الاستنساخ البشري في الفقه الإسلامي
استنساخ بشري في فقه اسلامي
human cloning in islamic jurisprudence - clonage humain dans la jurisprudence islamique
الاستنساخ البشري في الفقه الإسلامي
وهبة الزحيلي
تعريفه وتحدياته: الاستنساخ cloning هو أخذ خلية جسدية من كائن حي تحتوي على كافة المعلومات الوراثية وزرعها في بويضة مفرغة من مورثاتها، ليأتي المخلوق الجديد أو الجنين مطابقاً تماماً للأصل، أي الكائن الأول الذي أخذت منه الخلية.
أو هو - بعبارة أخرى -: تشكيل كائن حي نسخة مطابقة تماماً من حيث الخصائص الوراثية والفيزيولوجية والشكلية لكائن حي آخر، إذن: فهو توالد لاجنسي؛ أي من غير تلاقح، وهو شائع في النباتات مثل طريق التهجين: وهو تكوين نبات جديد من خلية نباتية واحدة، وأما في الكائنات الحية أو الحيوانية فكان في ميدان التجربة المخبرية، ثم تم في معهد روزلين في مدينة أدنبرة البريطانية إنتاج نعجة أطلق عليها اسم «دولّي» في شباط/فبراير في 5/7/1996م، تُعدّ نسخة طبق الأصل لنعجة أخرى؛ من طريق تغيير حامضها النووي في البويضة بعد انتزاع الحامض النووي من النعجة الأصلية وزراعته في البويضة الملقحة التي أنتجت النعجة الجديدة دولّي، ثم ماتت بعد بضع سنوات معدودة، وكذلك تم مولد اثنين من القردة بالاستنساخ في آب/أغسطس 1996م في اسكتلندا عن طريق خليتين مختلفتين، وتوصل الباحثون أخيراً إلى استخدام الأسلوب نفسه لإنتاج ثمانية قردة من خلية جنين واحد.
وتكرر ذلك بإنتاج جمل في دبي في نيسان/أبريل سنة 2009م.
والخطورة تكمن في إنتاج نسخ طبق الأصل لبشر، وهو الموضوع الذي كان يحلم به هتلر في الأربعينات من القرن العشرين لإنتاج جنس بشري جرماني متفوق، واتجهت أمريكا وأوربا وغيرهما والڤاتيكان ومنظمة الصحة العالمية لدراسة هذه الظاهرة، وصدرت تصريحات رؤساء دول وقوانين تحرِّم استخدام التقنية الجينية في البشر.
ومن المعلوم أن العوامل الوراثية كالشكل وغيره تنتقل بالوراثة من الوالدين إلى الجيل الجيد، كما تنتقل أيضاً بعض الأمراض الخطيرة بالوراثة؛ مثل السرطان وبعض أمراض القلب والعيون، ويتم انتقالها بوساطة الكروموزومات التي تتكون من خيط رفيع موجود في نواة الخلية.
مجالاته وغاياته: الاستنساخ أو إعادة الزرع يستخدم في مجالات متعددة تتعلق بالنبات والحيوان والإنسان.
والواجب الانتباه على أن استنساخ بشر وغيره ليس خلقاً جديداً أو إيجاداً من العدم؛ لأن الخلق الأول ينفرد به الله عز وجل، فهو الخالق كما تحدث القرآن الكريم في مجال إثبات وجود الله تعالى على قدرته وحده وعلى إمكان الخلق والإبداع الأصلي في آيات كثيرة، منها قوله سبحانه: )أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِين([الأعراف54]، )أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون([النحل71]، )وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ([القصص68]، وهذا تحدٍّ في الذات من حيث إيجادها من العدم يتبعه تحدٍّ آخر في الخصائص والصفات والوظائف في قوله تعالى: )صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ([البقرة 138].
ويلحق به تحدٍّ ثالث هو في التوازن والانسجام والنسبية المحكمة التي لا نظير لها في سائر أجزاء الكون سمائه وأرضه ومخلوقاته البرية والبحرية والجوية، في قول الله عزَّ وجلّ: )الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ~ خَلَقَ الإِنْسان~ عَلَّمَهُ الْبَيان~ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبان~ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ~ وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزان([الرحمن1-7].
ويتبعه تحدٍّ رابع تقويمي وجمالي وتخصصي؛ إذ لا نجد في الوجود أبدع ولا أكمل ولا أجمل تقويماً من صورة الإنسان التكوينية: )لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}([التين4].
وهناك تحديات أخرى كثيرة تشير إليها مراحل خلق الجنين وأطواره في الآية الكريمة: )وَلَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ~ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ~ ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِين~ ([المؤمنون12-14].
ويظل نفخ الروح سر الحياة المعجزة مقصوراً على الإله وحده لا شريك له في قوله سبحانه: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلا([الإسراء85].
فليس الاستنساخ خلقاً جديداً ولا إبداعاً من العدم وإنما هو تركيب جديد لمخلوق خلقه الله وفق نواميس أبدعها الله؛ عن طريق عملية دمج بنواة حية موجودة وحية أصلاً من فعل الله، ويراد تكوين موجودات متشابهة أو متماثلة للخلق الإلهي الموجود عن طريق نقل الخصائص والصفات الموجودة في الخلية الحية؛ وإيجاد مثيل لها من طريق الهندسة الوراثية؛ لأن التفاوت في خلق الموجودات من إنسان وحيوان ونبات فيه مصلحة للفرد والمجتمع في كل شيء ذاتي أو اجتماعي أو اقتصادي أو جنائي أو دولي، قال الله تعالى: )وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعالِمِين([الروم22].
إن مقاصد الاستنساخ كثيرة يراد بها الحصول على نوعيات متميزة، وعقليات وقدرات رفيعة، ومواهب فذة، وأصناف فضلى، ومخلوقات فذّة سواء في عالم الإنسان والحيوان والنبات، تحاكي الموجود الإلهي المتفوق، لا الأدنى ولا الأوسط.
وبما أن الخلية المأخوذة هي الأساس فلا يكون للمستنسخ عُمُر مبتدأ جديد، وإنما هو مشابه لعمر الأصل الذي أخذت منه تلك الخلية كما أثبتت التجارب.
وتقع المشكلة في عدم إمكان التمييز بين الأصل وفرعه في الشكل العام واللون الخاص والخصائص والصفات الموروثة الأخرى، وفي إحداث هزات ومشكلات اقتصادية واجتماعية وجنائية؛ إذ يتعذر التمييز بين أنواع الإنسان وأنشطته ومخالطته للآخرين.
الحكم الشرعي على الاستنساخ: يختلف الحكم الشرعي بحسب الغاية منه:
أ- ففي عالم النبات والحيوان: يراد من استخدام تقنية هندسة الجينات التوصل إلى إنتاج أوفر وأفضل وأكثر جودة وتميزاً في عالم النبات والحيوان؛ من طريق نقل بعض الجينات من بعض الخلايا إلى خلايا أخرى من الفصيلة ذاتها؛ لإيجاد نبات جديد متطور يحاكي الحسن والأحسن من النبات الشائع استعماله، كالحنطة المقاومة للحشرات، وحفظ الطماطم من دون تلف فترة زمنية معينة، وإيجاد ثمار ممتازة من النخيل عن طريق شتلات جيدة النوع والطعم واللون.
وفي عالم الحيوان يقصد من الاستنساخ تكثير الإنتاج الحيواني بوساطة فصل خلايا نامية منقسمة من الخلية الأم التي تتكاثر بالانقسام، ثم زرع هذه الخلايا الجاهزة للنمو في أرحام حيوانات أقدر على الحمل والإخصاب؛ كإيجاد الماشية بمواصفات جديدة في ألبانها ومقاومتها للأمراض؛ والإنتاج الفائق للحم الأحمر أو الحليب.
والرأي الشرعي هو الاتجاه إلى إباحة الاستنساخ في عالم النبات والحيوان سواء بإيجاد خلايا تحمل صفات مرغوبة بطريق التكاثر وتنمية الخلايا في المخابر، أم بتعديل المورِّثات (الجينات) المتميزة ببعض الصفات، وإلغاء صفات غير مرغوبة، أم بالتخلص من خلل أو عيب في الجين إذا لم يتحقق الضرر للإنسان؛ لأن في ذلك تحقيقاً لمصلحة البشرية، وإيجاد وفرة أكثر، وتنمية أخصب، ونوعية أحسن، أو لأن في ذلك علاجاً لمرض، وتفادياً للمضرة بالإنسان الذي يتغذى بالنتاج الحاصل، وذلك بشرط البعد عن العبث، والامتناع عن كل ما لا فائدة منه للإنسان؛ لأن التعديل الذي لا يحقق مصلحة ولا يدرأ مفسدة عبث محض وإضاعة للجهد والمال، وتغيير لخلق الله، وبشرط الأمان من تغير الشيء المتطور وتحوله إلى ما يضر أو يؤذي أو يقتل.
ب- وأما الاستنساخ البشري فله اتجاهان: أحدهما في مجال الطب والعلاج، وثانيهما في مجال التكاثر البشري:
أما مجاله في الطب والعلاج فمقبول من حيث المبدأ بتخصيص بعض الماشية التي تحتوي لحومها بوساطة العقاقير على مواد طبية شافية، كتطوير لبن ماعز خاص يحتوي على مواصفات طبية لشفاء أمراض خثرة الدم عند الإنسان، أو بعلاج خلية تناسلية تحتوي على جينات فيها خلل أو مرض معين، بوساطة حقن تلك الخلية بـجين سليم. والعلاج بمباح أمر مشروع في الإسلام، لقوله r: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء»، وقوله: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بالحرام».
وأما مجاله في الاستنساخ بين البشر فله حالتان: استنساخ الإنسان، واختيار نوع الجنين. أما استنساخ نوع الجنين فيتم بتكثير الخلية التناسلية البشرية الملقحة إلى عدة خلايا، بحيث تصبح كل خلية جنيناً مستقلاً، وقد نجح العلماء في الحصول على عدة توائم (خلايا) من خلية واحدة. ويحدث ذلك بالتلقيح خارج الرحم؛ أي بوساطة طريقة طفل الأنبوب، حيث تلقح البويضة بالحيوان المنوي داخل الأنبوب، ثم تحفظ في وسط محلول مناسب لنمو الخلية، وتتكاثر هذه الخلية الملقحة وتنقسم لتوليد خلايا كثيرة، فإذا زرعت هذه الخلايا في أرحام مستعدة لقبولها أو في رحم الأم نفسها؛ وجدت عدة توائم متعددة متشابهة نتجت من خلية واحدة، وهذا هو الاستنساخ، وهو جائز في حالتين من سبعة أحوال، كما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم (4) في الدورة الثالثة، وهما مقصوران على الزوجين فقط:
1- أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
2- أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً.
وأما استنساخ الإنسان من إنسان آخر وهو الاستنساخ بالتشطير - أي تشطير إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توءمان متماثلان - فلا يجوز لأنه يولد نسخاً أو نسائل متماثلة. كما لا يجوز استنساخ مخلوق كامل بطريقة تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكامل على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بييضة منزوعة النواة، فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر، فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولَّدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله، وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم «النقل النووي» أو «الإحلال النووي» للخلية البييضة، وهو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت، وهو الذي حدث في النعجة دوللي يدل على أن هذا المخلوق الجديد ليس في الواقع نسخة طبق الأصل؛ لأن بييضة الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة، ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية، ولم يبلَّغ أيضاً عن حصول ذلك في الإنسان.
ولا يخفى أن هذه العمليات وأمثالها لا تمثل خلقاً أو بعض خلق لأن الله وحده هو الخالق كما تقدم بيانه.
وقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة رقم 94 (2/10) في دورة مؤتمره العاشر حيث قرر أولاً: تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري. وثالثاً: تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحماً أم بييضة أم حيواناً منوياً أم خلية جسدية للاستنساخ.
ورابعاً: يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.
وعمليات الاستنساخ البشري كثيرة، منها: تعديل الصفات الوراثية الخطيرة، وهذا جائز في حال علاج الأمراض الخطيرة؛ كالسرطان والتشوه الشديد وتعدد العاهات والتخلف العقلي، أو العمى، أو المرض الوراثي الخطير الذي يؤثر في حياة الإنسان، ويعد ذلك من باب التداوي وهو مشروع كما تقدم.
ومنها: تحسين النسل إما في خصائص الدماغ كزيادة الذكاء أو الحس أو الانتباه، وإما في الأعضاء كإطالة القامة أو اليدين، وإما في الألوان كتغيير لون البشرة أو العين أو نحو ذلك، فلا يجوز شرعاً لأنه تغيير لخلق الله، وخلق الله المتفاوت له حكمة ربانية بالغة .
وأما إيجاد أعضاء إنسانية كالكلية والقلب وغيرهما فمحل نظر واختلاف بين العلماء، والأكثرون على المنع.
مراجع للاستزادة: |
- وهبة الزحيلي، بحث الاستنساخ - الجوانب الإنسانية والأخلاقية والدينية، منشور في كتاب بدار الفكر بدمشق 1418هـ/1997م بعنوان «الاستنساخ في جدل العلم والدين والأخلاق».
- هاني رزق، بيولوجيا الاستنساخ، منشور في الكتاب السابق.
- التصنيف : العلوم الشرعية - النوع : العلوم الشرعية - المجلد : المجلد الأول: الإباحة والتحريم ـ البصمة الوراثية - رقم الصفحة ضمن المجلد : 218 مشاركة :