البنسلين
بنسلين
Penicillin -
لمى يوسف
التّفاعلات الضارّة ومضادات الاستطباب
البنسلين Penicillin بصورة عامة هو مجموعة من الصادات الحيوية ذات السمية المنخفضة التي تنتج طبيعياً من جنس من الفطريات المكنسية فصيلة الطوقيات Penicillium، ويتم تحضيرها بشكل شبه اصطناعي في المختبر، تستخدم لعلاج أنواع مختلفة من الالتهابات التي تسببها البكتريا عن طريق تثبيط تشكل جدارها الخلوي.
جاء اكتشاف البنسلين Penicillin عام 1928 من قبل عالم البكتريا الاسكتلندي ألكسندر فليمنغ Alexander Fleming (1881-1955) نتيجة المصادفة المحضة، فقد كان العفن الذي لوّث إحدى تجاربه مصدر أوّل صاد حيويٍّ في تاريخ البشريّة، إلا أنّ الأمر تطلّب عقداً من الزمن بعد هذا الاكتشاف ليتحوّل البنسلين إلى الدواء الذي عُرف لاحقاً بمعجزة القرن العشرين. سبق هذا الاكتشاف قيام فليمنغ عام 1923 باكتشاف مهم آخر يعزى إلى المصادفة أيضاً؛ إذ تساقط بعض المخاط من أنفه على بعض المزارع البكتريّة، وكانت المفاجأة باختفاء البكتريا مكان سقوطه في أطباق الزرع، وهو الأمر الذي عزاه فليمنغ إلى مادة طبيعيّة عرفت لاحقاً بإنزيم الليزوزيم lysozyme والذي يوجد في المخاط الأنفي والدّموع ويقوم بحماية الجسم من البكتريا.
في أحد الصباحات الخريفيّة من شهر أيلول عام 1928، جلس ألكسندر فليمنغ على طاولة عمله في مستشفى القديسة ماري بعد عودته من إجازة أمضاها مع عائلته في منزله الرّيفي. قبل مغادرته لقضاء تلك الإجازة كان فليمنغ قد كدّس بجانب طاولته عدداً من أطباق بتري Petni للزرع البكتري اللازمة لعمله البحثي على بكتريا العنقوديات staphylococci. حاول فليمنغ في ذلك الصباح إلقاء نظرة على أكوام الأطباق التي أهملها علّه يجد بعضاً منها لم يتلوث، وسحب عدداً منها فاستوقفه عفنٌ نما فوق الطبق قتل مستعمرات العنقوديات المذهّبة Staphylococcus aureus التي كانت تحيط مباشرة به في حين استمرّت المستعمرات الأبعد في النّمو في ذات الأطباق. أدرك فليمنغ أنّ هذا العفن قد يكون ذا فائدة محتملة، ولدى تحريه عن مصدره وقيامه بمناقشة الأمر مع أخصائي الفطريات توتش C. J. La Touche، تبيّن له أنّ مصدر التّلوث كان غرفة توتش في الطابق السّفلي من البناء، حيث كان توتش يجمع عينات ضخمة من العفنات من عالم كان يجري بحوثاً عن الرّبو، والأرجح أنّ بعضاً منها تطاير ووصل مختبر فليمنغ. أطلق توتش اسم البنسيليوم Penicillium على ذلك العفن، ثمّ قرّر فليمنغ إطلاق اسم بنسلين على المادة الفعّالة المضادة للبكتريا التي يصطنعها هذا العفن.
أجرى فليمنغ لاحقاً مزيداً من التجارب ليحدّد تأثير العفن غير السّام في بكتريا ممرضة أخرى، فثَبُتَ امتلاك البنسلين تأثيراً مضاداً للعنقوديات والعديد من البكتريا إيجابيّة الغرام الأخرى التي تتسبّب بالحمّى القرمزية scarlet fever وذات الرّئة، والتهاب السّحايا والدفتريا. وفي حين لم يكن للبنسلين تأثيراً يذكر في أخماج مثل الحمى التيفيّة التي تسبّبها بكتريا سلبيّة الغرام، فقد أظهر فعّاليّة مضادة لبكتريا سلبيّة الغرام أخرى هي النيسريّة البنيّة Neisseria gonorrhoeae.
نشر فليمنغ مقالةً عن اكتشافاته في مجلّة Journal of Experimental Pathology، ولكنّها لم تلق أيّ اهتمام من الوسط العلمي. ونظراً لأنّ فليمنغ لم يكن كيميائيّاً، فلم يتمكّن من عزل المادّة المضادة للبكتريا (البنسلين)، ولم يستطع المحافظة على فعّاليته مدّة كافية تسمح باستعماله لدى البشر، وتطلّب الأمر اثني عشر عاماً (حتى سنة 1940)، حيث باشر باحثان في جامعة هارفرد هما الأسترالي هوارد فلوري Howard Florey واللاجئ الألماني إرنست تشين Ernst Chain، استعمال تقنيّات كيميائيّة حديثة في حينه، بإنتاج مسحوق بنّي اللون حافظ على الخصائص المضادة للبكتريا مدةّ تدوم عدّة أيام. كانت الجيوش بأمس الحاجة إلى هذا الدّواء على جبهات الحرب العالمية الثانية ممّا استدعى المباشرة بإنتاجه بكميات ضخمة، وقد أنقذ استعماله حياة الآلاف من الجنود الذين كانت الأخماج البكترية تفتك بهم نتيجة أبسط الجروح، كما وجد البنسلين طريقه لمعالجة العديد من الأخماج الأخرى مثل الدفتريا والغانغرين وذات الرّئة والسفلس/الزّهري والسّل.
مُنِح العلماء الثلاثة (فليمنغ وفلوري وتشين) جائزة نوبل في الفيزيولوجيا أو الطّب عام 1945 تكريماً لاكتشافهم البنسلين، ومن ثمّ تصنيعه منتجاً ثابتاً. واختارت مجلة التايم سنة 1999 فليمنغ واحداً من أهم مئة شخصيّة في القرن العشرين بسبب اكتشافه البنسلين، وجاء في تقديم مجلة تايم TIME لفليمنغ أن اكتشافه للبنسلين كان حدثاً غيّر مجرى التّاريخ.
ومع منتصف القرن العشرين ازدهرت الصناعة الصيدلانيّة التي قامت على إنتاج البنسلين الصنعي synthetic الذي هزم عدداً من الأوبئة والأمراض التي فتكت بالبشرية في الماضي، وأسّس هذا الاكتشاف لميدان علمي جديد انصبت جهود الباحثين فيه على اكتشاف صادات حيويّة جديدة وتطويرها.
تعدّ حلقة بتالاكتام ß- lactam- ring الجزء الأهم في بنية البنسلين، وتمتلك مشتقات البنسلين G
وV استبدالات مختلفة بوظائف نوعيّة في المجموعة R (الشكل 1).
الشكل (1) البنية العامة للبنسلين ومشتقاته V وG. |
تصنّف البنسلينات صادات حيويّة قاتلة للبكتريا bactericidal في مرحلة تضاعفها الفعّال، وتكتنف آلية تأثيرها تثبيط الاصطناع الحيوي للببتيد المخاطيّ mucopeptide في جدار الخليّة البكترية. تبدي البكتريا سلبيّة الغرام مقاومة للبنسلينات نظراً لافتقار جدارها الخلوي للببتيدات المخاطيّة المحتوية على حمض المورامين. كما تتمكّن بعض البكتريا من مقاومة البنسلينات نتيجة لإنتاجها إنزيماً يعرف بالبنسليناز penicillinase (أو بتالاكتاماز ß-lactamase) القادر على فتح حلقة البتالاكتام وتعطيل فعلها، وتشمل البكتريا المنتجة لهذا الإنزيم العديد من ذراري العنقوديات. و يمكن تفادي مقاومة هذه البكتريا بإعطاء كابحاتٍ لبتالاكتاماز مثل حمض الكلافونيك clavulanic acid الذي يكتنف في بنيته حلقة بتالاكتام، الأمر الذي يمكّنه من الارتباط بالموقع الفعّال لإنزيم بتالاكتاماز وإحداث تثبيطِ انتحاريّ suicide inhibition للإنزيم.
كان البنسلين G أوّل البنسلينات اكتشافاً، ويعرف أيضاً بـ بنزيل البنسلين benzylpenicillin، وهو أحادي البوتاسيوم شديد الفعّالية ضد العنقوديات (عدا المنتجة للبنسليناز)، والمكوّرات العقديّة (بزمرها A، B، C، G، H، L، M)، والمكوّرات الرئويّة pneumococci، والنيسريّة السّحائيّة Neisseria meningitidis، إضافةً إلى بكتريا أخرى إيجابيّة الغرام، لكنه غير فعّال فموياً بسبب انفتاح حلقة بتالاكتام المحرّض بإفرازات المعدة وحموضتها. يُعطى البنسلين G حقناً ضمن العضل intramuscular، أو بالتّسريب الوريدي المستمر، أو ضمن الصّفاق intrapleural، أو الحقن الموضعي، أو داخل القراب intrathecal. ويلخّص الجدول (1) استطبابات البنسلين G والبكتريا المستهدفة.
الجدول (1) استطبابات البنسلين G والبكتريا الممرضة المستهدفة. | ||||||||||||||||||||||||||||||||
|
أمّا البنسلين V أو VK فهو المضاهئ فينوكسي مِتيل البنسلين G penicillinphenoxymethyl، وهو مشتق قابل للإعطاء فموياً نظراً لمقاومته حلمهة حلقة بتالاكتام المتواسط بالحموضة المعديّة، ولكنّه أقلّ فعّالية من البنسلين G. يوجد أيضاً إيزوكسازوليل-بنسلين isoxazolyl-penicillin مثل أوكساسيلّين oxacillin وفلوكلوكساسيلّين flucloxacillin، وآمينوبينيسيلّين aminopenicillin، وأمبيسيلّين ampicillin، وآسيل-أمينوبينيسيلّين acylaminopenicillin مثل بيبيراسيلّين piperacillin. ومع كون مِتيسيلين methicillin، والفلوكلوكسايلين flucloxacillin غير ثابتين في حموضة المعدة، إلا أنّهما يتمتعان بفعّالية مضادة للبكتريا سلبية الغرام وبالقدرة على تفادي المقاومة البكتريّة.
التّفاعلات الضارّة ومضادات الاستطباب
يمكن أن يصاب بعض المرضى الذين يخضعون للمعالجة بالبنسلين بتفاعل فرط حساسيّة نادر وخطير ومميت يدعى ردّ الفعل التّأقي anaphylactic reaction، وهو ردّ فعلٍ مناعيٍّ ناجمٍ عن تشكّل أضداد موجهة إلى حلقة بتالاكتام التي تؤدي دور النّاشبة بارتباطها ببروتينات النّسج مكوّنة مستضداً. ولذلك ينبغي قبل البدء بالمعالجة تقصي فيما إذا كان لدى المريض سوابق لتفاعلات فرط حساسيّة تجاه البنسلين، أو السيفالوسبورينات، أو تجاه مؤرجات أخرى، إذ لا يعطى البنسلين في حال وجود تاريخٍ أو قصّةٍ لفرط الحساسيّة تجاه البنسلين. ينبغي في حال حدوث مثل هذه التّفاعلات إيقاف المعالجة بالبنسلين فوراً وتقديم المعالجة بالإيبينفرين epinephrine (الأدرينالين adrenaline) بصورة فوريّة وإسعافيّة، كما يتوجب إعطاء المريض كلاً من الأكسجين وحقن الستيروئيدات وريديّاً وتدبير السبل التّنفسيّة بما في ذلك التنبيب.
ينبغي تجنّب الاستعمال العشوائي للبنسلين أو استعماله مع غياب خمج بكتري مثبت أو استطباب وقائي، لعدم وجود أيّ فائدة للبنسلين في هذه الحالات، ولتزايد خطر تطوّر بكتريا مقاومة للصادات الحيويّة، ولذلك ينبغي إجراء الزّرع البكتري واختبارات الحساسيّة لعزل البكتريا المسبّبة للخمج وتحديدها والتّحقق من حساسيتها للبنسلين.
من المعلوم حاليّاً أنّ استعمال الصّادات الحيويّة- بما في ذلك البنسلين- يؤدّي على وجه العموم إلى تغيّر في النبيت البكتري/الفلورا المعويّة الطبيعيّة في الكولون، وينجم عن ذلك فرطٌ في نمو بكتريا المِطثّيات العسيرة Clostridium difficile التي يعزى إليها حدوث إسهال مرافق تتفاوت شدّته من الإسهال البسيط إلى التهاب كولون قد يكون مميتاً. وقد تؤدي سلالات المِطثّيات العسيرة المفرطة في إنتاجها للذيفانات إلى تزايد الإمراضية والوفيات، إذ قد تكون الأخماج بهذه البكتريا معنّدةً على الصادات الحيويّة، وقد يتطلّب الأمر إجراء استئصال للكولون؛ كما قد يعزّز استعمال البنسلين من نمو الفطريات.
مراجع للاستزادة: - A. Fleming, On the Antibacterial Action of Cultures of a Penicillium, with Special Reference to their Use in the Isolation of B. Influenzæ. Br. J. Exp. Pathol. 10 (31): 226–36, 1929. - A. Fleming, Time 100 People of the Century" Time, 1999. http://www.drugs.com/pro/penicillin-g-injection.html. http://www.drugs.com/pro/penicillin-vk.html. - B. Sneddon, Alexander Fleming (Scientists and Their Discoveries), Mason Crest Publishers 2018.
|
- التصنيف : الهندسة الطبية والعلوم الصيدلانية - النوع : الهندسة الطبية والعلوم الصيدلانية - المجلد : المجلد الخامس مشاركة :