نظام برلماني
parliamentary regime - régime parlementaire

النظام البرلماني

النظام البرلماني

حسن البحري

أولاً ـ نشأة النظام البرلماني وتطوره:

تعد إنجلترا الموطن الأول للنظام البرلمانيParliamentary Regime كما كانت من قبل الموطن الأول للنظام النيابي. وجوهر هذا النظام يتركز في أمرين أساسيين هما (المسؤولية الوزارية) و(حق الحلّ)؛ بمعنى أن الوزراء مسؤولون سياسياً أمام البرلمان، فلا يبقى الوزير في الحكم إلا إذا كان متمتعاً بثقة البرلمان، فإذا فقد هذه الثقة وجب عليه أن يستقيل ويعتزل منصبه، كما أن الوزارة باعتبارها كتلة واحدة متضامنة يتحتم عليها الاستقالة إذا ما اقترع البرلمان على عدم الثقة بها وانتهى إلى سحبها منها.

ويقابل هذه المسؤولية الوزارية حق رئيس الدولة في حل البرلمان (أو على الأقل مجلس البرلمان المنتخَب من الشعب، وذلك إذا كان البرلمان يتكون من مجلسين نيابيين)، ومعنى ذلك أنه إذا ما حدث خلاف بين الوزارة والبرلمان في مسألة من المسائل واستحكم الخلاف بينهما بحيث لم يمكن الوصول إلى حل يرتضيه الطرفان، ولجأ البرلمان من جانبه إلى محاولة سحب الثقة من الوزارة وإسقاطها، فإن الوزارة عندئذ تستطيع أن تلجأ إلى رئيس الدولة تطلب منه الموافقة على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وذلك لتعرف رأي هيئة الناخبين وهل تؤيد وجهة نظر البرلمان الذي يعبر عن إرادتها، أم تخالفه في موقفه، ومعنى ذلك أنها تحبذ وجهة نظر الوزارة، فالرأي الذي تبديه هيئة الناخبين يتوقف عليه مصير الأمور.

ويلاحظ أن حق الحل الذي يقابل المسؤولية الوزارية ذو أهمية عظمى في النظام البرلماني؛ لأنه يحدث التوازن والتعادل في هذا النظام بين الحكومة والبرلمان، أي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبذلك لا ينحرف النظام البرلماني إلى نظام آخر مغاير له تتغلب فيه إحدى السلطتين على الأخرى.

ولهذا فقد عرَّف الفقيه الفرنسي ردسلوب Redslob النظام البرلماني بأنه "نظام توازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية".

Le régime parlementaire se caractérise par l’équilibre entre le parlement et le pouvoir exécutif“.

وهذا النظام البرلماني نشأ ـ كما تقدم ـ في إنجلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأخذ شكله التام في القرن التاسع عشر بعد انتقال سلطات الملك إلى الوزارة التي أصبحت مسؤولة عن أعمالها وسياستها أمام البرلمان، الذي يجب أن تحظى بثقته وتنبع منه، وتطوُّر هذا النظام مرتبطٌ بتطور تاريخ نظام الوزارة، ولهذا فإن معرفة أصول نشأة النظام البرلماني تتوقف على معرفة تاريخ نشأة الوزارة وتطورها.

ومن المعلوم أن تاريخ الوزارة في إنجلترا يبدأ من تاريخ نشوء (المجلس الخاص)، أو كما يسمى "مجلس شورى الملك" The Privy Council ، الذي تطور عبر السنين حتى انتهى به الأمر إلى ما يسمى في الوقت الحاضر بـ"الوزارة" أو "مجلس الوزراء" The Cabinet.

وعلى الرغم من أن نظام الوزارة البريطانية الحديث يرجع إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر، إلا أنه يرجع أساساً إلى فترة تاريخية أقدم من ذلك بكثير، ويمكن تتبع أصل الفكرة من خلال استعراض مراحل نشوئها وتطورها.

1ـ الوزارة في العصور القديمة:

أ ـ مجالس التاج The Councils of the Crown: جرى العرف في إنجلترا منذ أقدم العصور على أن يقوم الملك باستشارة الرجال البارزين في مملكته، فقد ظل ملوك إنجلترا يديرون أمور البلاد عدة قرون بمعاونة جماعة من الموظفين وعدد من المجالس المختلفة. وكان الموظفون المذكورون يشبهون موظفي البلاط في العصر الحاضر، ثم ظهرت بعد ذلك طبقة أخرى هي طبقة كاتمي سر الدولةSecretary of State وهم الوزراء فيما بعد. أما المجالس التي كانت تعاون الملك في مهمة الحكم فكانت أربعة: (1) المجلس العام The Commune Concilium (أو محكمة البرلمان Court of Parliament) (2) المجلس الكبير The Magnum Concilium (أو مجلس اللوردات فيما بعد) (3) مجلس القانون The Council of the Law ويتكون من عدد من القضاة (4) المجلس الخاص للنظر في المسائل والشؤون المتعلقة بالدولة.

وبغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بمهمة هذه المجالس، يكفي العلم بأن المجلسين الأولين قد تطورا إلى البرلمان الحالي، وأن المجلس الأخير أي المجلس الخاص كان من أهم مجالس الملك الاستشارية، ونظراً لأنه الأصل الذي نشأت منه الوزارة لابد من استعراض مركزه في النظام القديم.

ب ـ المجلس الخاص The Privy Council: على الرغم من أن هذا المجلس يرجع في نشأته إلى عهد الملك هنري السادس (1422ـ1461)، إلا أنه كان موجوداً أيضاً خلال حكم الملك إدوارد الثاني. وقد كان يطلق أصلاً على هذا المجلس اسم المجلس الدائم The Permanent Council نظراً لتكرار انعقاده وأهميته للمجالس الأخرى، ثم أطلق عليه في عهد هنري السادس اسم المجلس الخاص.

وقد انقسم هذا المجلس في القرن الرابع عشر إلى قسمين: الأول، أُطلق عليه المجلس العادي Concilium Ordinarium، وقد كان مختصاً بالفصل في المنازعات القضائية في العاصمة لندن، أما القسم الثاني، فقد ظل محتفظاً بالاسم الأصلي، أي المجلس الخاص، وكان يرأسه الملك شخصياً، إذ كان يدعوه باستمرار لتقديم المشورة في المسائل السياسية والإدارية.

وبمرور الزمن، اختفى المجلس العادي ولم يعد له وجود، غير أن المجلس الخاص ظل باقياً، وقد انقسم إلى عدة لجان تشرف كل منها على مصلحة من مصالح الدولة التي كان مخصصاً لها القيام ببعض الأعمال التنفيذية. وخلال القرن السادس عشر لم يكن عدد أعضاء المجلس ثابتاً، ولكن هذا العدد كان يراوح غالباً ما بين /12/ و/20/ عضواً.

ج ـ لجنة الدولة The Committee of the State: ترجع النشأة الحقيقية للوزارة بصفة أساسية إلى عهد الملك إدوارد السادس (1547ـ 1553)، وذلك عندما انقسم المجلس الخاص إلى عدة لجان تختص كل منها بمراقبة إحدى هيئات الدولة والإشراف عليها، وكان من بين لجان هذا المجلس لجنة يطلق عليها اسم (لجنة الدولة)، وكانت تختص بالنظر في أهم أعمال الدولة، ومن أجل ذلك كانت تعد اللجنة الأولى في المجلس الخاص؛ وقد كان يطلق على أعضاء هذه اللجنة اسم (مستشاري التاج) Councillors of the Crown، وكان الملك هو الذي يُعَيِّنهم فضلاً عن بقية أعضاء المجلس، كما أطلق على هذه اللجنة ـ عدا لجنة الدولة ـ أسماء أخرى منها: The Junto (وتعني مجلس سياسي صغير يضم زمرة تسعى لكسب السلطة السياسية)، ومنها أيضاً The Cabinet.

وأياً ما كان، فإن هذه اللجنة هي الأصل التاريخي للوزارة في النظام البرلماني الحالي. وقد تشعبت أعمال هذه اللجنة أو الوزارة وازداد نفوذها، وانتقلت إليها أهم اختصاصات المجلس الخاص نظراً لقلة عدد أعضائها، وقدرتها على مناقشة المسائل والبت فيها بحزم وسرعة، وبمضي الزمن اكتسبت هذه اللجنة الصفة القانونية بعد أن كانت في أصل نشأتها لا تحمل أي صفة قانونية.

2ـ العلاقة بين المجلس الخاص والبرلمان وظهور بوادر المسؤولية الوزارية:

كان الملك يستأثر بتعيين جميع أعضاء المجلس الخاص طبقاً لإرادته، ولم يكن للبرلمان أي رقابة على أعضاء المجلس ولا على رجال التاج بصفة عامة، إذ كان من المسلم به فقهاً أن للملك الحق المطلق في تعيين مستشاريه (وزرائه) وأعضاء مجالسه، وليس من حق البرلمان أن يكره الملك على اختيار مستشارين (وزراء) معينين، كما أنه لا يستطيع أن يجبره على عزل أولئك الرجال الذين وضع فيهم ثقته.

ومع ذلك ففي خلال القرن الرابع عشر استطاع مجلس العموم أن ينشىء لنفسه حقاً مؤداه اتهام رجال الملك، أي وزرائه ومستشاريه، إلا أن وسيلة الاتهام هذه كانت شخصية وشائكة ككل اتهام جنائي، لأنها تستلزم إسناد جريمة إلى الوزير أو مستشار التاج، كما أنها بطبيعة الحال كانت وسيلة فردية لا توجب مسؤولية الوزراء بالتضامن مع زميلهم.

أ ـ المسؤولية الجنائية (الاتهام الجنائي Impeachment): لم تكن نشأة الاتهام الجنائي في القرن الرابع عشر على أساس قانوني وإنما كانت عن طريق تحريض اللوردات النواب على استعماله، وبعد أن تكرر استعمال الاتهام استندوا في تعليله إلى قواعد القانون العامة، فأرجعوا سلطة الاتهام ـ وهي من اختصاص النواب ـ إلى قوانين المملكة، إذ كان في كل مقاطعة هيئة محلفين Jury منتخبة من السكان لها حق الاتهام الجنائي، وبما أن مجلس العموم يتألف من ممثلي المقاطعات فيمكنه اتهام الوزراء باعتباره هيئة محلفين. أما سلطة المحاكمة ـ وهي من اختصاص مجلس اللوردات ـ فقد كان تعليلها سهلاً نظراً لأن المجلس الكبير The Magnum Concilium (وهو مجلس اللوردات حالياً) كان الهيئة المختصة بالفصل في التهم الموجهة إلى كبار رجال الدولة.

وقد استمرت المسؤولية الجنائية ـ الاتهام الجنائي ـ الطريق الوحيد لتقرير مسؤولية الوزراء حتى القرن السابع عشر، إلا أن هذا الأسلوب قد أظهر في الواقع عجزاً من ناحيتين: فهو من ناحية لا يستعمل إلا إذا كان العمل الذي ارتكبه الوزير يشكّل جريمةً معاقباً عليها في قانون العقوبات، ومن ناحية أخرى فإن الملك إذا كان يريد إنقاذ أحد وزرائه ممن هم محلَّ ثقته فإنه يستطيع أن يحلَّ مجلس العموم أو يؤجّل البرلمان أو يستعمل أخيراً حق العفو. من هنا فقد عمل البرلمان على تلافي أوجه القصور هذه، وذلك من خلال تطويره لمبدأ المسؤولية الوزارية ذاته، وإقراره لعدد من المبادئ التي تتعلق بإجراءات الاتهام. وبيان ذلك أنه في خلال القرن السابع عشر وبدءاً من فترة حكم أسرة ستيوارت أخذت المسؤولية الوزارية صورة جديدة هي المسؤولية الجنائية السياسية.

ب ـ المسؤولية الجنائية السياسية: لئن كانت جهود مجلس العموم قد أصيبت بنكسةٍ خطيرةٍ في مجال الاتهام الجنائي، وذلك إبان تولي أسرة تيودور للعرش، إذ توقف مجلس العموم منذ عام 1479 عن توجيه الاتهام الجنائي لأيٍ من مستشاري الملك ووزرائه، إلا أنه بعد انتقال العرش إلى أسرة آل ستيوارت قام البرلمان باستئناف دوره في مجال الاتهام الجنائي، وذلك في عام 1621، ولم يعُدْ هذا الدور كما كان في الماضي، بل قام البرلمان بتطويره ليشمل إلى جانب المساءلة أو المحاسبة الجنائية المحاسبة السياسية أيضاً. فغدا بموجب هذه الصورة من المسؤولية من حق مجلس العموم توجيه الاتهام لوزراء التاج ومستشاريه لا عند ارتكابهم جناية أو جنحة معاقباً عليها بموجب قانون العقوبات فقط، وإنما عند ارتكابهم أخطاء جسيمة وهم بصدد ممارسة مهامهم الوظيفية، أو عند قيامهم بعمل لا يتفق ومصلحة البلاد حتى ولو لم يكن الخطأً جريمة جنائية، كما لو تمَّ إبرام معاهدة ضارة بمصلحة البلاد بناءً على مشورتهم.

وإضافة إلى ذلك فقد اعترف مجلس اللوردات لنفسه بحق تحديد العقوبة بحرية، أي إن سلطة مجلس اللوردات أصبحت مطلقةً في تكييف الجريمة وتحديد العقوبة المناسبة. ولعلاج عيوب الاتهام الجنائي أيضاً، قرَّر البرلمان عدة مبادئ تتعلق بإجراءات الاتهام، منها مثلاً أن تأجيل أو حلّ البرلمان لا يُسقِطُ الاتهام، كما أنه عندما اتُّهِمَ إيرل دانبي Earl of Danby وزير شارل الثاني عام 1679 من قبل مجلس العموم بتهمة الخيانة العظمى لمفاوضاته لعقد صلح ضار بالبلاد، رأى مجلس اللوردات أن ما ارتكبه دانبي لا يصل إلى درجة الخيانة، فحلَّ الملك مجلس العموم وأصدر عفوا ملكياًً عن وزيره، على أن مجلس العموم الجديد قرر أن هذا العفو باطل ولا أثر له، وقد أصبح من المسلم به بعد ذلك أنه لا يمكن استعمال العفو في أثناء الاتهام. وهكذا استطاع البرلمان في ظل الصراعات السياسية المريرة أن يوسع من نطاق تطبيق الاتهام الجنائي وأخذ يستخدمه لتحقيق أهداف سياسية.

ج ـ بزوغ فكرة المسؤولية السياسية للوزارة: مع بدايات القرن الثامن عشر بدأت تخف حدة الصراعات السياسية، وبدأ البرلمان يلطف من حدة الاتهام ويبتعد به عن طابعه الجنائي؛ إذ أخذ البرلمان يستخدم الاتهام الجنائي وسيلة لتهديد الوزراء بهدف إبعادهم عن مناصبهم، فأصبحت العقوبة تقتصر على العزل من دون أن يجرّد الوزير من ثروته أو يُمَسَّ شخصه، وبذلك تغيرت وظيفة الاتهام الجنائي فلم تعد جنائية بمعنى الكلمة وإنما غدت سياسية بصفة أساسية.

وهكذا، فقد أصبح يكفي أن يهدّد مجلس العموم باستخدام وسيلة الاتهام الجنائي حتى يستقيل الوزراء، إذ كان التهديد في ذاته يدفع الوزراء إلى الاستقالة قبل البدء في إجراءات الاتهام.

ومصداقاً لما تقدم، فقد نشب في عام 1741 خلاف حاد بين السير روبرت والبول Robert Walpole (الذي يعد أول رئيس وزارة بالمعنى الصحيح في تاريخ إنجلترا) وبين مجلس العموم، والتمس أعضاء البرلمان من الملك إقالة والبول من رئاسة الوزارة، فصرح والبول بأن "في طلب النواب إبعاد أحد خدام التاج من دون اقترافه أي جريمة يمثل اعتداءً صارخاً على حقوق التاج"، غير أن والبول ابتدأ يفقد الأغلبية التي كان يملكها داخل المجلس، ولاسيما عقب انتخابات مجلس العموم في عام 1741، واضطر في 11 فبراير/شباط عام 1742 إلى الاستقالة عندما شعر برغبة أعضاء المجلس في اللجوء إلى أسلوب الاتهام الجنائي ضده.

وتعد استقالة والبول على هذا النحو أول سابقة في التاريخ السياسي لإنجلترا والتي يقوم فيها أعضاء البرلمان بسحب الثقة من أحد الوزراء لعدم رضائهم عن سياسته في الحكم من دون اللجوء إلى أسلوب الاتهام الجنائي، ولهذا فقد أعلن وليام بَلْتني William Pulteney زعيم الأغلبية في مجلس العموم في ذلك العهد أنه لا يريد محاكمة الوزراء وإنما يريد إبعادهم عن الحكم، وبذلك وَضَحَ الفرق بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية السياسية، فالأولى ترمي إلى معاقبة الوزير بعقوبة جنائية تمس شخصه، وطريقها الاتهام الجنائي، والثانية ترمي إلى إقصاء الوزير عن الحكم، وهي سياسية بطابعها ولا أثر للاتهام فيها. ومع ما لهذا الحادث من أهمية في تاريخ المسؤولية السياسية، فإن استقالة والبول ـ على الرغم من أنه كان يشغل منصب الوزير الأول ـ لم تكن إلا استقالة "فردية"، أما زملاؤه في الوزارة فقد ظلوا في مراكزهم، وما ذلك إلا لأن ولادة "مبدأ التضامن الوزاري" Le principe de la solidarité ministérielle لم تكن قد ظهرت بعد.

وعقب تقديم الوزير الأول والبول استقالته، دعا الملك جورج الثاني (1727ـ1760) المستر وليام بلتني زعيم المعارضة إلى تولي رئاسة الوزارة. ومن هنا ابتدأ ظهور قاعدة أحقية زعيم المعارضة المنتصر في تولي رئاسة الوزارة، غير أن هذه القاعدة لم تتأكد إلا فيما بعد عند سقوط وزارة نورث عام 1782.

وفي عهد الملك جورج الثالث (1760ـ1820) ابتدأ نزاع طويل بينه وبين البرلمان، إذ كان على عكس سابقيه يميل إلى الحكم الشخصي، وطالما قامت مصادمات بينه وبين وزرائه من ناحية، وبين وزرائه المؤيدين لسياسته وبين البرلمان من ناحية أخرى. وقد اشتد هذا النزاع بوجه خاص إبان تولي اللورد فردريك نورث Frederick North ـ من حزب التوري Tory Partyـ رئاسة الوزارة، إذ تميزت فترة رئاسته بالنزاع مع البرلمان بخصوص سياسة الوزارة ـ وهي سياسة الملك ـ تجاه المستعمرات الأمريكية التي أدت في النهاية إلى حرب الاستقلال الأمريكية، وفقدان بريطانيا للمستعمرات الأمريكية، وقرر اللورد نورث بادئ الأمر أنه سيعتزل الحكم إذا فقد الأغلبية المؤيدة له، ولكنه عندما بدأ يشعر بانحلال هذه الأغلبية صرح بأنه مستعد لتعديل سياسته وتنفيذ تعليمات المجلس، ولكن تشارلز جيمس فوكس Charles James Fox، أحد زعماء المعارضة ـ من حزب الهويج Whig Party ـ ردّ عليه بأنه لا يجوز لوزارة أن تبقى في الحكم لكي تطبق سياسة خصومها السياسيين المخالفة لسياستها، فأجاب نورث بأنه مصمم على البقاء في منصبه إلى أن يأمره الملك بالاستقالة، أو يصدر عن مجلس العموم قرار صريح بضرورة اعتزاله الحكم، غير أنه لم يلبث أن اضطر إلى الاستقالة في مارس سنة 1782عقب التصويت على اقتراحين متتاليين بحجب الثقة عن وزارته، لم يحز الأول منهما على الأغلبية، ولما قدم الثاني لم ينتظر اللورد نورث نتيجته واستقالت وزارته بكامل هيئتها لحرج مركزها وانحسار أغلبيتها.

ويلاحظ أن هذه الاستقالة هي الاستقالة الثانية التي تحدث نتيجة لعدم ثقة مجلس العموم، إلا أنها تختلف عن الاستقالة الأولى ـ أي استقالة الوزير الأول روبرت والبول عام 1742ـ من ناحيتين: الأولى: تتمثل في أن استقالة والبول جاءت نتيجة التهديد باللجوء إلى وسيلة الاتهام الجنائي ضده، في حين أن استقالة نورث لم تكن كذلك. أما الناحية الثانية: فتتمثل في أن استقالة والبول كانت فردية، أي إنها اقتصرت على شخصه دون زملائه أعضاء الوزارة، في حين أن استقالة اللورد نورث كانت جماعية، شملت الوزارة بكامل أعضائها، ويمكن القول إنه مع استقالة اللورد نورث تمت ولادة مبدأ التضامن الوزاري، وابتدأ يستقر مبدأ المسؤولية السياسية الجماعية الذي حلّ محلّ المسؤولية الجنائية.

وتجدر الإشارة إلى أن التاريخ الدستوري الإنجليزي لم يقدم منذ ما يقرب من مئتي عام سوى تطبيقين للاتهام الجنائي: الأول كان ضد حاكم الهند وارن هاستنجز Warren Hastings، وكان ذلك خلال الفترة ما بين عامي 1788 و1795 بسبب الظلم والفساد وسوء الإدارة التي تميزت بها إدارته للهند، وأما الاتهام الثاني، فقد كان موجهاً ضد مِلفيل Melville اللورد الأول للبحرية عام 1804/1805 بحجة الفساد. ولهذا، فعلى الرغم من أن "سلطة الاتهام الجنائي" مازالت في متناول يد البرلمان، فإن الوسائل الأكثر حداثة التي أدت إلى إنجاز المسؤولية الوزارية جعلت منها سلاحاً مهجوراً وغير معدّ للاستعمال لتقادم العهد عليه.

وهكذا نشأت المسؤولية السياسية للوزارة بصورتيها: الفردية والجماعية التضامنية من بين ثنايا الاتهام الجنائي، وبنشوء المسؤولية السياسية التضامنية نشأ في اللحظة ذاتها النظام البرلماني.

وفي هذا الشأن يقول الفقيه الفرنسي جاك كادار: "في عام 1782، أُسقطت وزارة اللورد نورث ـ التي كانت خاضعة لأوامر الملك وتوجيهاته ـ بكامل هيئتها بواسطة ثورة برلمانية، وهي المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيه الإطاحة بحكومة جماعية متجانسة بكامل أعضائها من قبل البرلمان، وهنا ولد النظام البرلماني…، وقد تأسست بذلك فكرة المسؤولية السياسية الجماعية التضامنية للحكومة بكامل هيئتها أمام البرلمان، وأصبح عام 1782 يؤرَّخ على أنه تاريخ ولادة أو نشأة النظام البرلماني".

3ـ تطور المسؤولية الوزارية السياسية "دور هيئة الناخبين":

تقدم أن تطورات النظام الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أدت إلى ظهور المسؤولية الوزارية السياسية؛ وأصبح من المسلم به أن كل قرار بعدم الثقة بالوزارة يصدره مجلس العموم يؤدي إلى استقالة الوزارة.

ومع التسليم بأهمية هذه التطورات إلا أنها لم تكن التطورات النهائية الكافية لاستقرار نظام حكومة الوزارة النهائي، بل مر هذا النظام في تطور آخر يتمثل في أن تقرير المسؤولية السياسية للوزارة أو بمعنى آخر تقرير مصير الوزارات انتقل من مجلس العموم إلى هيئة الناخبين.

وبيان ذلك أنه عند حدوث نزاعٍ جدي بين الوزارة والبرلمان، فإن للوزارة ـ بدلاً من أن تستقيل ـ حل مجلس العموم واستفتاء الناخبين من أفراد الشعب في هذا الخلاف، فإن أيَّدها الناخبون ظلت في مركزها، وإلا وجبت استقالتها وتولَّت حينئذٍ المعارضة مقاليد الحكم؛ ومن هنا أصبحت الوزارة تستمد ثقتها لا من البرلمان وإنما من هيئة الناخبين. وقد بدأ هذا التطور يحدث منذ عهد وزارة بورتلاند Portland من حزب الهويج، فقد كانت هذه الوزارة مؤيدة من البرلمان، ولكن الملك لم يكن راغباً فيها، فكان يَتَحَيَّنُ الفرصة المناسبة لطردها، وقام صراع عنيف بين الملك وهذه الوزارة انتهى بانتصار الملك حينما أقال هذه الوزارة على الرغم من تأييد البرلمان لها.

ثم بعد ذلك قام الملك في عام 1783 باستدعاء وليم بت William Pitt من زعماء حزب التوري لتولي الوزارة، وكانت الأغلبية البرلمانية تؤيد الوزارة المقالة، وبعد مضي أشهر قليلة على هذه الوزارة، رفض بت الاستقالة على الرغم من الهزائم المتعددة التي منيت بها وزارته في البرلمان، كما لم يشأ وليم بت أن يحلّ مجلس العموم ذا الأغلبية المعادية قبل أن يعمل على كسب الرأي العام في جانبه. ولقد كاد هذا الصراع أن يقضي على السوابق الدستورية التي أنشأت النظام البرلماني، غير أن الأحداث جاءت مواتية ل"بت"، إذ تفككت هذه الأغلبية وأخذت تتناقص بالتدريج. فانتهز "بت" هذه الفرصة وقام بحل مجلس العموم لاستفتاء الشعب، وأجريت الانتخابات عام 1784 فكانت النتيجة أن انتصر "بت" انتصاراً ساحقاً، فدلّ ذلك على عدم تأييد الشعب لوجهات نظر البرلمان.

وقد ساعد على هذا الوضع الجديد، التطورات الواضحة التي طرأت على حالة إنجلترا الاقتصادية والاجتماعية، والتي كان من نتائجها اتساع دائرة هيئة الناخبين، ولاسيما عقب الإصلاحات الانتخابية المتتالية (1832، 1867، 1884، 1918، 1928) التي أدت إلى توسيع حق الانتخاب، واطّراد تنظيم وتكوين الأحزاب السياسية.

وقد ترتب على هذا التطور الجديد نتائج عدة تتلخص فيما يلي:

(1) ـ نظراً لكون هيئة الناخبين هي صاحبة السيادة العليا، فإن الوزارة باتت تبذل كل نشاطها لأنْ تكون على وفاقٍ معها فتظلَّ موضعَ ثقتها. وعلى هذا الوضع لم يعُدْ عملها يقوم على إقناع البرلمان بسياستها العامة بل يقوم على إقناع الشعب، ولذلك يلجأ الوزراء عادةً إلى هيئة الناخبين ليدافعوا عن وجهات نظرهم، كما تسلك المعارضة السبيل ذاته.

(2) ـ وبما أن الوزارة تستمد ثقتها من هيئة الناخبين لا من البرلمان، فإنه من الطبيعي أن تتخلى الوزارة عن مركزها إذا هزمت في الانتخابات العامة، وبذلك لم تعد الوزارات تنتظر حتى يقترع المجلس الجديد بعدم الثقة بها، بل أصبحت تقدم استقالتها بمجرد ظهور نتيجة الانتخابات. ويترتب على هذه القاعدة نتيجة أخرى مفادها أن هزيمة الوزارة في مجلس العموم لم تعد بمفردها كافية لوجوب استقالة الوزارة، وكذلك فإن الاقتراع ضد الوزارة إما أن تكون نتيجته حل المجلس وإما استقالتها وحلول وزارة من المعارضة محلها، وفي هذه الحالة الأخيرة يكون على الوزارة الجديدة القيام بحل المجلس لتقوي مركزها وتقدم الدليل على أنها موضع ثقة الشعب، وإلا فيصعب عليها القيام بالحكم.

(3) ـ لم تكن نتيجة التطور الجديد أن أصبح الشعب صاحب الحق في الحكم على الوزارات، وتقرير مصيرها فقط، بل أدى هذا التطور إلى نتيجة منطقية أخرى هي أن الشعب غدا يطالب بأن يفصل بنفسه في جميع المسائل المهمة وذلك عن طريق الاستفتاء.

(4) ـ أصبح دور الانتخابات في إنجلترا يتعدّى مجرد اختيار أعضاء مجلس العموم ليؤدي دوراً مهماً في الحياة السياسية، فعندما يذهب الشعب الإنجليزي إلى صناديق الاقتراع عند إجراء الانتخابات العامة، فإنه يحدد سياسة الدولة خلال مدة البرلمان، ويختار الحزب الذي يعهد إليه بالسلطة، ولذا يستخلص بعض الفقهاء نتيجة مهمة وهي أنه من خلال الانتخابات، وبسبب نظام الحزبين في إنجلترا الذي يضع أمام الناخب الإنجليزي اختياراً واضحاً، فإن النظام الإنجليزي يحوي من الناحية العملية عنصراً من عناصر الديمقراطية المباشرة Démocratie directe في صورة جديدة. وحاصل القول أن عملية اختيار الوزارات وانتخاب رئيس الوزراء تتم من قبل هيئة الناخبين، أي من قبل الشعب نفسه.

إن مركز التوازن بين سلطتي الدولة "البرلمان" و"الوزارة" انتقل إلى الشعب بمفهومه السياسي، أي إلى هيئة الناخبين Le corps électoral التي أصبحت هي الحَكَم في المسائل السياسية الكبرى وفي مصير الوزارات. وقد ترتب على هذه الظاهرة الجديدة أن مجلس العموم لم يعد في مركز أسمى من مركز الوزارة، بل كل منهما يشغل مركزاً واحداً، وكل منهما يعترف بخضوعه لسيد مشترك هو هيئة الناخبين.

ثانياً ـ الخصائص الأساسية للنظام البرلماني:

يقوم النظام النيابي البرلماني على فكرة جوهرية مفادها أن الوزارة ـ وهي المحور الرئيسي الفعّال في ميدان السلطة التنفيذية، إذ يقع عليها أصلاً عبء ممارسة السلطة الفعلية في إدارة شؤون الحكم ـ مسؤولة سياسياً عن أعمالها أمام البرلمان، ونظراً لأن الوزارة في هذا النظام هي محور ارتكازه، فإن فقهاء القانون الدستوري في إنجلترا يطلقون على هذه الحكومة البرلمانية تسمية "حكومة الوزارة" Cabinet government؛ فحكومة الوزارة والنظام البرلماني هما إذن اسمان لمسمَّى واحد.

ويعرِّف بعضهم النظام البرلماني بأنه: "ذاك النظام الذي يتميز بقيام تعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وبالرغم من أن السلطة الأولى مستقلة عن الثانية، إلا أنها مسؤولة أمامها".

كما يعرِّف بعضهم الآخر النظام البرلماني بأنه: "ذاك النظام الذي يوجد فيه رئيس أعلى للدولة يمارس اختصاصاته بواسطة وزارة مسؤولة أمام برلمان منتخب من الشعب يملك أن يثق فيها فيبقيها أو لا يثق فيها فيسقطها، وتملك هي أن تطلب إلى رئيس الدولة حله والاحتكام إلى الشعب في صورة انتخابات جديدة". ويستفاد مما سبق، أمران:

الأمر الأول، أن السلطة التنفيذية في النظام البرلماني تتكون من طرفين هما: رئيس الدولة غير المسؤول عن التصرفات الخاصة بشؤون الحكم، والوزارة المسؤولة عن أعمالها أمام البرلمان، وهو ما يُعبَّر عنه بثنائية السلطة التنفيذية؛ وبذلك يختلف النظام البرلماني عن نظيره الرئاسي الذي يتميز بوحدة أو فردية السلطة التنفيذية.

والأمر الثاني، أن النظام البرلماني قائمٌ على أساس فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، غير أنَّ الفصل بين هاتين السلطتين ليس فصلاً جامداً أو مطلقاً، بل لا بد من قيام تعاونٍ بينهما من أجل الوصول إلى التوازن الضروري لسير هذا النظام، وهذا التوازن يمكن تحقيقه بوسائل متعددة أهمها: المسؤولية السياسية للوزارة أمام البرلمان من ناحية، وحلّ البرلمان والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة من ناحية أخرى. وبذلك أيضاً يختلف النظام البرلماني عن نظيره الرئاسي، فمن ناحية أولى: لا تعد الوزارة في النظام الرئاسي محور ارتكازه أو حجر الزاوية فيه كما هو الشأن في النظام البرلماني؛ فالمسؤولية الوزارية التي هي حجر الزاوية في النظام البرلماني لا يعرفها النظام الرئاسي، فهذا الأخير لا يعرف نظام مجلس الوزراء كهيئة جماعية مسؤولة عن تسيير شؤون الحكم بالمعنى المتعارف عليه في الأنظمة البرلمانية، لأن الرئيس في النظام الرئاسي هو المنوط به رسم السياسة العامة للدولة، وكذلك تنفيذها أو الإشراف على تنفيذها، ومن ثم يصبح المسؤول الأول والأخير عن هذه السياسة أمام الشعب مباشرة إذا كان هناك محل لهذه المسؤولية. ومن ناحية ثانية: فإن السلطة التنفيذية في النظام الرئاسي ممثلة برئيس الجمهورية لا تملك حق حلّ الكونجرس ـ سواء مجلس النواب أو الشيوخ ـ تمهيداًً لإجراء انتخابات جديدة، وهو ما تملكه السلطة التنفيذية في ظل حكومة الوزارة.

وينبغي أن يكون معلوماً أن الاختلاف بين النظامين البرلماني والرئاسي لا يقوم على أساس أن الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية هو "فصل مرن" في النظام البرلماني، في حين أنه "فصل جامد أو مطلق" في النظام الرئاسي، لأن مثل هذا الفصل الجامد أو المطلق هو أمر مستحيل في التطبيق العملي؛ فالواقع العملي للنظم السياسية المختلفة لم يعرف سوى الفصل النسبي بين السلطات، ولكنه يتم على درجات مختلفة.

وبناء على ما تقدم، يمكن القول إن النظام البرلماني يقوم على خاصيّتين رئيسيّتين يتميز بهما من غيره من النظم النيابية الأخرى، بحيث لا يُتصور وجود نظام برلماني من دون هاتين الخاصتين وهما:الفصل بين منصب رئيس الدولة ومنصب رئيس الحكومة، وهو ما يعبر عنه بمبدأ ثنائية السلطة التنفيذية 2ـ الفصل المرن بين السلطات العامة في الدولة وخاصة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية مع وجود قدر من التعاون والرقابة المتبادلة فيما بينهما.

وفيما يلي معالجة هاتين الخاصتين على النحو الآتي:

1ـ ثنائية السلطة التنفيذية L’Exécutif Dualiste: يتميز النظام البرلماني بوجود انفصال عضوي بين منصب رئيس الدولة ومنصب رئيس الحكومة، إذ يوجد إلى جانب رئيس الدولة ـ ملكاً كان أم رئيس جمهورية ـ شخص آخر يشاركه السلطة التنفيذية، يطلق عليه اسم "رئيس الوزراء" أو "الوزير الأول" Prime Minister. وعلى هذا، فإن السلطة التنفيذية في النظام البرلماني تتكون من طرفين أو عنصرين: رئيس الدولة من ناحية، والوزارة أو الحكومة كهيئة جماعية من ناحية أخرى.

أ ـ رئيس الدولة The Head of State: إن رئيس الدولة في النظام البرلماني ليس هو رئيس الحكومة، بل هو الرئيس الأعلى للدولة ورئيس السلطة التنفيذية Head of the Executive في الوقت نفسه، أما رئيس الحكومة فهو رئيس الوزراء (أو الوزير الأول)؛ ورئيس الدولة قد يكون ملكاً وراثياً Hereditary monarch في أنظمة الحكم الملكية كما هو الحال في المملكة المتحدة والسويد وبلجيكا والنرويج والدنمارك وهولندا وإسبانيا، أو رئيساً منتخباً في أنظمة الحكم الجمهورية بواسطة هيئة انتخابية لفترة محددة من السنوات، كما هو الحال في ألمانيا وفنلندا وآيرلندة وإيطاليا والنمسا والهند.

ويقوم النظام البرلماني على عدم مسؤولية رئيس الدولة، إذ حلت محلها مسؤولية الوزراء الذين لم يعودوا اليوم عماله بالمعنى الصحيح، لأنهم لا ينفذون سياسته الشخصية كما هو الحال في النظام الرئاسي للولايات المتحدة الأمريكية؛ ومبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة نشأ في إنجلترا، حيث المبدأ القائل إن "الملك لا يمكن أن يخطئ" The king can do no wrong.

وهذا المبدأ هو أحد المبادئ المسلم بها في القانون العام الإنجليزي، وإليه يرجع الفضل في إيجاد الوزارة في النظام البرلماني، لأنه إذا كان الملك لا يخطئ ـ باعتباره لا يتصرف إلا بناء على مشورة وزرائه ـ فهو دائماً غير مسؤول. وعدم مسؤوليته هذه لا تقتصر على المسؤولية الجنائية بل تمتد إلى جميع تصرفاته السياسية، وينتج من ذلك أن ذاته مصونة لا تُمَسّ.

ولمَّا كانت أعمال الدولة تحتم إيجاد شخص أو هيئة تكون مسؤولة عما قد ينجم عن هذه الأعمال من آثار، لذلك أصبح وزراء الملك هم المسؤولين عن الأعمال التي تصدر باسم رئيس الدولة. وينتج من مبدأ عدم مسؤولية رئيس الدولة ـ ملكاً كان أم رئيس جمهورية ـ نتيجتان مهمتان:

النتيجة الأولى: انتقال اختصاصات رئيس الدولة إلى الوزارة: وقد عبر الفقهاء الإنجليز عن هذه النتيجة بقولهم إن "الملك يسود ولا يحكم" The King reigns, but does not rule، فرئيس الدولة في النظام البرلماني لا يبت في أمور الدولة بنفسه، لأن التقرير في هذه المسائل يؤدي إلى المسؤولية إذا ما اتضح خطؤه، لذلك قيل "لا سلطة حيث لا مسؤولية" أو "حيث توجد المسؤولية توجد السلطة". ويترتب على ذلك أن رئيس الدولة لا يقوم بوضع سياسة الدولة بنفسه، ولا يُعِدّ مشاريع القوانين حسب رأيه الشخصي، ولا يحزم في أمر من الأمور وفقاً لسياسته الخاصة، بل إنه يتصرف دائماً بناء على مشورة الوزير الأول والوزراء الآخرين، بفرض أنهم هم المسؤولون أمام مجلس البرلمان المنتخب طبقاً لقواعد عرف المسؤولية الوزارية Ministerial responsibility.

وقد عبر أحد الفقهاء الانجليز عن هذه الحقيقة بقوله: "إن الملك قد يسود، ولكن الوزير الأول والوزراء الآخرين مَنْ يحكم"The Sovereign may reign, but it is the Prime Minister and other ministers who rule.

وحاصل القول أن جميع السلطات التي تمنحها الدساتير المختلفة لرؤساء الدول في الأنظمة البرلمانية، كتعيين أعضاء السلطة التنفيذية، وكبار الموظفين المدنيين والعسكريين والسفراء والممثلين الدبلوماسيين، وإعلان الحرب، وعقد المعاهدات، ودعوة البرلمان للانعقاد وفضّه وتأجيله وحلّه، واستعمال حق العفو، والتصديق على القوانين… إلخ، هي في الواقع حقوق اسمية لرئيس الدولة، ذلك أن الوزارة المسؤولة أمام البرلمان هي التي تمارس هذه الاختصاصات من الناحية العملية الواقعية.

النتيجة الثانية: عدم إمكان رئيس الدولة العمل منفرداً، إذ ما دامت اختصاصاته هي في الواقع اختصاص الوزارة، لذلك لا يمكن لرئيس الدولة أن ينفرد بالتصرف عند ممارسته لهذه الحقوق أو تلك الاختصاصات، وقد عبر الفقهاء الإنجليز عن ذلك بقولهم: "إن الملك لا يعمل منفرداً" The king cannot act alone، وتطبيقاً لهذا المبدأ تقرر أن إمضاء الملك في شأن من شؤون الدولة لا يكون ملزماً إلا إذا أمضاه رئيس الوزراء، والوزير المختص.

وعلى الرغم مما ذكر آنفاً من أن رئيس الدولة في النظام البرلماني يوشك أن يكون مجرداً من كل سلطة، فإنه مع ذلك هو الذي يعيِّن الوزير الأول، وعلى الرغم مما قد يبدو في الظاهر من أهمية وضخامة هذا الاختصاص المتبقي لرئيس الدولة في النظام البرلماني، فإن الحقيقة تُنبِئُ عن محدودية دور رئيس الدولة فيما يتعلق باختيار الوزير الأول، ذلك أنه في النظام البرلماني يجب أن تكون الوزارة محل ثقة البرلمان المنتخب من الشعب، وعلى ذلك فإن رئيس الدولة مقيد في اختياره للوزير الأول بأن يكون متمتعاً بثقة مجلس البرلمان المنتخب حتى لو لم يكن محل رضا منه شخصياً، وفي البلاد ذات الأنظمة الحزبية، وهو المعتاد في الديمقراطيات التقليدية، فإن رئيس الدولة يجد نفسه مضطراً لاختيار زعيم حزب الأغلبية البرلمانية رئيساً للوزراء، الذي يقوم باختيار زملائه من الوزراء من بين كبار أعضاء حزبه، وبهذا تنال الوزارة ثقة البرلمان ويكون لها دستورياً أن تمارس سلطاتها.

وقد عبَّرت كارول ـ المحاضِرة في جامعة مانشسترـ عن دور التاج البريطاني في اختيار الوزير الأول بقولها: "طبقاً للعرف فإن على الملك (الملكة حالياً) أن يعين كوزير أول الشخص الذي يسيطر على الأغلبية البرلمانية داخل مجلس العموم، أو مَنْ يكون في أفضل مركز أو مكانة لتشكيل الحكومة وتحمُّل أعباء المنصب، وبناء عليه فإن دور الملك رسمي أو شكلي بكل معنى الكلمة، إنها (أي الملكة) تعيِّن ولكنها لا تختار".

غير أن إمكانية رئيس الدولة في التصرف تتسع حيث تتعدد الأحزاب، وحيث لا يكون لحزب منها أغلبية واسعة Overall majority، عندئذٍ لا يكون رئيس الدولة مقيداً باختيار زعيم الأغلبية ما دامت لا توجد مثل تلك الأغلبية لحزب من الأحزاب، ولكن رئيس الدولة في الوقت نفسه لا يستطيع أن يختار شخصاً لا يتمتع بثقة بعض الكتل البرلمانية ذات الوزن، وإلا لما استطاع ذلك الشخص أن يحوز ثقة المجلس، ولتعيّن من ثم أن يسقط ليحلّ محلّه غيره ممن يستطيع أن يفوز بتلك الثقة.

فعلى سبيل المثال، في عام 1923 لم تسفر نتيجة الانتخابات العامة التي أجريت في بريطانيا عن فوز أيٍ من الأحزاب السياسية التي كانت على الساحة (وهي: المحافظون والعمال والأحرار) بأغلبية المقاعد في مجلس العموم، فقام الملك جورج الخامس باختيار زعيم حزب العمال رمزي ماكدونالد Ramsay MacDonald ليكون رئيساً للوزراء.

وقد تكرر هذا الأمر مرة أخرى عام 1963، عندما استقال رئيس الوزراء هارولد ماكملان Harold Macmillan فجأة من منصبه بسبب المرض. وبعد المشاورات السريعة بين زعماء حزب المحافظين لتقرير مَنْ مِنَ المرشحين الأربعة أو الخمسة الذي سيكون أكثر قبولاً لخلافة مكملان، أوصى ماكملان الملكة إليزابيث بتعيين وزير الخارجية السير أليك دوغلاس هوم Sir Alec Douglas - Home خلفاً له، فأخذت الملكة بنصيحته، لا لأنها كانت ملزمة بالأخذ بهذه النصيحة، بل لأن الشخص المرشح كان الأفضل من بين المرشحين.

وخلاصة ما تقدم، أن رئيس الدولة في النظام البرلماني سواء أكان ملكاً تبوأ منصبه عن طريق الوراثة أم رئيس جمهورية تولى منصبه بالانتخاب، ليست له أي سلطة فعلية قائمة على إرادته الشخصية وسياسته الخاصة، وذلك نظراً لعدم مسؤوليته، فهو لا يمارس السلطة الفعلية في الحكم، وإنما سلطته ليست في الجوهر سوى سلطة اسمية أو رمزية Nominal or symbolic power، ولكن على الرغم من انعدام دوره الفعلي، فإن دوره الأدبي عظيم النفع، فهو نظراً لمركزه السامي ـ ولا سيما في الملكيات ـ وشخصيته الممتازة وتأثيره المعنوي، يمكنه العمل على إيجاد التوازن المنشود بين السلطات وبين الأحزاب وتوجيه قواها التوجيه الصحيح لخير البلاد في طمأنينة واستقرار، حتى لقد عدّه بعض الفقهاء "الآلة المحركة للنظام البرلماني".

وقد عبَّر الفقيه جورج ڤيدل Vedel عن دور رئيس الدولة في النظام البرلماني بقوله: "إن رئيس الدولة في النظام البرلماني يعد الحَكَم الرياضي العادل المستقل بين الوزارة والبرلمان، الذي يعمل على كفالة احترام قواعد المباراة بينهما من دون ميلٍ أو تحيّزٍ إلى أيٍّ منهما".

ب ـ الوزارة: تمثِّل الوزارة (أو الحكومة The Government) الطرف الثاني للسلطة التنفيذية، وهي المحور الرئيسي الفعّال في هذا الميدان، إذ يقع عليها أصلاً عبء ممارسة السلطة الفعلية في إدارة وتصريف شؤون الحكم، وتكون من ثم مسؤولة سياسياً عن أعمالها أمام مجلس البرلمان المنتخَب، ويطلق على هذه المسؤولية اسم "المسؤولية الوزارية السياسية"Political ministerial responsibility؛ وهذه المسؤولية قد تكون جماعية إذا تعلقت بعمل من أعمال السياسة العامة للحكومة، أو بتصرف من تصرفات رئيس الوزراء، وهي توجب مسؤولية الوزارة بأكملها؛ كما قد تكون المسؤولية فردية إذا تعلقت بأعمال وتصرفات الوزير الخاصة بوزارته، والتي لا تدخل في نطاق السياسة العامة للحكومة، سواء تلك التي تصدر عنه شخصياً، أو التي تصدر عن الموظفين التابعين لوزارته. ومقتضى المسؤولية الوزارية "السياسية" أن الوزارة إذا فقدت ثقة مجلس البرلمان المنتخب تسقط بأكملها، وكذلك فإن المجلس إذا سحب الثقة من أحد الوزراء، فإن على ذلك الوزير أن يستقيل من منصبه.

وتعد المسؤولية السياسية للوزارة حجر الزاوية في النظام البرلماني، والركن الأساسي في بنائه، ومن دونها يفقد هذا النظام جوهره وتتغير طبيعته.

وتتكون الوزارة من رئيس ـ غير شخص رئيس الدولة ـ ومن عددٍ من الوزراء يجتمعون في مجلسٍ متضامنٍ ذي وحدةٍ متجانسةٍ يقوم بوضع السياسة العامة للحكومة ويحقق الانسجام بين أعمال الوزارات، ويضمن وحدة العمل الوزاري واتساقه ويهيمن على شؤون الدولة، هذا المجلس هو "مجلس الوزراء".

ونظراً لما تتمتع به الوزارة من صلاحيات واسعة فقد أطلق عليها، بحق، الأستاذ أندريه هوريو، صفة "وريثة اختصاصات المَلَكيَّة"؛ إذ المَلَكية كانت مطلقة وصلاحياتها واسعة جداً.

وإذا كان رئيس الدولة في النظام البرلماني هو الذي يعيِّن رئيس الحكومة أي الوزير الأول، فإن هذا الأخير هو الذي يقوم باختيار الوزراء الذين سيحملون المسؤولية معه.

ويتمتع رئيس الوزراء في هذا الصدد بسلطة تقديرية واسعة، ولكن هذه السلطة مع ذلك مقيدة في الأنظمة الحزبية بقيود عملية كثيرة، منها أن رئيس الوزراء، وهو عادة زعيم حزب الأغلبية في البرلمان، يختار وزراءه من البرلمانيين البارزين في الحزب، أي القيادات الحزبية، وكثيراً ما يكون مرجع الاختيار للحزب نفسه لا لمحض إرادة رئيس الوزراء.

وعلى أي حال، فإن رئيس الوزراء، من حيث المبادئ الدستورية، يتمتع في مواجهة رئيس الدولة بحقه الكامل في اختيار الوزراء الذين سيعملون معه، وإذا كان الأمر يقتضي أداة معينة تصدر من رئيس الدولة لتعيين الوزراء في مناصبهم، فإن هذه الأداة ـ وفقاً لمنطق النظام البرلماني ـ لا تخرج عن كونها إجراءً شكلياً محضاً.

ونظراً لأهمية الوزارة في النظام البرلماني، إذ توصف بأنها "عجلة قيادة سفينة الدولة" The Steering wheel of the ship of the state، فإن الفقهاء الإنجليز يطلقون على هذه الحكومة البرلمانية تسمية "حكومة الوزارة". وقد كتب جون مورلي John Morley في سنة 1889 أن هناك أربع خصائص رئيسية لنظام حكومة الوزارة البريطانية: الخاصية الأولى هي مبدأ المسؤولية الجماعية التضامنية للوزارة…، والثانية هي أن الوزارة مسؤولة مباشرة أمام الأغلبية في مجلس العموم، وفي النهاية أمام الناخبين الذين يخلقون تلك الأغلبية…، والثالثة هي أن أعضاء الوزارة يتم اختيارهم من حزب واحد فقط، وذلك فيما عدا الظروف الاستثنائية الخاصة والعابرة…، والخاصية الرابعة هي أن رئيس الوزراء هو بمثابة مفتاح العِقْد أو حجر الأساس بالنسبة إلى الوزارة.

ويستخلص من كل ما تقدم أن النظام البرلماني يتميز بثنائية الجهاز التنفيذي، إذ يفرق بين "رئيس الدولة" و"رئيس الحكومة" أي الوزير الأول، ويجعل الأول غير مسؤول عن أعماله في حين يجعل الثاني رئيساً لهيئة جماعية تكون مسؤولة أمام مجلس البرلمان المنتخب عن وضع السياسة العامة للدولة، ويُسأل أعضاؤها جميعاً بالتضامن عن تلك السياسة العامة.

2ـ الفصل المرن بين السلطات Flexible separation of powers: ومن الخصائص المميزة للنظام البرلماني "التقليدي" أيضاً، أن توزيع الاختصاصات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يجب أن يقوم على أساس الفصل المرن أو غير الجامد بينهما، وهو فصل مشرب بروح التعاون بينهما، فصل يتضمن رقابة كل منهما للأخرى على نحو يحقق التوازن والتعادل بينهما. مع العلم أن التوازن بين هاتين السلطتين لم يأتِ في الواقع نتيجة المساواة في الاختصاصات بينهما فقط، وإنما أيضاً نتيجة اشتراك أو تداخل كل منهما في اختصاصات الأخرى بقدر متوازن، أي بقدر يمنع كل منهما أن تستبد بسلطاتها، ويطلق على الاشتراك والتداخل المذكورين "الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية".

وليس الهدف من الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تقف كل من هاتين السلطتين أمام الأخرى موقف الخصومة، بل إن الهدف منها هو تحقيق التعاون والتوازن بينهما بما يكفل تطبيق قواعد الدستور.

ومن أجل ذلك تقرر القواعد الدستورية عادة في النظم البرلمانية للسلطة التشريعية حقوقاً معينة تمارسها في مواجهة الحكومة، وتحقق باستعمالها رقابتها الفعالة على أعمال السلطة التنفيذية وتصرفاتها؛ وفي مقابل هذه الحقوق التي يضعها المشرع الدستوري تحت تصرف السلطة التشريعية، جعل الدستور للسلطة التنفيذية أيضاً وسائل معادلة للدفاع عن نفسها، وتفصيل ذلك كالآتي:

أ ـ مظاهر رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية: تتجلى مظاهر رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية في النظام البرلماني في الوسائل والإجراءات الرقابية العديدة التي يملكها أعضاء البرلمان تجاه الحكومة؛ وفي مقدمتها حق حجب الثقة عن الوزارة بكامل أعضائها أو عن أحد الوزراء، وهو ما يعرف بالمسؤولية الوزارية السياسية، فهي أخطر وسيلة أعطاها النظام البرلماني للسلطة التشريعية لتراقب بها السلطة التنفيذية، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود وسائل أخرى في هذا المضمار، فإلى جوار هذا السلاح الخطير من أسلحة رقابة السلطة التشريعية يوجد أسلحة أخرى أقل خطورة تتمثل في حق توجيه أسئلة إلى أعضاء الحكومة بقصد الاستفسار عن أمر من الأمور التي تتعلق بأعمال وزاراتهم، وفي طرح موضوع عام للمناقشة داخل المجلس، مناقشة مفتوحة يشترك فيها من يشاء من أعضاء البرلمان، وكذلك حق البرلمان في إجراء تحقيق من خلال لجنة يعهد إليها بهذه المهمة، وذلك بهدف الوقوف بنفسه على حقيقة معينة نظراً لتشككه في حسن نية الحكومة في صحة ما تقدمه من معلومات وبيانات، وأخيراً الحق في استجواب أعضاء الحكومة لمحاسبتهم في الشؤون التي تدخل في اختصاصاتهم.

ب ـ مظاهر رقابة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية: في مقابل الحقوق السابقة التي يضعها المشرع الدستوري تحت تصرف السلطة التشريعية، جعل المشرع للسلطة التنفيذية أيضاً وسائلها التي تستطيع بواسطتها أن تؤثر في عمل البرلمان وفي وجوده أحياناً، والتي يتحقق بها إيجاد التوازن بين السلطتين، إذ لا يصح أن يكون البرلمان صاحب حق في السيطرة على السلطة التنفيذية من دون أن يكون لهذه السلطة الأخيرة وسائل معادلة للدفاع عن نفسها.

وتتمثل هذه الوسائل في قيام السلطة التنفيذية بتوجيه الدعوة لإجراء الانتخابات النيابية سواء كان ذلك عقب حل المجلس النيابي أو عند انتهاء مدة نيابة أعضاء البرلمان، ومباشرة جميع الإجراءات المتعلقة بعملية الانتخاب، والتدخل في سير العمل البرلماني من خلال الحق في دعوة البرلمان للانعقاد سواء أكان الانعقاد عادياً أم غير عادي، وكذلك الحق في فضّ دورات انعقاد البرلمان، وتأجيل أو إرجاء انعقاده، كما أن للسلطة التنفيذية أيضاً الحق في الاتصال بالبرلمان وحضور جلساته، وأن يكون الوزراء أعضاء في البرلمان عن طريق الجمع بين عضوية الوزارة وعضوية البرلمان، وكذلك الإسهام في أمور التشريع، من خلال اقتراح مشروعات القوانين، والتصديق أو الاعتراض على القوانين التي يقرها البرلمان، ناهيك عن حق السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح الإدارية بمختلف أنواعها؛ وأما أخطر هذه الوسائل أو تلك الحقوق فإنه يتمثل في حق حل البرلمان، أي إنهاء نيابته قبل النهاية الطبيعية للفصل التشريعي (وهو السلاح الموازن من حيث القوة والفاعلية للسلاح المقابل الذي يملكه البرلمان، وهو تقرير المسؤولية السياسية للوزارة أي سحب الثقة منها).

ويتبين مما تقدم أن النظام البرلماني هو نظام يقوم على أساس الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، غير أن هذا الفصل ليس جامداً كما كان يعتقد "مونتسكيو" خلال القرن الثامن عشر، بل هو "فصل نسبي مرن أو محدود" Flexible or limited separation، لأن كلاً من هاتين السلطتين تتدخل إلى حد معين في اختصاصات الأخرى، ومع ذلك فلا يصل هذا التداخل إلى حد أن يغدو هذا النظام نظام اندماج كلي للسلطات كما يدَّعي بعض فقهاء الإنجليز القدامى، الذين قالوا إن النظام الدستوري البريطاني يقوم على مبدأ الاندماج بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

ويتزعم هذا الاتجاه الفقيه والتر باجهوت، إذ عبر عن رأيه في هذا الشأن في كتابه المسمى "الدستور الانجليزي"، وهو ـ كما يذكر باجهوت في مقدمة الكتاب ـ وصف حي للدستور البريطاني وطريقة سير المؤسسات الدستورية فيه خلال الفترة 1865ـ 1867، حيث يقول: "يمكن وصف سر فاعلية الدستور الإنجليزي بأنه الاتحاد المتين والاندماج الكامل تقريباً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية… وصِلَةُ الوصل بينهما هي الوزارة، وما نعنيه من تلك الكلمة الجديدة ـ أي الوزارة ـ هو لجنة مختارة من أعضاء الهيئة التشريعية لممارسة السلطة التنفيذية".

وقد أيد بعض الفقهاء الإنجليز المعاصرين ما ذهب إليه باجهوت من أن سر فاعلية الدستور البريطاني لا تكمن في فصل السلطات وإنما في اندماجها، واستندوا في ذلك ـ إضافة إلى ما ذكره باجهوت ـ إلى عدة حجج أهمها: أن رئيس مجلس اللوردات Lord Chancellor يقوم بوظائف قضائية وتنفيذية وتشريعية: فهو من ناحية رئيس السلطة القضائية Head of the Judiciary، وهو من ناحية ثانية عضو في الوزارة Member of the Cabinet، كما أنه من ناحية ثالثة عضو في الهيئة التشريعية Legislature إذ يتبوأ منصب رئيس المجلس التشريعي الأعلى Upper House أي رئيس مجلس اللوردات. ولزيادة حدة الاندماج، فإن مجلس اللوردات The House of Lords ـ وهو يشكل جزءاً من السلطة التشريعية ـ فإنه يعد كذلك بمثابة محكمة استئناف آخر درجة The final Court of Appeal، كما أن السلطة القضائية تقوم بعمل القوانين، وذلك من خلال مبدأ السابقة القضائية The Doctrine of precedent، وعلاوة على ذلك، فإن نمو المحاكم الإدارية Administrative tribunals وتزايدها بأعداد كبيرة يفيد بأن السلطة التنفيذية تتصرف على نحو واسع في مجال الوظيفة القضائية، كما أنها ـ أي السلطة التنفيذية ـ من خلال ممارسة التشريع المفوَّض Delegated legislation تستطيع سن القوانين من دون إتباع الإجراءات التشريعية العادية.

إن النتائج المنطقية لهذا الاندماج fusion ضمن الدستور البريطاني تشير إلى أن هناك مجالاً ضيقاً لتطبيق نظام الضوابط والموازنات Checks and balances، فالحكومة عملياً ليست بالمرصاد للبرلمان (بمعنى عدم إمكانية تطبيق المبدأ القائل بأن السلطة توقف أو تحد السلطة)، فإن الحكومة تسيطر عليه (البرلمان) بالكامل، وذلك من خلال الانضباط الحزبي Party discipline. ويضاف إلى كل ما تقدم، أن المحاكم ليس لها صلاحية فحص التشريع أو الاعتراض عليه بالطريقة نفسها التي تقوم بها المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة (أي لا يمكن أن تثور فكرة الرقابة على دستورية القوانين)، وعلاوة على ذلك، فإن "مبدأ سيادة البرلمان" يعني أن أي قرار أو أي حكم قضائي غير مرغوب فيه من جانب الحكومة يمكن تعطيله وإبطال مفعوله بقانون جديد.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن نشوء نظام الحزبين السياسيين في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر، وما رافقه من ظهور لحكومة الوزارة، والتخلي عن تسمية النظام البريطاني بالنظام البرلماني، ذلك كله جعل رئيس الوزراء البريطاني يتحلى بسلطات واسعة اعتماداً على أنه زعيم الحزب الحاكم وما يتمتع به حزبه من أغلبية داخل البرلمان، مما جعله قابضاً على زمام الأمور، بيده أمهات المسائل، الأمر الذي أضعف من رقابة البرلمان على الحكومة وأخل بالتوازن المطلوب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأفقد النظام البرلماني أهم مكوناته، فالأغلبية التي يظفر بها الحزب الحاكم داخل البرلمان جعلت الحكومة تحيف وتتحكم، لأنها هي الأقوى والأقدر بما تستحوذ عليه من سلطات باعتبارها الهيئة الممثلة لأهداف الشعب والملقى على عاتقها تحقيق تطلعاته وأمانيه، وغدت الوزارة في إنجلترا صاحبة القول الفصل في ميدان السلطة التنفيذية نظراً للدور الأدبي الذي يمثِّله الملك في هذا المجال.

وهكذا، فإن نشوء نظام الحزبين في إنجلترا وما تميز به من التزام صارم بخط حزبي واحد في التصويت داخل مجلس العموم، واختيار رئيس الوزراء من الحزب الحاصل على أغلبية المقاعد النيابية، وتشكيل الوزارة من أعضاء البرلمان من الحزب ذاته، ذلك كله أدى إلى سيطرة زعامة الحزب الحاصل على أغلبية المقاعد في مجلس العموم على السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما جعل النظام البريطاني يفقد أحد العناصر الرئيسية التي يتميز بها النظام البرلماني وهو المساواة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ رجحت كفة هذه الأخيرة، وصارت الموجه الحقيقي لشؤون الحكم، الأمر الذي أدى إلى تسمية النظام البريطاني باسم "حكومة الوزارة"، إذ صارت الوزارة التي تشكل من زعامات الحزب الحاصل على الأغلبية، تلقى تأييداً مستمراً من جانب تلك الأغلبية، ولم يعد في مقدرة مجلس العموم أن يهدد بسحب الثقة من الوزارة إلا في حالات نادرة جداً، فلن تميل الأغلبية المسيطرة على البرلمان إلى إسقاط وزارة تنتمي إلى حزبها.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ السيد صبري، حكومة الوزارة، بحث تحليلي لنشأة وتطور النظام البرلماني في إنجلترا (المطبعة العالمية، القاهرة 1953).

ـ حسن مصطفى البحري، "الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كضمان لنفاذ القاعدة الدستورية"، "دراسة مقارنة"، رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة عين شمس بالقاهرة، 2005/2006.

ـ و"دور السلطة التنفيذية في العملية التشريعية في النظام البرلماني البريطاني"، بحث قانوني منشور في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 24، العدد الأول/ 2008.

ـ يحيى الجمل، الأنظمة السياسية المعاصرة (دار الشروق، القاهرة 1977).

- A. W. BRADLEY & EWING, KEITH, Constitutional and Administrative Law (London, Longman, Eleventh Edition, 1993).

- A. H. BIRCH, Representative and Responsible Government, An Essay on the British constitution (London, George Allen & Unwin, First Published in 1964).

- ALEX CARROLL, Constitutional and Administrative Law (London: Longman, Second Edition, 2002).

- SIMON JAMES, British Cabinet Government (London: Routledge, Second Edition 1999).

- DELL C. HITCHNER & WILLIAM H. HARBOLD, Modern Government, A Survey of Political Science (New York, DODD, MEAD & Company, Second Edition, 1966).

- JOHN KINGDOM, Government and Politics in Britain (Cambridge, Polity Press, First & Third Editions 1991, 2003).

- Duncan WATTS, British Government and Politics: A Comparative Guide (Scotland: Edinburgh University Press, 2006).


- التصنيف : القانون الدولي - النوع : القانون العام - المجلد : المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام - رقم الصفحة ضمن المجلد : 405 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق