصور تاريخيه
-
التجارة
التجارة في العصور التاريخية
نائل حنون
التجارة في العصور التاريخية
كانت التجارة الوسيلة التي تحصل أقوام الشرق الأدنى القديم من خلالها على المواد الخام والمنتجات منذ عصور ماقبل التاريخ. وكان يتم تبادل المواد والمنتجات المحلية بين مواطن السكنى، ويجري نقلها عن طريق البر أو النهر. وعندما ظهر نظام تبادل البضائع ومقايضتها طوّر التجار والوسطا وسائل أكثر تعقيداً لنقل موادهم ومنتجاتهم وحمايتها وتوثيق حركتها وتسويقها. لقد كانت الفعاليات التجارية القديمة تشمل تبادل مواد أساسية وليس المواد الفخمة أو النادرة فقط. وصارت هذه الفعاليات أيضاً قناة مهمة لتبادل المعلومات والتقنيات والأفكار.
من المواد الأولى التي دلّ وجودها في المواقع الأثرية على التجارة حجر الأوبسيديان[ر] الزجاجي البركاني. وقد وجدت الأدوات والمواد المصنعة من الأوبسيديان في مواقع أثرية في سورية وبلاد الرافدين تعود إلى العصر الحجري الحديث وما بعده. إن وصول هذه المادة إلى المنطقة لابد أن يكون نتيجة لفعاليات تجارية نقلتها من مناطقها الأصلية إلى تلك المواقع. والمناطق التي يجلب منها الأوبسيديان محددة ومعظمها في شرقي بلاد الأناضول- حيث بحيرة فان- وفي وسطها. وبسبب طبيعة تركيب هذه المادة يمكن تحديد مصدرها بوساطة التحليل المختبري. ومن المواد الأخرى التي تشهد على التجارة المبكرة في عصور ما قبل التاريخ حجر البازلت البركاني الذي كانت تصنع منه مجارش الحبوب، وهي من الأدوات الشائعة على نحو واسع في تلك العصور. وتجدر الإشارة إلى أن عدة مئات من هذه المجارش وجدت في غرفة واحدة في موقع يارم تبه[ر] في شمالي العراق، وقد دل اكتشافها على وجود مشاريع تجارية تخصصية تنقل فيها المواد الخام من الشمال الغربي وتصنع في هذا الموقع الذي يعود تاريخه إلى دور العبيد في الألف الخامس قبل الميلاد. ويأتي الدليل الكتابي على وجود مثل هذه التجارة المتخصصة من العصر البرونزي الوسيط في رسالة من مدينة ماري تشير في نصها إلى حمولة قارب من أحجار الجرش في طريقها إلى مدن جنوبي بلاد الرافدين. ومما لا شك فيه أن هذه الأحجار وصلت إلى ماري من الشمال نزولاً مع نهر الخابور ثم الفرات.
مجوهرات من إيبلا استوردت موادها الخام من مناطق بعيدة |
لقد كان نهر الفرات لأمد طويل الممر الأساسي للتجارة والتبادل الحضاري، واكتسب أهمية حقيقية في هذا المجال خلال دور أوروك الأخير في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد. فحينذاك ازدهرت في وادي الفرات مواقع حملت الخصائص الحضارية المشتركة لهذا الدور مع المواقع الجنوبية، واستمر ظهورها صعوداً مع النهر إلى بلاد الأناضول. ومن الواضح أن أساس ازدهار تلك المواقع هو دورها في تجارة المواد الخام والأخشاب من جبال طوروس والأمانوس إلى مواطن الحضارة في وادي النهر وجنوبي بلاد الرافدين. ولم يقتصر المظهر التجاري لتلك المواقع، ومنها حبوبة كبيرة وتل قناص[ر]، على المواد الخام وإنما شمل منتجات مهمة مثل الفخار. فقد انتشر الفخار المصقول والدقيق الصنع المميز لهذا الدور بمساقات تجارية ليغطي منطقة تتجاوز منطقة الفرات السوري وبلاد الرافدين لتصل إلى موقع غودين تبه Godin Tepe على الهضبة الإيرانية. ومن المواد التي كانت تجلب بالتجارة وعثر عليها في مواقع الفرات مثل حبوبة كبيرة وجبل عارودة[ر] الصوان، الأوبسيديان، الرخام، المرمر، الصدف، النحاس/ البرونز. وفي دور جمدة نصر (أواخر الألف الرابع قبل الميلاد) وخلال الألف الثالث قبل الميلاد ضمت المواقع الأثرية السورية، مثل شغار بازار وتل براك، الكثير من المواد التي جلبت بالتجارة من خارج المنطقة. ومن هذه المواد: الرخام، المرمر، الحجر الصابوني steatite، حجر الحية serpentine، اللازورد، الكريستال الصخري، عرق اللؤلؤ، الصدف، البازلت، الحجر المتبلورcalcite ، الحجر الرملي، الحجر الطفلي shale، المرو quartz، النحاس/ البرونز، والحديد.
شهد العصر البرونزي المبكر تطوراً كبيراً في التجارة التي شملت مساقاتها تبادل النحاس والقصدير، الأسلحة والأدوات البرونزية، المعادن الثمينة، الحلي، الفخار، الأنسجة، حجر البنا ، الأخشاب، الأثاث، العاج، القار، الماشية، زيت الزيتون والأطعمة. وإذا كانت معظم المواد المصنعة في مواقع سورية مثل مدن وادي الفرات؛ مخصصة للاستهلاك المحلي فإن بعضاً منها كان مخصصاً للمتاجرة مع مدن أخرى مجاورة، أو حتى مع مدن في مناطق أخرى مثل شمالي بلاد الرافدين. ويدل وجود القصدير واستعماله في موقع قره قوزاق[ر] في وادي الفرات- على سبيل المثال- على وجود تبادلات تجارية بعيدة المدى. فالقصدير كان يتوجب جلبه من مناطق بعيدة تصل شرقاً حتى أفغانستان. وتدل المصادر الكتابية من إيبلا على أن هذه المدينة المهمة في غربي سورية قد استفادت في تجارتها من نهر الفرات الذي كان يصل إلى مدن مهمة في الجنوب الشرقي مثل ماري وكيش. وكانت إيبلا تستورد اللازورد في مقابل صادرات تشمل الصوف، الزيت، الخمر، الحبوب.
مشهد تخيلي للتجارة في إيبلا |
كان النحاس يجلب من مناجم إرغني- مادين Ergani- Maden في شرقي تركيا لتشكل منه الأسلحة والأدوات والدبابيس التي وجدت في أضرحة العصر البرونزي المبكر في مواقع كركميش، جرابلس تحتاني، تل أحمر وقرة قوزاق. أما الأطواق، الدلايات، الأساور، الخواتم والحلي الأخرى المصنوعة من الفضة المستوردة من بلاد الأناضول أيضاً، فقد وجدت في مواقع سورية مثل جرابلس تحتاني والسلنكحية. وقدمت البناية الكبيرة التي اكتشفت بقاياها في القطاع الرابع في تل السويحات[ر] في وادي الفرات، جرار خزن لايوجد مايشابهها إلا في منطقة غزة في جنوبي فلسطين. وهذا ما دعى الباحثين إلى عدها دليلاً على وجود تجارة برية بعيدة المدى، ونسبوا إلى هذه البناية التي تعرضت للحريق في نحو 2100 ق.م دوراً في هذه التجارة مما يعني أن موقع السويحات كان محطة تجارية مفصلية في تبادل البضائع المتاجر بها شرقاً وغرباً.
تعرف من الإشارات المتفرقة في النصوص القديمة بعض المعلومات عن التجار وممارستهم لأعمالهم. ويفهم من هذه الإشارات الكتابية التي تعود إلى العصر البابلي القديم أن التجار المستقلين كانوا يعملون تحت إشراف الموظفين الحكوميين، وكان المستثمرون يقرضونهم رأس المال مقابل ضمان إعادته. وكانت القوافل تصحب بقوة حماية إذا وجد احتمال تعرضها للخطر، أو أن قوة الحماية هذه ترسل لاحقاً حينما تواجه قافلة مخاطر تهدد سلامتها. وهذا ما يتضح من رسالة كتبها يسمخ- أدّد[ر] (ملك ماري) إلى حمورابي (ملك بابل) بصدد إرساله مرافقين لحماية قافلة تعرضت للمشاكل في طريق عودتها من دلمون[ر] إلى بلاد الرافدين. وكان من أهم طرق القوافل التي تجلب البضائع من الشرق- خصوصاً القصدير- الطريق الذي يمر عبر أنشان (تل مليان في إيران) وسوسة (الشوش في بلاد عيلام) ويصل إلى إشنونّا[ر] في منطقة ديالى (في شرقي العراق)، ثم يتجه شمالاً ليعبر نهر دجلة ويذهب إلى شغار بازار في أعالي الخابور، أو إلى الخابور الأوسط حيث توجد مدينة قَتُنا Qattuna التي أدت دور المينا النهري.
لقد قدم اكتشاف سفينة تجارية سورية قديمة غارقة في أولو- بورون Uluburun عند الساحل الجنوبي التركي؛ معلومات مهمة عن التجارة البحرية في العصر البرونزي الحديث. فهذه السفينة التي تحدد تاريخها في 1306 ق.م كانت مصنوعة من خشب الأرز، ويبلغ طولها نحو 15 م، وقد غرقت بحمولتها من بضائع مصدرها سورية، بلاد الرافدين، مصر، قبرص، إيجيا وإيطاليا. وشملت المواد التي كانت تتاجر بها هذه السفينة - ووجدت بقايا منها بين حطامها في قاع البحر المتوسط- عشرة أطنان من سبائك النحاس القبرصي وطنا من سبائك القصدير فضلاً عن كمية من الزجاج الملون، صمغ البطم، خشب ثمين، عاج فيلة وفرس النهر، كميات كبيرة من الحبوب والمواد الغذائية التي تشتمل على اللوز، الجوز الصنوبر، الرمان، التين، العنب، الزيتون والكزبرة. ودلت 24 مرساة حجرية على متن السفينة على أصلها السوري. ومع بداية الألف الأول قبل الميلاد ازدهرت موانئ في الساحل الشرقي للبحر المتوسط مثل صور وصيدا وأدارت تجارة بحرية بعيدة المدى شملت المعادن والأخشاب والسلع المصنعة لتستكمل بتجارة برية في العمق السوري تنقلها قوافل الجمال وشملت البخور والتوابل.
- أهم المراكز التجارية القديمة:
من أشهر المراكز التجارية الخارجية التي ارتبطت بالفعاليات التجارية لسورية وبلاد الرافدين القديمة كانيش[ر] (كول تبه حالياً في شمالي وسط تركيا). يضم موقع هذه المدينة القديمة 18 طبقة، وتظهر في الطبقات 13-11 (من العصر البرونزي المبكر الثالث) دلائل على صلات تجارية مكثفة مع شمالي سورية تفصح عنها الأختام الأسطوانية والمواد المعدنية والفخار المكتشف في هذه الطبقات. وقد توسعت هذه المدينة كثيراً في العصر البرونزي الوسيط وأقام فيها تجار آشوريون وأموريون مارسوا التجارة بنشاط لما يقرب من قرنين من الزمان. وفي سورية نفسها ازدهرت عدة مراكز تجارية مهمة على مر العصور؛ ومن هذه المراكز:
- إيبلا: كانت مركزاً لتوزيع المعادن، وكانت السلع تنقل منها وإليها بصفة ضرائب وهدايا تتبادلها الدول. وقد كشف في موقع إيبلا (تل مرديخ) عن مواد مصرية يمكن تحديد تاريخها من عهدي الفرعونين خفرع (الأسرة الرابعة في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد) وبيبي (الأسرة السادسة) وتشير نصوص إيبلا إلى تجارة دولية في المصنوعات النسيجية وإلى قيام تجار من هذه المدينة بالاتّجار بالأنسجة مع تجار من أور وكيش في بلاد الرافدين ومجدو في فلسطين.
ساحة قصر إيبلا ملتقى التجار |
- ماري: قام القصر الملكي في ماري بدور مهم في التجارة واستقبال القوافل التجارية، وكان التجار الأجانب والمحليون يجلبون إليه بضائعهم. وكان أحد أجنحة القصر يستخدم لتفريق البضاعة، في حين تتلقى مشاغل القصر المواد الخام القادمة من مناطق بعيدة ومتعددة. فهناك أوعية للشرب كانت تأتي من تُكرِش Tukrish في شمالي بلاد عيلام، والزيت يأتي من تُنِب Tunip في شمالي سورية، والأنسجة تأتي من توتُب Tuttup (تل خفاجي في منطقة ديالى)، والسجاد يأتي من يمخد (حلب)، والقصدير من الشرق عن طريق أنشان وإشنونّا، والأردية وبعض الصبغات النادرة من كانيش، والنحاس من ألاشيا (قبرص)، والأسلحة والأقداح والصنادل من كبتارا Kaptara (كريت). وكان التجار الذين يجلبون البضائع يُطعمون في القصر الملكي في ماري، إذ ترد الإشارة في أحد النصوص إلى توزيع قطع من لحم الضأن على رجال قادمين من بابل، حاصور، يمخد، كركميش، إيمار وإشنونّا.
ثور صنع في ماري من اللازورد المستورد (2400 ق.م، متحف اللوفر) | تميمة من ماري صنعت من اللازورد (2430-2500 ق.م، متحف اللوفر) | جرار في مينا أوغاريت كانت معبأة زيتاً لتصديره |
- أوغاريت: خلال مرحلة ازدهار أوغاريت في العصر البرونزي الحديث، كانت سفن من بلاد الإغريق، كريت، قبرص ومصر تقصد بانتظام هذه المدينة. وفي الوقت نفسه تدخل إليها وتخرج منها منتجات وبضائع أخرى عن طريق البر إلى أنحا متعددة. ويفهم من أحد نصوص أوغاريت أن بعض التجار كانوا وكلا تجاريين للملك، وأنهم كانوا يمنحون ذهباً- أو ما يعادل قيمة الذهب- لإجرا الصفقات التجارية.
- تيرقا: كشفت التنقيبات الأثرية في موقع مدينة تيرقا (تل العشارة حالياً) عن غرفة في أحد البيوت ضمت 76 مادة أثرية معظمها أوعية فخارية يعود تاريخها إلى نحو 1700 ق.م. وعثر في أحد هذه الأوعية على أعواد قرنفل متفحمة. ولما كان المصدر الوحيد للقرنفل في ذلك الوقت الشرق الأقصى فقد عُدّ هذا الاكتشاف دليلاً على تجارة بعيدة المدى إلى حد لم يكن متوقعاً من قبل.
- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الرابع مشاركة :