البازي (تل-)
بازي (تل)
al-Bazi (Tell) - Al-Bazi (Tell)
البازي (تل -)
نائل حنون
يقع تل البازي Tell al- Bazi على الجهة اليسرى (الشرقية) من نهر الفرات، ويبعد نحو 15كم شمال- شرقي سد تشرين. ويطل التل على جزء من وادي الفرات يتصف بالاتساع بحيث يكون سهلاً خصباً فسيحاً. وقد غمر هذا السهل بمياه بحيرة سد تشرين بعد إنشاء هذا السد.
يتألف موقع تل البازي من قلعة عالية ومدينة سفلى، ويفصله عن وادي الفرات خندق اصطناعي. تحتل القلعة القسم الجنوبي من الموقع، وتقوم فوق امتداد صخري من الهضبة التي تحد وادي النهر من الجهة الشرقية. يبلغ قطر القلعة 200م، ويصل ارتفاعها إلى 60م. أما المدينة السفلى فتمتد على مستوى أوطأ بكثير من مستوى القلعة إذ لا يزيد ارتفاعها عن أرض وادي النهر إلا بضعة أمتار. وهذه المدينة تشغل الجهة الشمالية والشمالية- الغربية من الموقع، وقد شيدت فوق مرتفع حصوي طبيعي يبرز من أرض الوادي إلى ارتفاع بسيط. إن الجزء الشمالي مغطى جزئياً ببيوت قرية البنات الحديثة مما حد من إمكان التنقيب فيه على الرغم من أن جدراناً من بقايا المدينة القديمة تظهر على سطح الموقع في بعض المواضع هناك. لكن بيوت القرية الحديثة لم تمتد إلى الجهة الشمالية- الغربية من الموقع حيث توجد بقية المدينة السفلى التي أطلق عليها المنقبون اسم «المدينة الغربية» (Weststadt). ويشغل هذا الجزء من المدينة السفلى مساحة تبلغ أبعادها 200× 120م، وقد شملت التنقيبات نحو نصف مساحة هذا الجزء.
تل البازي - الجزء الغربي من المدينة (القرن 13 ق.م) |
بدأت بعثة آثارية من معهد الآثار الألماني في سورية أعمال التنقيب الأثري في تل البازي منذ عام 1993م، واستمرت هذه الأعمال لعدة مواسم حتى عام 2004م. في المواسم الثلاثة الأولى تم التحري في عدة أجزاء من القلعة على نحو مختصر، ثم تواصلت أعمال التنقيب في المدينة السفلى في شمال- غربي الموقع (المدينة الغربية) حتى إنجاز تشييد سد تشرين وغمر الأجزاء الواطئة من الموقع بمياه بحيرة تشرين. وكانت آخر أعمال التنقيب في عام 2004م في موضع القلعة. دلت التنقيبات على أن الموقع مر بمرحلتي ازدهار رئيستين الأولى في أواخر العصر البرونزي القديم (2300- 2100ق.م)، والثانية في العصر البرونزي الحديث (1500- 1175ق.م). واكتشفت فوق القلعة منشأة محصنة من العصر الروماني ضمت في بعض أجزائها جدراناً من العصور الأقدم وكانت ما تزال قائمة حينما شيدت هذه المنشأة، كما اكتشفت هناك آثار برج مراقبة عثماني. وقد وجهت التنقيبات في القلعة للكشف عن نظام الأسوار الدفاعية المحيطة بها والممرات والمداخل المؤدية إليها. ويلاحظ أن سلسلة الأسوار المشيدة من كتل حجرية ضخمة فوق الصخور الطبيعية الناتئة أدت إلى وظيفة تحصينية من ناحية، ومن ناحية أخرى استعمل تدرجها لبناء منحدرات ضيقة. ودلت الحفائر الصغيرة الاختبارية التي فتحت في سطح المرتفع المركزي على وجود آثار منشآت معمارية عامة ضخمة تأكد وجودها من خلال اكتشاف المخاريط الجدارية الطينية التي كانت تزين واجهات الجدران. وكذلك وجد جبٌّ عميقٌ منحوتٌ في الصخور يبرهن على الطابع الحربي للقلعة. وجميع هذه الخصائص التحصينية المحكمة استعملت مجدداً في العصر الروماني عندما جرى بناء المنشأة المحصنة هنا.
أثبتت التنقيبات الأثرية - خلال المواسم الأخيرة- أن معظم عمارة القلعة تعود إلى العصر البرونزي القديم في الألف الثالث قبل الميلاد، ويبدو أنها كونت في ذلك العصر القسم الأكبر من المدينة. وفي العصر البرونزي الحديث استمر استعمال هذه القلعة وشيدت غرفٌ عدة فيها. وقد وجد في القلعة حوض محفور في الصخر، ووجوده يشير إلى الدور الدفاعي لها بصفتها حصناً يلاذ به في أوقات الحروب. وكشفت بجوار هذا الحوض معالم بناية عامة كبيرة بجدران ضخمة يتجاوز عرضها مترين وبأرضيات رصفت بألواح حجرية كبيرة. إن هذه الخصائص المعمارية وطبيعة المواد المكتشفة في هذه البناية تشير جميعها إلى أهميتها ووظيفتها العامة. ومن بين تلك المكتشفات- فضلاً عن المخاريط الجدارية الطينية- مصغران طينيان لكبد خروف ولأمعائه وكلاهما له صلة بقراءة الفأل [ر]. وقد سبق أن عثر في عدد من المواقع الأثرية في سورية والعراق على مصغرات طينية أو فخارية لأكباد الخرفان مع نصوص مسمارية تفسيرية منقوشة عليها في بعض الأحيان، لكنها المرة الأولى التي يكتشف فيها مصغر للأمعاء.
تل البازي - عمارة الطبقة الأولى في الجزء الغربي من المدينة |
ومن أهم ما اكتشف في هذه «البناية المركزية» بحسب الاسم الذي أطلقه عليها المنقبون؛ رقيمان طينيان يحملان نصين مسماريين أكاديين يدل مضمونهما على أن ملك دولة ميتاني [ر] ساوشتاتار Saushtatar وخليفته أرتاتاما Artatama (في نهاية القرن الخامس عشر قبل الميلاد) قاما بتسليم حصنين قريبين إلى سكان الموقع القدماء. ولهذين النصين أهمية كبيرة، فقد أمكن من خلالهما التعرف على الاسم القديم للموقع، وهو «بازيرو» الذي يبدو أنه أصل الاسم الحالي للموقع أي «بازي». وفضلاً عن الاسم القديم للموقع قدّم الدليل الكتابي معلومات مهمة عن هذه المدينة، إذ اتضح أنها كانت تدار من قبل مجلس من كبار السن ولم يكن لها ملك، وأن الفوارق الطبقية في مجتمعها كانت قليلة نسبياً. وهذه البنية الاجتماعية يمكن أن تقدم دليلاً يساعد على فهم الملامح المعمارية في الموقع. ذلك أنه لم توجد مبان رسمية في المدينة السفلى الغربية ولا في القلعة على الهضبة المرتفعة باستثناء «البناية المركزية». ويمكن أن تكون هذه البناية مقراً لمجلس كبار السن، وهذا ما يفسر وجود الكثير من الأوعية الفخارية والمواد الغذائية فيها. أما تبعية المدينة إلى مملكة ميتاني خلال العصر البرونزي الحديث فتتضح من مضمون النصين المسماريين المكتشفين في القلعة. ومن المعروف أن نفوذ ميتاني امتد خلال هذا العصر من الساحل السوري غرباً إلى جبال زاغروس شرقاً. وفي وقت لاحق من العصر البرونزي الحديث نفسه استعملت القلعة حصرياً مركزاً للعبادة في المدينة. وقد كشف عند أطرافها عن وحدات سكنية بمرافق صغيرة استغلت جزئياً لإقامة الكهنة، وضمت فسحات كانت تقدم فيها مواد النذور والأضاحي من الحيوانات.
تتمثل بقايا العصر الروماني في القلعة بعدة غرف ضمت إحداها دكة مذبح [ر]. والحصن الروماني مشيد فوق جدران العصر البرونزي الحديث بعد إزالة الأجزاء العلوية منها إلى ارتفاع متر واحد فقط. وكانت وظيفة هذا الحصن في العصر الروماني المراقبة وحماية نقطة عبور مهمة على الفرات.
لقد نشأت المدينة السفلى في تل البازي خلال العصر البرونزي الحديث، وبقيت مزدهرة طوال هذا العصر. ومن المرجح أنه حينما ضاقت المدينة الشمالية بالسكنى استحدث التوسع الغربي لها حيث وجد الجزء الذي أمكن التنقيب فيه وأطلق عليه المنقبون تسمية «المدينة الغربية». ويبدو أن هذه «المدينة الغربية» استحدثت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد على مصطبة من الحصى بارتفاع قليل فوق السهل الفيضي للفرات يكفي لحمايتها من فيضانات النهر. ودلت التنقيبات الأثرية على أن هذا الجزء من المدينة يتكون من طبقة واحدة مرت بثلاث مراحل بالحد الأقصى. وتأتي هذه الطبقة تحت سطح الموقع مباشرة، وقد أمكن الكشف عن مساحة منها تزيد على 800م٢. ويبدو أن أحياء «المدينة الغربية» جرى التخطيط لها وشيدت خلال مدة زمنية قصيرة، ثم دمرت بالقوة بعد زمن لا يتجاوز مئة عام.
تشتمل المساحة التي تم التنقيب فيها من «المدينة الغربية» على عدة قطاعات سكنية تضم بيوتاً بلغ عدد ما استظهر منها- على نحو كامل أو جزئي- خمسين بيتاً. وهذه البيوت مرتبة على طول شارع يبلغ عرضه ستة أمتار، وهي متلاصقة مع بعضها ولكن هناك أزقة ضيقة تفصل فيما بينها أحياناً. ويظهر أنه لم يكن يسمح بدخول تلك الأزقة إلا لسكان البيوت التي تؤدي إليها، وهذا ما يتضح من وجود الأبواب في مداخل الأزقة. ويمكن تمييز حيين سكنيين ينتظمان في مواجهة بعضهما في الجزء الشمالي- الشرقي من المساحة التي شملتها التنقيبات.
تظهر البيوت المكتشفة تشابهاً في المخطط، وكذلك في تقنية البناء، بحيث يمكن أن تعزى إلى نمط خاص بتل البازي. وفي معظم الحالات تكون الجدران مشيدة بلبن مربع فوق أسس حجرية. وقد وجدت الجدران المحروقة في الجهة الجنوبية من المساحة المنقبة محفوظة إلى ارتفاع 1.5م. يتمثل العنصر الأساسي في عمارة بيوت «المدينة الغربية» بغرفة مع مصطبة في مقدمتها، وكانت هذه الغرفة الرئيسة تستعمل لأغراض متعددة، وتتركز فيها معظم نشاطات العائلة المعيشية والدينية بدلالة وجود مكتشفات صغيرة فيها ذات مغزى معين في الشعائر مثل الدمى الطينية. فضلاً عن ذلك استعملت الغرف الرئيسة في البيوت لتكون مشاغل للحرف العائلية إذ اكتشفت عشرات القوالب الكبيرة التي كانت تستعمل لصب المعادن من أجل صناعة المعدات البرونزية. ووجد في أحد البيوت- في الجهة الشمالية- الغربية من قطاع التنقيب - قالبُ صبٍّ صغيرٌ لصنع الحلي الذهبية على ما يرجح.
العنصر المعماري الثاني في مخططات البيوت يتمثل في الغرف المربعة الصغيرة المجاورة للغرفة الرئيسة. ويراوح عدد هذه الغرف في كل بيت ما بين 3 و6 غرف، وكانت تستعمل أساساً للخزن وحفظ المؤونة. عثر في هذه الغرف على مجموعة كبيرة من الجرار الفخارية المتشابهة، وأوانٍ أخرى كانت مخزونةً في غرفة واحدة أو أكثر في البيوت. وشملت المواد المخزونة أدوات عديدة وأسلحة حجرية وبرونزية وحليّاً من مواد نفيسة مثل العقيق أو الذهب وكذلك بعض الأختام الأسطوانية.
من الواضح إن معظم العائلات كانت متخصصة في صناعة نوع من المنتجات. فقد عثر على كميات من المواد الخام فضلاً عن سلع مصنعة كاملة أو جزئية مع عشرات القوالب التي استخدمت في صناعتها. ولم يكن السكان القدماء حرفيين فقط وإنما كانوا تجاراً أيضاً، إذ اكتشفت في كل بيت تقريباً كمية من الأوزان [ر] الحجرية التي كانت تستعمل في وزن البضائع. ومن الأدلة على ثراء سكان تل البازي القدماء ونجاحهم في ممارسة التجارة وجود بعض القطع النادرة المستوردة مثل أوعية مواد التجميل الصغيرة المصنوعة من الفرت وهي عجينة اصطناعية من مواد بلورية كانت تستعمل في صناعة الزجاج [ر] أيضاً.
إن طبيعة النشاطات الصناعية والتجارية التي كانت تمارس في البيوت ترجح أن تكون أجنحة الإقامة العائلية فيها بالطوابق العليا التي ثبت وجودها في عدد من الحالات. وقد أمكن التأكد من وجود الطوابق العليا من خلال العثور على الأدوات فوق بقايا السقوف المتداعية. وفي وسط المنطقة السكنية وجد موضع بخصائص مختلفة كلياً عن البيوت المحيطة به. وأظهرت التحريات أن هذا الموضع كان فضاءً مفتوحاً متدرجَ الارتفاع خلال المرحلة الأولى من نشوء «المدينة الغربية». وفي المرحلة الثانية جعلت المدرجات بارتفاع أقل وشيدت عليها بعض الغرف غير المتقنة البناء. وقد فسر المنقبون هذا الموضع على أنه مكان سوق كان مفتوحاً خلال المرحلة الأولى، وفي المرحلة الثانية أصبح مسقفاً جزئياً. وهذا يقرب الصورة التي يمكن الخروج بها عن هذه المدينة أبان فترة ازدهارها بالاقتران مع المواد المكتشفة فيها. إذ تبدو «المدينة الغربية» أنها كانت مستوطناً مدنياً لتجار وحرفيين، ومن المرجح أنها كانت مركزاً تجارياً للمنطقة حيث كانت تتم المبادلات التجارية بين السكان المتمدنين من جهة والمزارعين والبدو من جهة أخرى فتقدم المصنوعات المختلفة في مقابل المنتجات الزراعية.
لقد حلت نهاية هذا المستوطن المزدهر على نحو مفاجئ وسريع اضطر معه السكان إلى ترك كل ممتلكاتهم تقريباً- بما فيها الأسلحة والحلي والمواد الثمينة الأخرى- في مواضعها، ومن بين تلك المواد خنجر بنصل يصل طوله إلى 30سم. كما أن هؤلاء السكان تركوا بيوتهم نهباً للنيران. ومن غير الواضح في الوقت الحاضر ما إذا كانت نهاية هذه المدينة نتيجة لهجوم معادٍ مباغت أم كارثة طبيعية نجمت عن الحريق الذي التهم المستوطن أو تسببت في حدوثه. وما يمكن أن يقال الآن إن تل البازي ضم بقايا مدينة مهمة احتلت موقعاً وسطاً بين مركزين مهمين هما كركميش في الشمال وإيمار (مسكنة) في الجنوب، وكانت تبعد مسافة 60كم عن كل منهما.
مراجع للاستزادة: - برتولد أينفاك وأديلهايت أوتو، «أعمال التنقيب في تل بازي»، في أمكنة وأزمنة، 25 عاماً من الأبحاث الأثرية في سورية 1980-2005، (معهد الآثار الألماني- قسم المشرق، فرع دمشق الخارجي، دمشق، 2005م). - E. Einwag und A.Otto, “Tall Bazi-Vorbericht über die Untersuchungen 1994- 1995”, Damaszener Mitteilungen 9 (1996), pp. 15- 45. - E. Einwag and A.Otto, “Tall Bazi 1998 und 1999- Die letzten Untersuchungen in der Weststadt, Damaszener Mitteilungen 13 (2001), pp. 65- 88 |
- التصنيف : العصور التاريخية - المجلد : المجلد الثالث مشاركة :