شركات في فقه إسلامي
companies in islamic jurisprudence - compagnies dans la jurisprudence islamique

الشركات في الفقه الإسلامي

الشركات في الفقه الإسلامي

وهبة الزحيلي

تعريف الشركة ومشروعيتها:

الشركة لغة: الاختلاط، أي خلط أحد المالين بالآخر، بحيث لا يمتازان من بعضهما. ثم أطلقت على العقد الخاص بالاشتراك، وإن لم يوجد اختلاط النصيبين؛ لأن العقد سبب الخلط.

وفقهاً ـ كما ذكر الحنفية: عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (رد المحتار 3/364) . وقانوناً كما عرفتها المادة (473) مدني سوري، (505) مدني مصري هي: عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي، بتقديم حصة من مال أو من عمل؛ لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو من خسارة.

والشركة مشروعة؛ لقوله تعالى: }فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ{ [النساء 12] وقوله عز وجل: }وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ{ [ص 24] والخلطاء: الشركاء. وقولهr في الحديث القدسي عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبيr قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما" (أخرجه أبو داوود والحاكم وصحح إسناده) أي أنا معهما بالحفظ والإعانة، وأبارك في تجارتهما، فإذا خان أحدهما الآخر؛ رفعتُ البركة في بيعهما والإعانة عنهما. وفي حديث آخر: "يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا" (أخرجه الدارقطني)، وأجمع العلماء على مشروعية الشركة.

وشركات العقود على الأموال إما أن يكون المال من طرفي العقد فأكثر، وإما بمال من أحد الشريكين وعمل من الآخر؛ وهي شركة المضاربة ، فتكون الشركات خمساً.

وشركات الأموال بالعقود المشتركة أربعة: هي شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأعمال أو الأبدان، وشركة الوجوه. أجاز الحنفية جميع هذه الشركات بشروط، وأجازها المالكية والحنابلة ما عدا شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره الحنفية، ولم يجز الشافعية إلا شركة العنان.

تعريف شركة العِنان وشروطها:

شركة العِنان: هي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه، والربح بينهما. وسميت بذلك لأن الأصل في الشريكين: أن يتساويا في المال والتصرف، كتساوي عِناني الفرسين. والعِنان: سَيْر اللجام الذي تمسك به الدابة، قال أبو بكر الرازي في مختار الصحاح: شركة العنان: أن يشتركا في شيء خاص دون سائر أموالهما، كأنه عنَّ لهما شيء، فاشترياه مشتركين فيه. وقد اتفق العلماء على مشروعية هذه الشركة، وهي السائدة بين الناس.

وشروطها كشروط جميع شركات العقود مع شروط أخرى تشمل جميع شركات الأموال.

أما شروطها العامة فهي ثلاثة

1ـ قابلية الوكالة: وهي أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة، فلا تصح شركة العقود في رأي الحنفية خلافاً للشافعية في المباحات كالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد، وهذا يعني أن يأذن كل شريك لصاحبه في التصرف بالشراء والبيع وتقبُّل الأعمال، علماً أن الوكيل: هو المتصرف بإذن غيره. وسبب هذا الشرط: ثبوت الاشتراك في الربح المستفاد بالتجارة، ولا يصير هذا المستفاد مشتركاً بين الشريكين؛ إلا أن يكون كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في بعض أموال الشركة، وعاملاً لنفسه في بعضها الآخر.

2ـ العلم بالربح: أي أن يكون الربح معلوم القدر بجزء محدد بالاتفاق على كون حصة كل شريك من الربح نسبة معلومة منه، كالخمس أو الثلث أو النصف.

3ـ الشيوع في الربح: أي أن يكون الربح جزءاً شائعاً في الجملة، لا معيّناً، فإن عينا ربحاً معيّناً لأحد الشريكين كعشرة أو مئة؛ كانت الشركة فاسدة لاحتمال ألا يتحقق ربح إلا هذا القدر المخصص لأحدهما، فيكون التعيين منافياً لمقتضى الشركة.

ويضاف إلى هذا شروط تشمل شركات الأموال كلها، وهي شرطان:

أن يكون رأس مال الشركة أشياء موجودة (حاضرة) عند العقد أو عند الشراء، فلا يجوز كون رأس المال ديناً ولا مالاً غائباً، لأن المقصود من الشركة الربح بالتصرف بالمال، ولا يمكن التصرف في الدين ولا في المال الغائب، فلا يتحقق المقصود من الشركة؛ ولأن المدين ربما لا يدفع الدين، وقد لا يحضر المال الغائب.

ولا يشترط خلط المالين في رأي الجمهور غير الشافعية؛ لأن الشركة يتحقق معناها بالعقد لا بالمال، ومورد العقد هو العمل، والربح نتيجته، والمال تبع. فتصح الشركة من جنسين مختلفين كأقمشة وألبسة جاهزة أو من جنسين متفقين، كحنطة جديدة وحنطة عتيقة.

أن يكون رأس المال من النقود المتداولة: فلا تجوز الشركة في العروض التجارية كالعقارات أو المنقولات؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال (المثليات)، وإنما هي من ذوات القيمة (القيميات) التي تختلف باختلاف أعيانها، والشركة في العروض تؤدي إلى جهالة الربح عند قسمة مال الشركة، بسبب جهالة قيمة الأعيان؛ لتوقفها على الحزر والظن، وذلك يختلف باختلاف التقويم (أو التقييم)، فيصير الربح مجهولاً، والجهالة تؤدي إلى المنازعة عند القسمة. وعليه فلا تصح الشركة في التِّبْر من الذهب أو الفضة، ولا في المثليات من الأعيان كالحبوب ونحوها.

وأجاز المالكية الشركة في العروض التجارية كالشركة في النقود، وتكون الشركة في العروض مقدرة بقيمتها، فتشبه النقود. كما أجازوا هم والشافعية الشركة في المثليات (المكيلات كالحبوب والموزونات كالأقطان والذرعيات كالأقمشة والعدديات المتقاربة كالجوز والبيض).

تعريف شركة المفاوضة وشروطها:

المفاوضة لغة: المساواة، وفقهاً في مذهب الحنفية: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما ودينهما (ملّتهما)، ويكون كل شريك منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع، وما يجب لكل واحد منهما. أي إنهما يكونان متضامنين في الحقوق والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه، ويكون كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه فيما يجب له، وكفيلاً له فيما يجب عليه، فهما متساويان في رأس المال وفي الربح وفي التصرف، فلا يجوز كون أحدهما يملك ألف دينار والآخر خمس مئة، ولا تصح بين صبي وبالغ ، ولا بين مسلم وكافر.

فإذا اختص أحد الشركاء في هذه الشركة بملك مال صالح لجعله رأس مال لشركة العقد، كالنقود؛ لا تكون شركة مفاوضة لانعدام المساواة بينهما. لكن يصح اختصاص أحدهما بملك عقار، أو بدين على إنسان، أو بملك سلعة معيّنة.

ولم يجز غير الحنفية والزيدية هذه الشركة، وهي نادرة التحقق، وشبّهوها ببيت من زجاج، فإذا اختل شرط منها انقلبت إلى شركة عنان وأجاز المالكية شركة المفاوضة بمعنى مختلف عن المعنى المذكور: وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال استقلالاً؛ دون الحاجة إلى أخذ رأي شركائه، بيعاً وشراء، وأخذاً وعطاء، وكراء واستكراء، وضماناً وتوكيلاً وكفالة ومضاربة (قراضاً) وتبرعاً، وغير ذلك مما تحتاج إليه التجارة من تصرف. ويلزم كل شريك بكل ما يعمله شريكه، ولا تكون هذه الشركة إلا فيما تم العقد عليه من أموالهما، دون ما ينفرد به كل منهما من مال لم يُدخله في الشركة.

وشروطها في مذهب الحنفية ستة هي:

1ـ أن يكون لكل من الشريكين أهلية الوكالة والكفالة: بأن يكونا بالغين عاقلين راشدين؛ لأن ما يلزم أحدهما من الحقوق والواجبات فيما يتجران فيه يلزم الآخر، وكل واحد منهما بمنزلة الوكيل والكفيل.

2ـ المساواة في رأس المال المشترك قدراً وصفة في البدء والانتهاء: فلو كان المالان متفاضلين قدراً لم تكن مفاوضة؛ لأن الشركة قائمة على المساواة، وإذا كان المالان متفاضلين قيمة، كأن تفاضل النقدان في قيمة الصرف؛ لم تجز المفاوضة لاختلال المساواة.

3ـ أن يكون كل ما يصلح أن يكون رأس مال للشركة لأحد المتفاوضين داخلاً في الشركة، وإلا لم تكن مفاوضة؛ لمنافاة ذلك مع مبدأ المساواة.

4ـ المساواة في الربح: فإن شرطا التفاضل في الربح؛ لم تكن مفاوضة لعدم المساواة.

5ـ أن تكون المفاوضة في جميع التجارات: فلا يختص أحد الشريكين بتجارة دون شريكه؛ لأن في الاختصاص بتجارة معيّنة إبطالاً لمعنى المفاوضة: وهو المساواة. ولذا لم يجز أبو حنيفة ومحمد المفاوضة بين مسلم وغير مسلم؛ لأن غير المسلم يتعامل بالخمر والخنزير. وأجاز أبو يوسف المفاوضة بين مسلم وغير مسلم؛ لاستوائهما في أهلية الوكالة والكفالة.

6ـ أن يكون إبرام العقد بلفظ المفاوضة أو ما في معناها؛ لتكون الشركة مفاوضة، فإذا اختل شرط من هذه الشروط، انقلبت الشركة شركة عنان؛ لعدم اشتراط هذه الشروط فيها. وأوضح أستاذنا الشيخ علي الخفيف أن المفاوضة لا تعدّ شركة واقعية.

تعريف شركة الأعمال وشروطها:

ويقال لها أيضاً شركة الأبدان: وهي أن يشترك اثنان على أن يتقبلا في ذمتهما عملاً من الأعمال، ويكون الكسب الناتج كالخياطة والحدادة والصباغة والصيانة ونحوها مشتركاً بينهما، فيقولا: اشتركنا على أن نعمل فيه على أن ما رزق الله عز وجل من أجرة فهو بيننا على شرط كذا، كشركة الحرفيين من خياطين ونجارين وسماسرة (دلالين)؛ وهي المعروفة بشركة الحمالين وسائر المحترفة، ليكون بينهما كسبهما متساوياً أو متفاوتاً، سواء اتحدت حرفتهما كنجار ونجار؛ أم اختلفت كخياط ونجار. وهذه الشركة شائعة في ورشة الحدادة أو النجارة ونحوها، وتعدّ شركة التنقيب عن النفط، وشركة الشحن والتفريغ ونحوها؛ من شركات الأعمال.

وهي جائزة لدى المذاهب ما عدا الشافعية؛ لأن المقصود منها تحصيل الربح، وهو ممكن بالتوكيل، وقد تعامل الناس بها في الماضي والحاضر، ولأن الشركة تكون إما بالمال وإما بالعمل كالمضاربة، وهذه شركة أعمال. قال ابن مسعود: "اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر، فأصاب سعد أسيرين، ولم أصب أنا وعمار شيئاً، فلم ينكر النبيr علينا" (أخرجه أبو داوود والنسائي وابن ماجه عن أبي عبيدة بن عبد الله) علق ابن تيمية (الجد) على هذا الحديث قائلاً: وهو حجة في شركة الأبدان وتملك المباحات.

لكن اشترط المالكية لصحة هذه الشركة اتحاد الصنعة، وإن كان العمل بمكانين؛ فلا تجوز بين مختلفي الصنائع إلا إذا كان عملا الشريكين متلازمين، بأن يتوقف عمل أحدهما على وجود عمل الآخر كنساج وغزّال، وبشرط الاتفاق في العقد على اقتسام الربح بقدر عمل كل من الشريكين.

أما شروط هذه الشركة: فإن كانت شركة مفاوضة؛ اشترطت لها شروط المفاوضة، وإن كانت شركة عنان؛ فيشترط لها أهلية الوكالة فقط.

وإذا احتاجت الصنعة إلى استعمال آلة، فاستعملها أحد الشريكين؛ فلا يؤثر ذلك في ثبوت الشركة.

تعريف شركة الوجوه وشروطها:

شركة الوجوه أو الوجاهة: هي أن يشترك وجيهان عند الناس ـ من غير أن يكون لهما رأس مال ـ على أن يشتريا في ذمتهما بالنسيئة (أي لأجل)، ويبيعا بالنقد، بما لهما من وجاهة عند الناس، فيقولا: اشتركنا على أن نشتري لأجل، ونبيع بالنقد؛ على أن ما رزق الله تعالى من ربح (أي من فرق الأثمان) فهو بيننا على شرط كذا.

وسمي هذا النوع شركة الوجوه؛ لأنه لا يباع بالنسيئة إلا لوجيه من الناس عادة، وهي معروفة بالشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال.

وقد أجازه الحنفية والحنابلة؛ لأنها شركة عقد تتضمن توكيل كل شريك صاحبه في البيع والشراء، وكل توكيل على هذا النحو صحيح شرعاً، فتكون هذه الشركة جائزة، والناس تعاملوا بها في سائر العصور من غير إنكار من أحد، فتصح مع تفاوت الحصص، للحديث الثابت: "المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك" (أخرجه الحاكم عن أنس وعائشة، وهو صحيح)، لكن الخسارة على قدر ضمان كل شريك.

وقال بقية الفقهاء: إن هذه الشركة باطلة؛ لأن الشركة تتعلق بالمال أو بالعمل، وكلاهما معدوم في هذه الشركة، مع ما فيها من الغرر (الاحتمالات)؛ لأن كل شريك يعاوض صاحبه بكسب غير محدد بصناعة أو بعمل مخصوص، ولأن الربح بقدر الضمان، فإن زاد الربح على مقدار الضمان؛ زاد بلا مقابل ، وهو لا يجوز.

وأما شروط هذه الشركة: فإن كانت شركة مفاوضة، فيشترط أن يكون الشريكان من أهل الكفالة، وأن يلتزم كل منهما بنصف ثمن الشيء المشترى؛ لأن المشترى بينهما نصفان، وأن يكون الربح بينهما نصفين، وأن يتلفظ كل شريك بلفظ المفاوضة؛ لأن هذه الشركة قائمة على المساواة التامة بين الشريكين.

وأما إن كانت شركة عنان فلا تشترط فيها سوى شروط هذه الشركة، فيصح تفاضل الشريكين في تملك الشيء المشترى، ويكون التزامهما بثمن المشترى على قدر ملكيهما، ويكون الربح بينهما على قدر تحملهما ثمن المشتري فإذا شرط لأحدهما زيادة ربح على حصته، يكون الشرط باطلاً؛ لأن الربح يتقدر بقدر ضمانهما ثمن المشترى.

أحكام الشركات:

لكل شركة مما تقدم أحكام إذا كانت الشركة صحيحة، أما إن كانت فاسدة في أصلها؛ فيقتسم الشريكان موجودات الشركة على قدر الحصص، ويرجع كل شريك على الآخر بأجرة عمله في ماله.

أما شركة العنان: فيجوز اشتراط العمل فيها على الشريكين أو على أحدهما دون الآخر، ويوزع الربح بقدر رأس المال أو الحصة أو بحسب الاتفاق؛ عملاً بحديث: "الربح على ما شرطا، والوضيعة ـ أي الخسارة ـ على قدر المالين" (قال الزيلعي عنه في نصب الراية 3/475: غريب جداً)؛ أي لا أصل له. أما الخسارة : فهي على قدر رأس المال بالاتفاق. وأما هلاك مال الشركة؛ ففصل فيه الحنفية والشافعية: فإن كان قبل الشراء بطلت الشركة؛ لزوال المعقود عليه، وإن كان بعد الشراء؛ فيكون الهلاك على الشريكين. وقرر المالكية والحنابلة: أن الهلاك مطلقاً قبل الشراء أو بعده على الشركاء.

وأما التصرف بمال الشركة بيعاً أو شراء، أو نسيئة (لأجل)؛ فهو جائز عند الحنفية.

وكذا عند المالكية والحنابلة لكل من الشريكين، ولم يجز الشافعية البيع نسيئة، واشترط الفقهاء لهذه الشركة ألا يكون البيع بغبن فاحش، وهو ما لا يتغابن الناس في مثله.

ويجوز السفر بمال الشركة في رأي الجمهور خلافاً لأبي يوسف والشافعي؛ لأن الإذن بالتصرف يثبت بمقتضى الشركة، والشركة صدرت مطلقة عن المكان، والمطلق يجري على إطلاقه إلا لدليل. ولا يجوز بالاتفاق التبرع بمال الشركة أو الإقراض.

وأما شركة المفاوضة: فيجوز لكل شريك الإقرار بالدين على نفسه وعلى شريكه، ويلتزم كل من الشريكين بديون التجارة وما في معناها، تحقيقاً للمساواة بينهما، ويلتزم أيضاً بمقتضى الكفالة، ويطالب كل شريك بحقوق البيع والشراء، كالتسليم والتسلم، والمطالبة بالثمن، لكن لا يؤاخذ الشريك بضمان الجناية على الإنسان، والمهر والنفقة؛ لأن هذه الديون بدل عما لا يصح الاشتراك فيه.

وأما شركة الأعمال: فإن كانت شركة مفاوضة فتطبق عليها أحكام شركة المفاوضة، وإن كانت شركة عنان؛ فتطبق عليها أحكام شركة العنان، ففي المفاوضة يضمن كل من الشريكين العمل على التساوي، ويتساويان في الربح والخسارة، ويكون كل شريك كفيلاً عن صاحبه فيما لزمه بسبب هذه الشركة .

وأما شركة الوجوه: فأحكامها مثلما ذكر في شركة الأعمال بحسب كون الشركة مفاوضة أو عناناً.

وصفة عقد الشركة ويد الشركة: أن الشركة في رأي الجمهور عقد جائز غير لازم، فيجوز لكل شريك أن يفسخ العقد بعلم الشريك الآخر. والمعتمد عند المالكية أن الشركة تصبح لازمة بالشروع بالتصرف أو العمل.

ويد الشريك بالاتفاق: يد أمانة كالوديعة؛ لأنه قبض المال بإذن صاحبه، فلا يضمن ما يتلف بيده إلا بالتعدي أو بالتقصير في الحفظ.

وتبطل الشركة بفسخها من أحد الشركاء في رأي الجمهور، غير المالكية إلا باتفاق الطرفين عندهم، وبموت أحد الشركاء، لبطلان الملك، وارتداد أحد الشركاء ولحوقه بدار الأعداء؛ لأن ذلك بمنزلة الموت، وجنون الشريك جنوناً مطبقاً، لخروجه عن الأهلية. وهذه مبطلات عامة، يلحق بها مبطلات خاصة ببعض الشركات تفهم مما تقدم في أحكام الشركات.

أما شركة المضاربة: فهي من أنواع الشركات عند غير الحنفية، وتسمى في العراق مضاربة، وفي الحجاز قراضاً: مشتق من القرض، وهو القطع؛ لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها، ويعطيه قطعة من الربح.

وهي أن يدفع المالك إلى العامل مالاً ليتجر فيه، ويكون الربح مشتركاً بينهما بحسب ما شرطا. وأما الخسارة فهي على رب المال وحده، دون العامل المضارب الذي يخسر عمله وجهده. وعرفها صاحب كنز الدقائق الحنفي بقوله: هي شركة بمال من جانب، وعمل من جانب آخر.

وهي بالاتفاق مشروعة لقوله تعالى: }وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ{ [المزمل20] والضرب في الأرض: السفر فيها للتجارة، والمضارب: يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله عز وجل. وأجاز النبيr فعل العباس بالمضاربة (أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عباس، لكن فيه متروك). وأجمع العلماء على مشروعية المضاربة، لما روي عن جماعة من الصحابة أنهم دفعوا مال اليتيم مضاربة، ولم ينكر عليهم أحد، ومنهم عمر وبعض الصحابة حيث جعلوا اشتغال عبد الله وعبيد الله ابني عمر مضاربة في مال دفعه إليهما والي العراق، فأخذ الولدان نصف ربح المال، وأخذ بيت المال رأس المال ونصف ربحه (أخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه). وقيست المضاربة على المساقاة (العمل في الشجر مقابل بعض الثمر) لحاجة الناس إليها.

وتنعقد المضاربة بثلاثة عناصر: وهم عاقدان (مالك وعامل) ومعقود عليه (رأس المال والعمل والربح) وصيغة (إيجاب وقبول).

والمضاربة نوعان:

1ـ مطلقة: وهي أن يدفع شخص المال إلى آخر ليعمل فيه من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله العامل.

2ـ ومقيدة: وهي أن يعيّن رب المال شيئاً مما سبق، بأن يعمل في المال في بلدة معيّنة، أو في بضاعة معيّنة، أو في وقت معين، أو لا يتعامل إلا مع شخص معيّن.

وصفة العقد كبقية الشركات: أنه قبل شروع العامل في العمل غير لازم، وأن لكل من العاقدين فسخه. فإذا شرع العامل في المضاربة؛ فالعقد لازم في رأي الإمام مالك، فهو يلزم بالشروع فيه، وهو عقد يورث. وذهب بقية الأئمة إلى أن العقد غير لازم، ولكل من العاقدين الفسخ ولو بعد الشروع إذا شاء، وليس هو عقداً يورث.

ويجوز عند المالكية تعدد المضارب، فيكون أكثر من واحد، ويوزع الربح على العاملين على قدر العمل.

ويلاحظ أن شركات الأشخاص التجارية (وهي شركة التضامن وشركة التوصية البسيطة وشركة المحاصة) تعدّ جميعها من قبيل شركة المضاربة في الفقه الإسلامي، وكذلك شركات الأموال أو شركات المساهمة ـ حيث يكون العمل في المال عادة لغير أرباب الأموال فيهاـ تعدّ من قبيل شركة المضاربة. وكذلك الشركات ذات المسؤولية المحدودة (وهي التي لا يزيد عدد الشركاء فيها على خمسين شريكاً) تعدّ مضاربة، كما يرى الأستاذ الشيخ علي الخفيف.

وتشترط شرائط في المضاربة في العاقدين، وفي رأس المال، وفي الربح: فيشترط في العاقدين (وهما رب المال والمضارب) أهلية التوكيل والوكالة، وتصح بين مسلم وغير مسلم.

ويشترط في رأس المال أربعة شروط، هي:

1ـ أن يكون رأس المال من النقود الرائجة: كما هو الشرط في شركة العنان، فلا تجوز المضاربة بالعروض التجارية من عقار أو منقول، في رأي جمهور العلماء؛ لمنع الغرر، وهو الاحتمالات، بسبب أداء ذلك إلى جهالة الربح وقت القسمة، لاختلاف المقومين في تقدير القيمة، والجهالة تفضي إلى المنازعة، والمنازعة تفضي إلى الفساد، وللعامل حينئذ أجر مثله في ذمة رب العمل.

2ـ أن يكون رأس المال معلوم المقدار: فإن كان مجهولاً لا تصح المضاربة؛ لأن الجهالة تفضي إلى جهالة الربح، والجهالة سبب المنازعة.

3ـ أن يكون رأس المال شيئاً موجوداً حاضراً، فلا تصح المضاربة على دين في الذمة، ولا على مال غائب؛ لعدم التأكد من القبض، وهذه الشروط متفق عليها لدى العلماء.

4ـ أن يسلَّم رأس المال إلى العامل المضارب: ليتمكن من العمل فيه بحرية؛ ولأن رأس المال أمانة في يد المضارب، فلا يتحقق مدلول المضاربة إلا بقبض المال عن طريق التخلية كالوديعة، وهذا الشرط مقرر لدى الجمهور، عدا المالكية، فيجوز عندهم للعامل أن يشترط عمل رب المال معه مجاناً، أو يشترط تقديم رب المال دابته أو سيارته مثلاً حيث كان المال كثيراً.

واشتراط هذا الشرط يجعل المضاربة تختلف عن شركات الأموال المتقدم بيانها، فإنها تصح مع بقاء يد رب المال على ماله. والفرق: أن المضاربة انعقدت على رأس مال من أحد الجانبين وعلى العمل من الجانب الآخر، ولا يتحقق مقتضى العمل إلا بعد خروج المال من يد صاحبه ليتمكن من التصرف فيه. أما الشركة المالية فإنها انعقدت على العمل من طرفي العقد، فإذا اشترط إزالة يد رب المال عن العمل؛ فيكون هذا الشرط مناقضاً لمقتضى العقد، كما لو شرط في المضاربة عمل رب المال، فإن المضاربة تفسد عند الجمهور، سواء عمل رب المال مع المضارب أم لم يعمل؛ لأن شرط عمله معه معناه اشتراط بقاء يده على المال، وهذا شرط فاسد يفسد المضاربة.

وأما ما يشترط في الربح: فهو أولاً: أن يكون معلوم القدر؛ لأن المقصود من العقد هو الربح، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد.

وثانياً: أن يكون جزءاً مشاعاً، أي نسبة مئوية كالثلث أو النصف أو الربع.

أحكام المضاربة:

إذا كانت المضاربة فاسدة كأن يقول شخص لآخر: صد بشبكتي هذه والصيد بيننا، فلا يثبت فيها شيء من أحكام المضاربة الصحيحة، ولا يستحق النفقة ولا الربح المسمى، وإنما للعامل المضارب أجر مثل عمله، والربح كله لرب المال.

وأما إذا كانت المضاربة صحيحة فيكون العامل المضارب أميناً فيما في يده من رأس المال بمنزلة الوديعة؛ لأنه قبضه بإذن مالكه، وإذا اشترى شيئاً صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع، وإذا ربح المضارب صار شريكاً فيه بقدر حصته من الربح، وإن شرط على العامل ضمان رأس المال إن تلف؛ بطل الشرط وصح العقد عند الحنفية والحنابلة، وتكون المضاربة فاسدة عند المالكية والشافعية.

وإذا كانت المضاربة مطلقة فللمضارب أن يتصرف في مال المضاربة بحرية في كل مكان، ومع سائر الناس؛ لأن المقصود من المضاربة تحصيل الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع بحسب الفرصة المتاحة. أما إذا كانت المضاربة مقيدة ففي الشراء يتقيد المضارب بالمعروف، وهو الشراء بمثل القيمة، أو بأقل منه مما يتغابن الناس في مثله؛ لأنه يملك البيع نقداً ونسيئة (لأجل) ولو بغبن فاحش. لكن يرى الصاحبان وبقية الفقهاء أنه يتقيد بالمتعارف.

وليس للمضارب في المضاربة المطلقة أن يفعل بعض الأفعال إلا بالنص عليها صراحة، كالاستدانة أو التبرع بالمال، وليس للمضارب أن يضارب غيره أو يشارك فيه، وأن يخلطه بمال نفسه أو مال غيره؛ إلا بتفويض من رب المال.

ويوزع الربح بحسب الشرط المتفق عليه بين العاقدين.

وحكم المضاربة المقيدة كالمضاربة المطلقة في جميع الأحكام المذكورة، لكن مع التقيد بالقيد الذي قيدت به بتحديد المكان وتوقيت الزمان وتعيين الشخص المتعامل معه.

وحقوق المضارب شيئان:

1ـ النفقة من مال المضاربة في الأسفار بما يحتاج إليه من طعام وكساء ونحو ذلك في رأي الجمهور، غير الشافعية القائلين: لا نفقة للمضارب على نفسه من مال المضاربة مطلقاً في الحضر والسفر إلا بإذن رب المال له. وقدر النفقة بالمعروف، وتحتسب النفقة من الربح إن حدث ربح، وإلا فهي من رأس المال.

2ـ الربح المسمى المتفق عليه إن وجد، فإن لم يوجد فلا شيء للمضارب؛ لأنه عامل لنفسه، فلا يستحق الأجر. ويظهر الربح بالقسمة بعد قبض رأس المال.

وحق رب المال: أن يأخذ حصته من الربح المسمى إذا كان في المال ربح، وإن لم يكن فلا شيء له على المضارب.

وأما مبطلات المضاربة: فهي فسخ العقد، أو النهي عن التصرف أو العزل بشرط علم المضارب بذلك. وموت أحد العاقدين ، وجنون أحدهما لأنه يزيل الأهلية، وارتداد رب المال عن الإسلام، وهلاك مال المضاربة في يد المضارب قبل أن يشتري به شيئاً، أو باستهلاك المضارب مال المضاربة، أو إنفاقه، أو دفعه إلى غيره، فاستهلكه.

وما هلك من مال المضاربة هو من الربح دون رأس المال؛ لأن الربح تابع لرأس المال، ورأس المال أصل له، ولا يعدّ التبع قبل حصول الأصل.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ علاء الدين الكاشاني، البدائع (مطبعة الجمالية، الطبعة الأولى، مصر 1328هـ).

ـ أبو البركات أحمد الدردير، الشرح الكبير (مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر 1219هـ).

ـ محمد الخطيب الشربيني، مغني المحتاج (مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1352هـ/1993م).

ـ عبد الله بن محمد بن قدامة، المغني (دار المنار، الطبعة الثالثة، القاهرة 1367هـ).


- التصنيف : القانون التجاري - النوع : القانون التجاري - المجلد : المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي - رقم الصفحة ضمن المجلد : 289 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق