logo

logo

logo

logo

logo

الالتزام في القانون (مقدمة)

التزام في قانون (مقدمه)

obligation in law (introduction) - obligation dans la loi (introduction)

 الالتزام في القانون (مقدمة)

الالتزام في القانون (مقدمة)

فواز صالح

 

أولاً- تعريف الالتزام:

الالتزام L’obligation هو رابطة أو علاقة قانونية بين شخصين، يلتزم بموجبها أحدهما وهو المدين أن يقوم بعمل لمصلحة الآخر وهو الدائن، أو أن يمتنع عن القيام بعمل يضر بمصالحه.

واختلف الفقهاء والمشرعون في تعريف الالتزام، وظهر نتيجة ذلك مذهبان: أولهما شخصي، والآخر مادي.

1- المذهب الشخصي في تعريف الالتزام:

ينظر أنصار هذا المذهب إلى الالتزام بوصفه رابطة شخصية بين شخصين، هما الدائن والمدين. ويستطيع الدائن بموجب هذه الرابطة إخضاع المدين لإرادته. وتعطي هذه الرابطة للدائن سلطة على شخص المدين تخوله الحق في استرقاقه في الماضي، والتصرف في جسمه. وقد أخذ القانون الروماني بهذا المذهب. ومن ثم أخذ به القانون الفرنسي، ومعظم القوانين اللاتينية. ويترتب على الأخذ بالمذهب الشخصي في تعريف الالتزام نتائج عدة أهمها:

أ- عدم جواز تغيير طرفي الالتزام - وهما الدائن والمدين - بعد نشوئه؛ وذلك لأن الالتزام هو رابطة شخصية ينحصر أثرها بينهما وبالتالي لا يجوز تغييرهما. ويترتب على ذلك عدم قبول أنصار هذا المذهب نظرية حوالة الحق التي يتغير فيها الدائن، وكذلك نظرية حوالة الدين التي يتغير فيها المدين. وهذا ما يفسر خلو القانون الروماني من أحكام هاتين النظريتين. ويبدو أثر هذا المذهب واضحاً في التقنين المدني الفرنسي الذي يركز فقط على أحكام حوالة الحق، دون أحكام حوالة الدين.

ب- لا يقوم الالتزام إلا إذا كان طرفاه موجودين وقت نشوئه. في الحقيقة لا يمكن أن ينشأ التزام من دون أن يكون هناك مدين. ولكن يمكن أن ينشأ التزام من دون أن يكون الدائن موجوداً وقت نشوئه، ولكن أنصار المذهب الشخصي يرفضون ذلك. ويترتب على ذلك أن الاشتراط لمصلحة الغير لا يكون منعقداً إلا إذا كان الغير موجوداً وقت الاشتراط.

كما يرفض أنصار هذه النظرية إمكان نشوء التزام بإرادة منفردة لدائن غير معين كالوعد بجائزة.

2- المذهب المادي في تعريف الالتزام:

يعرِّف أنصار هذا المذهب الالتزام بالنظر إلى محله أو موضوعه. والالتزام بالنظر إلى محله يعدّ عنصراً مالياً يدخل في الذمة المالية لكل من الدائن والمدين. ويدخل في ذمة الدائن بوصفه عنصراً إيجابياً، أي حقاً، أما في ذمة المدين فيدخل عنصراً سلبياً، أي ديناً. وبالتالي فإن هذا المذهب يجرد الالتزام من العلاقة الشخصية التي تنشأ بين الدائن والمدين، ويعد الالتزام حالة قانونية.

وظهر هذا المذهب في القانون الألماني، وقد نادى به الفقهاء الألمان من أجل تحرير قانونهم من سيطرة النظريات الرومانية، وإضفاء طابع جرماني مميز خاص بهم عليه.

ويترتب على الأخذ بالمذهب المادي نتائج عدة أهمها:

أ- مسايرة التطور في مفهوم الالتزام، وكذلك التطور الاقتصادي، إذ إنه يساعد على رواج التجارة وسهولة تداول الحقوق الشخصية، وهذا ما تتطلبه الأعمال التجارية وعقد الصفقات.

ب- جواز تغيير طرفي الالتزام بعد نشوئه؛ لأن العبرة هي لمحل الالتزام لا لطرفيه، وبالتالي يجيز أنصار هذا المذهب حوالة الحق وكذلك حوالة الدين.

ج- جواز قيام الالتزام من دون أن يكون هناك دائن معين وقت نشوئه، شريطة أن يُعرف الدائن وقت تنفيذ الالتزام. ويترتب على ذلك أن المذهب المادي يجيز الوعد بجائزة لدائن غير معين وقت الجائزة، والاشتراط لمصلحة الغير حتى لو لم يكن المستفيد موجوداً وقت الاشتراط، كأن يؤمِّن شخص على حياته لمصلحة ابنه الذي لم يولد بعد. ويجيز الإسناد لحامله، إذ إن توقيع المدين على سند لحامله يرتب التزاماً في ذمته لمصلحة دائن غير معين، هو حامل السند.

3- تعريف الالتزام في القانون المدني السوري:

لم يرد نص في القانون المدني السوري ولا في أصله القانون المصري يعرف الالتزام. ولكن كان المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري يعرف الالتزام في المادة 121 منه التي تنص على أن الالتزام «حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل». وقد حُذف هذا النص رغبة في استبعاد التعاريف من القانون  بعدها عملاً فقهياً. وهذا يعدّ دليلاً قاطعاً على أن القانون المدني المصري، وبالتالي القانون المدني السوري قد أخذ بالنظرية المادية في تعريف الالتزام. وهناك نصوص عديدة في القانون المدني السوري تدعم هذا الرأي، ومنها:

أ- أخذ القانون المدني السوري بحوالة الحق (المواد من 303 إلى 314)، وبحوالة الدين (المواد من 315 إلى 321)، وهي من نتائج الأخذ بالنظرية المادية في تعريف الالتزام.

ب- أجاز القانون المدني السوري نشوء الالتزام من دون حاجة إلى وجود الدائن، كما هو الحال في الوعد بجائزة (المادة 163). وكذلك في الاشتراط لمصلحة الغير، إذ تجيز المادة 187 أن يكون المنتفع شخصاً مستقبلاً أو جهة مستقبلة، كما تجيز أن يكون شخصاً أو جهة لم يعينا وقت العقد.

ج- لا يملك الدائن من حيث المبدأ أي سلطة على شخص مدينه، وإنما تنحصر سلطته على أموال المدين. وأموال المدين جميعها ضامنة للوفاء بديونه، طبقاُ للمادة 235/1 من هذا القانون. ولكن لم يهمل القانون السوري الطابع الشخصي للالتزام بنحو كامل، فشخص المدين يعد عنصراً أساسياً من عناصر الالتزام. زد على ذلك أن القانون أعطى للدائن في حالات استثنائية، سلطة على شخص المدين، وهذا من آثار النظرية الشخصية في تعريف الالتزام. وتنص على هذه الحالات المادة 460 من قانون أصول المحاكمات لعام 1953 وتعديلاته، وجاء فيها: «يقرر الرئيس حبس المحكوم عليه لتأمين استيفاء الحقوق التالية دون غيرها:

أ- تعويض الأضرار المتولدة عن جرم جزائي.

ب- النفقة.

جـ- المهر.

د- استرجاع البائنة في حالة فسخ عقد الزواج والتفريق المؤقت والدائم.

هـ- تسليم الولد إلى الشخص الذي عهد إليه بحفظه، وتأمين رعاية الصغير لوليه».

ثانياً- عنصرا الالتزام:

يميز أنصار النظرية المادية في تعريف الالتزام بين عنصرين له، وهما المديونية والمسؤولية.

1- عنصر المديونية:

ويقصد به الواجب القانوني الذي يقع على عاتق شخص لمصلحة شخص آخر، إذاً فهو يتضمن ناحية الوجوب. وعنصر المديونية هو الذي يفسح المجال لإعمال عنصر المسؤولية، وذلك إذا تخلف المدين عن الوفاء بالتزامه طوعاً. ويترتب على ذلك أن وفاء المدين لالتزامه طوعاً لا يعد تبرعاً منه، وإنما على النقيض من ذلك يعد أداءً لواجب قانوني ترتب مسبقاً في ذمته. ويؤدي هذا الوفاء الطوعي إلى انقضاء الالتزام، وبالتالي لا يكون هناك محل لقيام عنصر المسؤولية. والمدين بالالتزام هو الشخص الملتزم، ولكن أنصار النظرية المادية لا يمنحون أي سلطة للدائن على شخص المدين، وبالتالي لا يجيزون حبس المدين من أجل إجباره على وفاء الدين المترتب في ذمته.

والأصل في الالتزام أن يجتمع فيه عنصرا المديونية والمسؤولية. ولكن من الممكن أن ينفك التلازم بين هذين العنصرين في بعض الحالات. وبالتالي يمكن أن يكون هناك عنصر المديونية من دون عنصر المسؤولية. وهذا هو الحال في الالتزام الطبيعي، فالملتزم بهذا الالتزام يبقى مديناً، ولكن لا يمكن إجباره قضاءً على الوفاء به. وبالمقابل إذا قام المدين بالتزام طبيعي بتنفيذه طوعاً وبالتالي الوفاء به، فيعد هذا الوفاء صحيحاً ومبرئاً للذمة، ولا يعد دفعاً لغير المستحق أو تبرعاً، وبالتالي لا يحق للمدين بعد الوفاء أن يطالب باسترداد ما أداه.

2- عنصر المسؤولية:

ويقصد به إجبار المدين على تنفيذ التزامه إذا رفض تنفيذه طوعاً، وبالتالي فهو يتضمن ناحية الإجبار، ويترتب على ذلك أنه لا يكون هناك محل لقيام عنصر المسؤولية إلا في حال رفض المدين التنفيذ الطوعي لالتزامه. ولا يعد شخص المدين في النظرية المادية مسؤولاً عن الالتزام، وإنما المسؤول هو ماله. وكما أنه يمكن أن يكون هناك عنصر المديونية في الالتزام من دون عنصر المسؤولية، فمن الممكن أيضاً أن يكون هناك عنصر المسؤولية من دون عنصر المديونية وهذا هو الحال عندما يتحمل شخص آخر غير المدين المسؤولية عن عدم تنفيذ الالتزام. ومثال ذلك الكفيل العيني الذي يعد مسؤولاً عن وفاء دين المدين الذي كفله تجاه الدائن وذلك عندما رتب رهناً على عقاره ضماناً لوفاء ذلك الدين.

ثالثاً- أنواع الالتزامات:

لم يضع القانون المدني السوري أي تصنيف للالتزامات، ولكن الفقه يميز عموماً بين عدة أنواع من الالتزامات.

1- تقسيم الالتزامات من حيث طبيعتها:

تقسم الالتزامات من حيث طبيعتها إلى التزامات أصلية والتزامات تبعية.

أ- الالتزامات الأصلية: الالتزام الأصلي هو الذي ينشأ في ذمة المدين ابتداءً، ولا يكون مرتبطاً بأي التزام سابق في ذمة ذلك المدين. ومثال ذلك التزام البائع تسليم المبيع. والتزام سائق السيارة التقيد بالسرعة القانونية. والتزام الأب الإنفاق على أولاده القصر. ويلاحظ هنا أن بعض الالتزامات الأصلية ينشأ عن العقد، وبعضها الآخر ينشأ عن القانون. وبالتالي يترتب على الإخلال بهذه الالتزامات نوعان من المسؤولية وهما: المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية.

ب- الالتزامات التبعية أو الجزائية: الالتزام التبعي هو الالتزام الذي يتبع في وجوده التزاماً أصلياً، وهو التزام التعويض المترتب في ذمة المدين نتيجة إخلاله بالتزام أصلي نشأ مسبقاً في ذمته مما أدى إلى إلحاق الضرر بالغير. وهذا الالتزام يعرف بالمسؤولية المدنية. فإذا أخل حارس السيارة بالتزامه التقيد بالسرعة القانونية وأدى ذلك إلى إلحاق ضرر بالغير يلتزم المسؤول دفع تعويض لجبر ذلك الضرر.

2- تقسيم الالتزامات من حيث المحل:

تقسم الالتزامات من حيث محلها إلى التزام بإعطاء شيء، والتزام بعمل، والتزام بالامتناع عن عمل.

أ- الالتزام بإعطاء شيء: ومحل هذا الالتزام هو قيام المدين بنقل حق عيني أو إنشائه لمصلحة الدائن. ومثال نقل حق عيني: التزام البائع في عقد البيع العقاري نقل ملكية العقار إلى المشتري. ومثال إنشاء حق عيني: التزام المدين إنشاء حق ارتفاق على عقاره لمصلحة عقار آخر. ويتم تنفيذ الالتزام بإعطاء شيء في معظم الأحيان بقوة القانون، كما في التزام البائع نقل ملكية شيء معين، إذ إنه ينقل الملكية من تلقاء ذاته. ويترتب على ذلك أن هذا النوع من الالتزام ينشأ وينقضي في الوقت ذاته. وقد يحتاج تنفيذ الالتزام بإعطاء شيء -في بعض الأحيان- إلى قيام المدين بعمل معين لمصلحة الدائن، ومثال ذلك التزام بائع العقار تسجيل العقار على اسم الدائن في السجل العقاري، والتزام بائع شيء معين بالنوع الإفراز. ففي مثل هاتين الحالتين لا تنتقل ملكية المبيع بمجرد إنشاء الالتزام، وإنما لا بد من أن يقوم المدين بعمل حتى تنتقل الملكية إلى الدائن. وإذا امتنع المدين عن القيام بإجراءات التسجيل فيستطيع الدائن في حالة بيع عقار أن يحصل على حكم قضائي بتثبيت عقد البيع وتنفيذه، ويتم نقل الملكية في السجل العقاري بموجب هذا الحكم. وفي حالة بيع شيء معين بالنوع -إذا امتنع البائع عن إفراز الشيء المثلي- يجوز للدائن الحصول على شيء من النوع ذاته وعلى نفقة المدين، وذلك بموافقة القاضي أو دونها على حسب الأحوال. ويتبين من خلال ذلك أن الالتزام بإعطاء شيء هو في جوهره وحقيقته التزام بعمل.

ب- الالتزام بعمل: ومحل هذا الالتزام هو قيام المدين بعمل لمصلحة الدائن. وقد يكون هذا العمل عملاً مادياً، كالتزام الفضولي القيام بعمل لحساب رب العمل. وقد يكون عملاً قانونياً، كالتزام الوكيل إبرام تصرف قانوني لحساب موكله. وإذا امتنع المدين عن تنفيذ التزامه القيام بعمل لمصلحة الدائن يجب عندئذٍ التمييز بين نوعين من الأعمال: النوع الأول ويتضمن الأعمال العادية التي لا ترتبط بشخص المدين، وبالتالي يستطيع أن يقوم بها شخص غير المدين، كالتزام الناقل نقل بضاعة أو نقل الأشخاص. ففي مثل هذا النوع إذا امتنع المدين عن القيام بعمله أجاز المشرع للدائن أن يحصل على ترخيص من القاضي في تنفيذ الالتزام على نفقة المدين إذا كان تنفيذه ممكناً. وفي حالة الاستعجال يجوز للدائن أن ينفذ الالتزام على نفقة المدين من دون الحصول على ترخيص من القاضي. وأما النوع الثاني فيتضمن الأعمال المرتبطة بشخص المدين، وبالتالي تقوم على الاعتبار الشخصي للمدين؛ لأنها تتطلب درجة معينة من الكفاءة والمهنية، ومثال ذلك: التزام محامٍ الدفاع شخصياً عن موكله. ففي هذا النوع لا يجوز أن ينوب شخص آخر عن المدين في القيام بالعمل محل التزام هذا الأخير. كما لا يجوز إجبار المدين على القيام بهذا النوع من الأعمال؛ لأن ذلك يعد اعتداءً على حريته الشخصية. ولكن يمكن للدائن إجبار المدين بطريق غير مباشر وهو فرض غرامة تهديدية على المدين. وفي نهاية المطاف يحق للدائن - عند امتناع المدين عن القيام بالعمل - أن يطلب التنفيذ عن طريق التعويض، أو أن يطلب فسخ العقد. 

ج- الالتزام بالامتناع عن عمل: ومحل هذا الالتزام هو امتناع المدين عن القيام بعمل كان يحق له أن يقوم به لولا أنه التزم الامتناع عن ذلك لمصلحة الدائن. وبهذا الامتناع يضيق المدين من مجال نشاطه الطبيعي المسموح له قانوناً. وقد يكون هذا الامتناع امتناعاً عن عمل مادي، كالتزام الجار عدم تعلية جداره. وقد يكون امتناعاً عن عمل قانوني، كالتزام العامل الامتناع عن منافسة رب العمل بعد انتهاء العقد. وفي هذا النوع من الالتزامات يكون التنفيذ العيني للالتزام بامتناع المدين عن القيام بذلك العمل. وإذا خالف المدين التزامه الامتناع عن القيام بعمل أجاز القانون للدائن طلب إزالة المخالفة، أو أن يقوم بإزالة المخالفة على نفقة المدين.

أخيراً يلاحظ أن الالتزام بالامتناع عن القيام بعمل هو التزام سلبي، في حين أن الالتزام بإعطاء شيء، أو الالتزام بالقيام بعمل هما التزامان إيجابيان.

كما يلاحظ أن الالتزام بإعطاء شيء والالتزام بعمل والالتزام بالامتناع عن القيام بعمل هي التزامات عينية لا تتأثر بالتغييرات النقدية زيادة وانخفاضاً. أما الالتزام النقدي فهو الذي يلتزم المدين به أداء مبلغ من النقود. والنقود هي أشياء معينة بالنوع ولكنها تخضع لأحكام خاصة، فلا ينظر عند الوفاء إلى جودة النقود، ولا يلتزم الدائن بمبلغ من المال إثبات الضرر من أجل المطالبة بالفوائد الناجمة عن التأخير في تنفيذ المدين التزامه أداء مبلغ من النقود. 

3- تقسيم الالتزامات من حيث مضمونها:

يقسم الفقه الحديث الالتزام بعمل إلى نوعين وهما: التزام تحقيق غاية أو نتيجة، والتزام بذل عناية أو وسيلة. ويعود الفضل في هذا التقسيم إلى الفقيه الفرنسي ديموغ Demogue.

أ- التزام تحقيق غاية أو نتيجة: ويلتزم المدين بالتزام نتيجة القيام بأداء معين، وتحقيق نتيجة معينة. وفي حال عدم تحقق النتيجة يعد المدين مسؤولاً عن ذلك. ولا يجب على الدائن إثبات الخطأ في جانب المدين، وإنما يجب عليه فقط إثبات الالتزام. ويستطيع المدين أن يدفع المسؤولية عن نفسه بإثبات أن النتيجة التي التزم تحقيقها لم تتحقق بسبب أجنبي كالقوة القاهرة. ففي عقد النقل يلتزم الناقل توصيل المسافر سليماً معافى إلى المكان المقصود، وبالتالي إذا أصيب المسافر أثناء عملية النقل بأي ضرر يعد الناقل مسؤولاً عن تعويض ذلك الضرر، ولا يستطيع أن يدفع المسؤولية عن نفسه إلا بإثبات السبب الأجنبي؛ لأن التزامه بسلامة المسافر هو التزام تحقيق نتيجة.

ب- الالتزام بذل عناية أو التزام وسيلة: وهو الالتزام الذي يلتزم فيه المدين بذل العناية المطلوبة في أثناء القيام بعمله من دون أن يكون ملتزماً القيام بأداء معين أو تحقيق نتيجة ما. ومثال ذلك التزام الطبيب علاج مريضه، فهو يلتزم بذل العناية الواجبة في أثناء القيام بالعمل الطبي من أجل شفاء المريض، ولا يلتزم تحقيق هذا الشفاء. وهذا الالتزام يفرض على الطبيب أن يكون يقظاً وحذراً في أثناء القيام بالأعمال الطبية. ومثال ذلك أيضاً: التزام المحامي الدفاع عن موكله، إذ إنه يلتزم بذل العناية المطلوبة للدفاع عن مصالح موكله.

ولا يكفي عدم تحقيق النتيجة في هذا النوع من الالتزامات لقيام مسؤولية المدين، وإنما يجب على الدائن أن يثبت أن المدين لم يبذل في تنفيذ التزامه العناية المطلوبة، وهي عادة العناية التي يبذلها الرجل المعتاد.

4- تقسيم الالتزامات من حيث قوتها:

تقسم الالتزامات من حيث قوتها إلى نوعين وهما: التزام مدني والتزام طبيعي.

أ- الالتزام المدني: هو الالتزام الذي يستطيع الدائن به أن يجبر المدين على تنفيذه تنفيذاً عينياً أو بمقابل. ويترتب على ذلك أن الالتزام المدني يتوافر فيه عنصرا الالتزام وهما المديونية والمسؤولية، وبالتالي فهو التزام كامل. ومثال ذلك التزام البائع تسليم المبيع، والتزام المسؤول عن الفعل غير المشروع تعويض المضرور.

ب- الالتزام الطبيعي: وهو على غرار الالتزام المدني التزام قانوني؛ لأن القانون يوجب الوفاء به. ويختلف الالتزام الطبيعي عن الالتزام المدني في أن الدائن فيه لا يستطيع إجبار المدين على تنفيذه. ويترتب على ذلك أن الالتزام الطبيعي يتوفر فيه عنصر المديونية من دون عنصر المسؤولية، وبالتالي فهو التزام ناقص. وهو في هذا المعنى يختلف عن الالتزام الأدبي البحت الذي لا يوجب القانون الوفاء به. وخصص القانون المدني السوري المواد من 200 حتى 203 والمادة 383 للالتزام الطبيعي.

وتنشأ الالتزامات الطبيعية في صور عدة يمكن ردها إلى طائفتين وهما: التزامات طبيعية تخلَّفت عن التزامات مدنية، وهي إما أن تكون التزامات طبيعية تخلفت عن التزامات مدنية ناقصة لم تنشأ في الأصل، كالتزام ناقص الأهلية التبرع الذي تقرر بطلانه، وإما أن تكون التزامات طبيعية تخلفت عن التزامات مدنية تحللت بعد نشوئها، كالتقادم الذي يؤدي إلى انقضاء الدين، ومع ذلك فإنه يخلِّف في ذمة المدين التزاماً طبيعياً، فإذا قام المدين بالوفاء بالدين بعد انقضائه بالتقادم يعد هذا الوفاء صحيحاً. وإما أن تكون التزامات طبيعية نشأت في الأصل بعدها واجباً أدبياً، ومثال ذلك التزام شخص الإنفاق على بعض أقاربه ممن هو غير ملتزم قانوناً بالإنفاق عليهم.

وتترتب على نشوء الالتزام الطبيعي آثار عدة وهي: لا جبر في تنفيذه، ووفاء المدين به طوعاً يعد صحيحاً، ويصلح الالتزام الطبيعي سبباً لالتزام مدني.

5- تقسيم الالتزامات من حيث مصادرها:

يقصد بمصادر الالتزامات الأسباب القانونية التي تؤدي إلى نشوئها. ويميز الفقه بصورة عامة بين تقسيمين أساسيين لمصادر الالتزام، أحدهما تقليدي والآخر حديث.

أ- التقسيم التقليدي: ويستمد هذا التقسيم أساسه من القانون الروماني الذي كان يميز في عهده العلمي بين نوعين من المصادر وهما الجريمة والعقد. ولكن هذا التقسيم كان ناقصاً وقاصراً، إذ إن الفقهاء أقروا بوجود مصدراً ثالثاً للالتزامات يتضمن الالتزامات التي لا تنشأ من العقد ولا من الجريمة، ويشمل خليطاً من الوقائع القانونية المشروعة وغير المشروعة. ولكنهم وضعوا الالتزامات التي تنشأ من أعمال غير مشروعة إلى جانب الالتزامات التي تنشأ من الجريمة، والتي كانت محددة على سبيل الحصر. وكذلك فإنهم وضعوا الالتزامات التي تنشأ من أعمال مشروعة إلى جانب الالتزامات التي تنشأ من العقد الذي كان محدداً أيضاً، وذلك لما بينها من شبه ليس من حيث المصدر وإنما من حيث الأثر. ونتيجة ذلك ظهر في عهد جوستينان تقسيم آخر لمصادر الالتزام، وهو تقسيم رباعي يميز بين التزامات عقدية، والتزامات شبيهة بالعقدية، والتزامات جرمية، والتزامات شبيهة بالجرمية.

ومن ثم أخذ الفقيه الفرنسي Pothier بهذا التقسيم الرباعي، وأضاف إليه مصدراً خامساً وهو القانون، بعد أن حوَّر بعض الشيء في النظرية الرومانية. ومصادر الالتزام عند هذا الفقيه هي: العقد وشبه العقد والجريمة وشبه الجريمة والقانون. ويلاحظ أن الفقهاء الرومان لم يستخدموا مصطلحي شبه العقد وشبه الجريمة، وإنما هما تحور للالتزامات الشبيهة بالعقد والالتزامات الشبيهة بالجريمة.

ومن ثم أخذ التقنين المدني الفرنسي لعام 1804 - والمعروف بقانون نابليون - بهذا التقسيم الخماسي لمصادر الالتزام.

وعلى الرغم من بساطة هذا التقسيم وسهولته كان عُرضة لانتقادات عديدة أهمها: عدم أهمية تقسيم الفعل غير المشروع بوصفه مصدراً للالتزام إلى جريمة وشبه جريمة، وذلك على أساس توفر العمد أو عدم توفره، إذ إن كليهما ينشئ التزاماً على عاتق مرتكبه بالتعويض عن الضرر الذي لحق بالغير. كما لا يتضمن هذا التقسيم كل مصادر الالتزام، فهو لا يشمل مثلاً الإرادة المنفردة بوصفها مصدراً للالتزام، وبالتالي فهو تقسيم ناقص. وأن مصطلح شبه العقد هو مصطلح مضلل؛ فشبه العقد وفقاً لرأي أنصار التقسيم التقليدي يقترب من العقد من حيث إنه عمل إرادي، ويفترق عن الجريمة وشبه الجريمة من حيث إنه عمل مشروع. والحقيقة هي نقيض ذلك تماماً، فشبه العقد يفترق عن العقد من حيث إنه عمل غير إرادي، ويقترب من الجريمة وشبه الجريمة من حيث إنه عمل غير مشروع.

ونتيجة هذه الانتقادات ذهب بعض الفقهاء الفرنسيين من معارضي التقسيم التقليدي إلى تقسيم مصادر الالتزام إلى مصدرين اثنين، وهما: العقد والقانون. وقد رد هؤلاء الفقهاء الجريمة وشبه الجريمة وشبه العقد إلى القانون.

ب- التقسيم الحديث لمصادر الالتزام: لم تضع القوانين الحديثة نصاً خاصاً لتعداد مصادر الالتزام أو ترتيبها أو تقسيمها، كالقانون الألماني والقانون السويسري. ولكن يستخلص من تعقب النصوص التي خصصتها هذه القوانين لمصادر الالتزام أنها خمسة مصادر ، وهي: العقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون. وبالمقارنة بين التقسيم الحديث والتقسيم التقليدي يتبين أنهما يتشابهان في مصدرين وهما العقد والقانون. في حين أن التقسيم الحديث دمج الجريمة وشبه الجريمة في مصدر واحد وهو الفعل غير المشروع، واستبدل بشبه العقد الإثراء بلا سبب، ومن ثم أضاف الترتيب الحديث مصدراً جديداً وهو الإرادة المنفردة.

وأخذ القانون المدني السوري بهذا التقسيم. فمن الرجوع إلى نصوص هذا القانون نجد أنه لم يضع أي نص لترتيب مصادر الالتزام أو تعدادها. ولكنه بالمقابل عدد المصادر الخمسة للالتزام المشار إليها أعلاه. وفي الحقيقة يمكن رد هذه المصادر الخمسة إلى نوعين، وهما:

(1) التصرفات القانونية: وهي الأعمال القانونية التي تتجه فيها الإرادة إلى إحداث أثر قانوني، كإنشاء حق شخصي أو عيني، أو نقله، أو تعديله، أو إنهائه. وهذه التصرفات إما أن تكون ثنائية كالعقد، وإما أن تكون أحادية كتصرفات الإرادة المنفردة. ونتيجة ذلك تسمى التصرفات القانونية بالمصادر الإرادية للالتزام.

(2) الوقائع القانونية: وهي الأعمال المادية التي لا أثر فيها للإرادة في إحداث أثر قانوني. وهذه الوقائع إما أن تكون أفعالاً ضارة، كالعمل غير المشروع، وإما أفعالاً نافعة كالإثراء بلا سبب. ويدخل ضمن هذه الوقائع القانونية القانون بوصفه مصدراً غير إرادي للالتزام. وتسمى الوقائع القانونية بالمصادر غير الإرادية للالتزام. ويستخلص من ذلك أن الفرق بين التصرف القانوني وبين الواقعة القانونية هو أن إرادة الأشخاص في التصرف القانوني هي التي ترتب الآثار القانونية المترتبة على ذلك التصرف، في حين أنه لا دخل لهذه الإرادة في إحداث الآثار القانونية المترتبة على الواقعة القانونية، وإنما القانون هو الذي يرتب مثل تلك الآثار. ولا يتغير في ذلك شيء إذا كان للإرادة في بعض الوقائع القانونية دخل في إحداث الأثر؛ لأن الأثر هنا لا ينشأ عن الإرادة ذاتها وإنما عن الواقعة نفسها التي رتب القانون على وقوعها مثل ذلك الأثر. فإذا أراد شخص إلحاق ضرر بالآخر فالتزامه تعويض الضرر لا ينشأ عن إرادته، وإنما ينشأ عن واقعة العمل غير المشروع الذي ارتكبه. 

مراجع للاستزادة:

- أحمد حشمت أبو ستيت، نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد، الطبعة الثانية (مطبعة مصر، القاهرة 1954).

- توفيق حسن فرج، النظرية العامة للالتزام - في مصادر الالتزام (الدار الجامعية للطباعة والنشر، دون تاريخ).

- سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني -2-، في الالتزامات - المجلد الأول: نظرية العقد والإرادة المنفردة (الطبعة 1987).

- سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، في الالتزامات - في الفعل الضار والمسؤولية المدنية، المجلد الأول (الطبعة الخامسة،1992).

- سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، في الالتزامات في الفعل الضار والمسؤولية المدنية، المجلد الثاني (الطبعة الخامسة 1993).

- سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، المجلد الثالث، الإثراء على حساب الغير (الطبعة الثالثة، القاهرة 199).

- شفيق الجراح، دراسة في تطور الحقوق الرومانية ومؤسساتها (منشورات جامعة دمشق، 1996-1997، الطبعة الخامسة).

- عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، المجلد الأول (القاهرة، دون تاريخ).

- عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والإرادة المنفردة - دراسة معمقة ومقارنة بالفقه الإسلامي (1984).

- عبد المنعم البدراوي، النظرية العامة للالتزامات في القانون المصري، الجزء الأول، مصادر الالتزام (القاهرة 1975).

- عكاشة محمد عبد العال وطارق المجذوب، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، المكتبة القانونية، والنظم القانونية (مطبعة ابن خلدون، 1986).

- فواز صالح، «المسؤولية المدنية للطبيب، دراسة مقارنة في القانون الفرنسي والسوري»، بحث منشور في مجلة الشرق الأدنى - دراسات في القانون، التابعة لكلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في لبنان، العدد 61 لعام 2006،ص33 وما يليها، ومنشور أيضاً في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية،المجلد 22،العدد الأول، 2006، ص121-156.

- مصطفى الزرقاء، شرح القانون المدني السوري، نظرية الالتزام العامة -1- المصادر، العقد و الإرادة المنفردة، طـ 4 (مطبعة دار الحياة، دمشق 1964).

- محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول مصادر الالتزام، 1، المصادر الإرادية، و 2- المصادر غير الإرادية (مطبعة رياض، دمشق 1982 -1983).

- محمد معروف الدواليبي، الوجيز في الحقوق الرومانية وتاريخها (مطبعة ومكتبة الشرق، حلب 1963).

- محمود جلال حمزة، العمل غير المشروع باعتباره مصدراً للالتزام (مطبعة الإتحاد، دمشق 1985).

- H. CAPITANT, De la cause des obligations, (Paris, 1923).

- Jacques FLOUR , Jean -Luc AUBERT et Éric SAVAUX, Les obligations, I, L’acte juridique, (10 éd., Armand Colin, Paris,2002).

- J. FLOUR, J.-L. AUBERT et É. SAVAUX, Droit civil, Les obligations, 2- Le fait juridique, (9ème édition, Armand Colin, 2001).

- H., L., J.MAZEAUD et F.CHABAS, Leçons de droit civil, Tome II, Volume I, Obligations- théorie générale, (9ème édition, Delta, 2000).

- F.TERRÉ, Ph. SIMLER et Y. LEQUETTE, Droit civil, Les obligations, (8ème édition, Dalloz, 2002).

 


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد الأول: الإباحة والتحريم ـ البصمة الوراثية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 421
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1054
الكل : 58492158
اليوم : 64672