اورليانوس (امبراطور)
Aurelianus - Aurelien

أورليانوس (الامبراطور -)

(٢١٢م - ٥٧٢م)

رفعت هزيم

 

انهارت حدود الامبراطورية الرومانيّة فجأةً عام 260م، فقد اجتاح الفرس الولايات الشرقيّة، وغزت القبائل الجرمانيّة في غربي أوربا بلاد الغال (فرنسا) والبلقان حتى صارت تهدّد إيطاليا نفسها، وفيها العاصمة روما، وكان قادة الجيوش الرومانية التي تدافع عن الامبراطورية في الجبهتين الشرقية والغربية يتمتعون بسلطات واسعة؛ مما جعل جنودهم ينظرون إليهم نظرتهم إلى الامبراطور. ثمّ زاد الطين بلّة تمرّدٌ وقع عام 268م قادهُ أوريلوس Aureolus قائد فيلق الخيّالة الدلماتيّين المُعسكِر في شمالي إيطاليا، ولم يستطع الامبراطور - وهو غالينوس Gallienus - القضاء عليه قضاءً مبرماً. وكان أورليان/أورليانوس (Lucius Domitius Aurelianus) - وهو مواطن رومانيّ وُلد في إقليم الدّانوب الأدنى - يقود آنذاك مع زميله كلاوديوس Marcus Aurelius Claudius جيوش الخيّالة الموالية للامبراطور، ويظهر أنهما شعرا بما يملكان من قوّة، واستغلا ذلك الوضع، فاتفقا مع قائد الحرس الامبراطوري «هراكليانوس» Heraclianus على خلع الامبراطور، فتمّ لهم ذلك أواخر ذلك العام، وأشاعوا بعد مقتله أنه أوصى بأن يخلفه كلاوديوس. وتمكّن الامبراطور الجديد من إلحاق الهزيمة بالمتمرّد المُطالِب بالعرش أوريلوس، وصدّ الغزاة الجرمان في شمالي إيطاليا. ولم يخلد بعدها إلى الراحة، فقد أعلنت فيالق منطقة «الراين» تمرّدها، ولكنه لمْ يعشْ ليحسم الأمر؛ إذ صرعه وباء الطاعون مطلع عام 270م، فعيّن مجلس الشيوخ أخاه كوينتيلوس Quintillus خلفاً له، غير أنّ الجيش الروماني الموالي لكلاديوس وأورليانوس رفض ذلك؛ لأنه رأى أنّ الامبراطورية بحاجةٍ إلى قائدٍ عسكريٍ خبير يُمكّنها من النهضة من كبوتها، فاختار أورليانوس - الذي كان آنذاك يُحارب القوط - لأنّ مزاياه في القيادة والقتال كانت بيّنة في عهدَي غالينوس وكلاوديوس. فسار إلى دلماتيا لقتال منافسه، وأشاع أنّ كلاوديوس هو الذي اختاره - دون أخيه - لخلافته، فلمّا التقى الطرفان في نيسان/أبريل انفضّ جيش كوينتيلوس عنه، فدبّ اليأس في قلبه، وأقدم على الانتحار.

واعتلى أورليانوس العرش - بعد انتهاء النزاع مع منافسه الذي دام ثلاثة أشهر- في أيار/مايو عام270م، وكانت مهمّة الامبراطور الأولى إكمال ما فعله سابقاه - غالينوس وكلاوديوس - في سبيل إعادة توحيد الامبراطورية وردّ الغزاة، فخاض في الشمال والغرب عدداً من المعارك انتهت إلى طرد الجرمان وحلفائهم من شمالي إيطاليا، وتمكّن من إزاحة الخطر عن إقليم الدانوب الأدنى. ثم عبر البوسفور في خريف عام 271م؛ ليتجه شرقاً بغية استعادة السيطرة على الولايات هناك، حيث أصبحت زنوبيا[ر] ملكة تدمر في الأعوام التي تلت اغتيال زوجها أذينة[ر] حاكمة لبلاد الشام ومصر، ووصل أحد جيوشها إلى آسيا الصغرى، فنجح أورليانوس في أداء تلك المهمّة نجاحاً تامّاً، وخاض ثلاث معارك مظفرة مع القوات التدمرية، كانت أولاها في آسيا الصغرى والثانية قرب أنطاكية والثالثة الحاسمة قرب مدينة حمص، ثم زحف بجيوشه نحو تدمر، وحاصرها، ونجح في القضاء على حكم زنوبيا، واستسلمت له تدمر، فدخلها، وترك فيها حامية رومانية، وعاد مرّةً أخرى إلى الغرب؛ ليصدّ غارات الغزاة في شمالي الدانوب، فبلغه هناك أنّ تدمر ثارت على حاميتها الرومانية، فعاد إليها مسرعاً، ودمّر أسوارها، وترك جنوده يقومون فيها بأعمال السلب والنهب والتخريب. ثم سار إلى مصر؛ ليقمع تمرّداً آخر، فلمّا انتهى منه اتجه غرباً للقضاء على الولاة المنشقّين في بلاد الغال وإسبانيا وبريطانيا، وكان منهم تِتريكوس Tetricus حاكم بلاد الغال الذي كان يواجه غزواً خارجياً من الجرمان برّاً وبحراً؛ وقلاقل داخلية تتمثّل في عصيان الجنود ومكائد بعض الولاة، فرأى أنّ الخضوع لأورليانوس يخلّصه من هذه المتاعب كلها، ولذا أبلغ الامبراطور سرّاً بقراره هذا، فلمّا حشد الطرفان جيوشهما لخوض المعركة الفاصلة قرب شالون Châlon في شمالي الغال سارع تِتريكوس للانضمام إلى الامبراطور تاركاً جيشه - بذلك - دون قائد؛ مما أدى إلى نصرٍ باهر لأورليانوس، وكوفئ تِتريكوس بتعيينه والياً على ولايةٍ في جنوبي إيطاليا. وهكذا بلغ أورليانوس قمّة مجده، فلما عاد إلى روما عام 274م أقيمت الاحتفالات تكريماً له، وضُربت النقود التي تحمل شعارات تمجّد انتصاراته، نحو «مُحْيي الشّرق» و«مُحْيي العالم».

وشُغل الامبراطور في بداية عهده بمعالجة الأوضاع الاقتصادية والمالية السيّئة الناشئة من نفقات الحروب، وأعمال التمرّد والثورة والغزو، وغشّ العاملين في دار الضرب في روما المعادن التي تُصنع منها النقود؛ إذ أدّى ذلك كله - ولاسيما قلّة الضرائب الواردة من الولايات - إلى نقص إيرادات الدولة وانخفاض قيمة النقود، فعمل أورليانوس بعد نجاحه في إعادة فرض سلطة الدولة على إعادة الثقة إلى النقود الذهبيّة والفضّية في روما وفي الولايات بتحسين صناعتها وزيادة وزنها وإعادة إصدار النقود البرونزيّة. ومرّتْ على الطرق العامة عهود طويلة من الإهمال بسبب فقر الحكومة المركزية وحكومات الولايات، فاستأنف أورليانوس - وهو يدرك أهمية الطرق في تلك الدولة المترامية الأطراف - أعمال الإصلاح والصيانة التي بدأها سلفاه الامبراطوران ڤاليريان Valerianus وغالينوس ثم تابعها خلفاؤه من بعده. كما شرع أورليانوس ببناء سور روما الذي يبلغ طوله نحو عشرين كيلومتراً، وعرضه نحو أربعة أمتار، وارتفاعه نحو سبعة أمتار، ولكنّ السور - الذي ما يزال معظمه قائماً إلى اليوم - لم يكتمل بناؤه إلا بعد ذلك بسنوات في عهد الامبراطور بروبوس Probus.

وأدرك أورليانوس أهمية التخفيف من الخلافات الدينيّة بين العقائد المختلفة لشعوب الامبراطورية، فحاول التوفيق بينها بتقديس إله «الشمس الذي لايُقهر» Sol invictus؛ ليجتمع بذلك عَبَدَةُ الآلهة الإغريقية والرومانية وأولئك الذين يعبدون الآلهة الشرقيّة على محورٍ موحِّد يواجه المسيحية التي كانت تنتشر حينذاك انتشاراً سريعاً، فيكون إله الشمس سيّد الامبراطورية وحامي الامبراطور الذي يصون عبادته ويرعاها، وهو الذي يضمن الولاء للامبراطور، وهذا ما دفعه إلى إقامة معبد ضخم في روما عام 274م لإله الشمس وتأسيس مجلس لكهنته ورد ذكره في بعض المسكوكات، كما ظهرت الشمس فيها وهي تقدّم الكرة الأرضية له، مما يُعدّ رمزاً لسيطرته على العالم. ويُضاف إلى ذلك ما يرويه المؤرّخ «كاسيوس ديو»[ر] Cassius Dio وهو أنّ أورليانوس خاطب الجنود المتمرّدين قائلاً: إنّ الامبراطور لا يُختار من الجيش بل من الإله! وقيل: إنه كان يطلب من أصحاب الشكاوى المتظلّمين إليه أن يُقبّلوا قدمه لا وجنته! والظاهر أنّ الناس كانوا يشاركون الجالس على العرش الامبراطوري الاعتقاد أنه مقرَّبٌ من الآلهة وناقلٌ لإرادتها، وهو- لذلك - فوق البشر، ولذا وردت إهداءات في النقوش منذ عهد سبتيميوس سيفيروس Septimius Severus تجعل الامبراطور إلهاً أو شبه إله. ويبدو أن أورليانوس أخذ يحيط نفسه بعد أن استتبتْ له الأمور بمظاهر التأليه، وقد ورد في نقشٍ من مستعمرةٍ إفريقية أنه مقدّمٌ إلى «الإله أورليانوس». وهذا يعني أنه كان معارضاً للمسيحية؛ لأنها تهدّد تلك المكانة، ولكنه لم يضطهد المسيحيين، ويروى أنه كان أوّل امبراطور تناشده الكنيسة التدخل لحلّ نزاع داخليّ بمناصرتها ضد أسقف أنطاكية «بولس السموساطي» الذي اتهمته بالهرطقة، فأمر بتنحيته؛ ليتولّى تلك الأسقفية مَن يتفق مذهبه مع مذهب أساقفة روما وإيطاليا.

وحاول أورليانوس أن يستفيد من اضطراب الأحوال في بلاد فارس في الأعوام التي تلت وفاة شابور الأول عام 272م، فعزم على قيادة حملة عسكرية ضد الفرس، واتجه لهذا الغرض مطلع عام 275م شرقاً، فلمّا وصل إلى الضفة الأوربيّة من بحر مرمرة كمن له مجموعة من الضباط، واغتالوه، وقيل إنّ ما دفعهم إلى الاغتيال هو أنّ مُدبّره - وهو المسؤول عن المراسلات الامبراطورية - أراد أن ينجو بنفسه من عقابٍ صارم كان يخشى أن ينزله به الامبراطور، فخدع بعض زملائه بإطلاعهم على قائمةٍ مزوّرة تتضمّن أسماءهم، وأخبرهم أنّ الامبراطور أمر بإعدامهم، وقد اكتشفت الخدعة بعد فوات الأوان، فأُلقي القبض على صاحبها، وأُعدم. ولم يكن لدى الجيش مرشّح لخلافة أورليانوس، فتُرك الأمرُ لمجلس الشيوخ الذي وقع اختياره بعد أشهر من المشاورات - كانت شؤون الدولة تُدار فيها باسم زوجة أورليانوس الامبراطورة سيفيرينا Severina - على عضو المجلس تاكيتوس Tacitus البالغ من العمر 75 عاماً الذي لم يطل عهده، لأنه تُوفِّي في العام التالي.

لقد تمكّن أورليانوس في سنوات حكمه الخمس (270-275م) من استرجاع بريطانيا وإسبانيا وبلاد الغال في الغرب وسورية ومصر في الشرق، وضمان أمن الحدود للولايات الشرقية والغربية، وإعادة توحيد الامبراطورية، والحدّ من الفوضى في أقاليمها، وتحقيق الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي بوسائل، منها: فرض نظام ضريبيّ عادل، وعقاب المختلسين والفاسدين عقاباً شديداً، والمحافظة على استقرار سعر النقود الذهبيّة، ومعاقبة ضربها لمنع التلاعب فيها، فجعله ذلك كله واحداً من أعظم أباطرة روما.

مراجع للاستزادة:

-The Cambridge Ancient History, Vol. XII, (London, 1970).

-K. BUTCHER, Roman Syria and the Near East, (London, 2003).


- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الثاني مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق