logo

logo

logo

logo

logo

الفلسفة الحديثة

فلسفه حديثه

Modern philosophy - Philosophie moderne

الفلسفة الحديثة

 

تنتمي الفلسفة الحديثة modern philosophy إلى حقبة تاريخية عرفت «بالعصر الحديث» شاعت فيه ثقافة عقلانية - ليبرالية، متحررة إلى حد ما من الثقافة الدينية التي سيطرت على مقاليد الحياة في العصور الوسطى، وأخذ جو من الديمقراطيات ينمو باطّراد، نابع من تزايد سلطة الدول على حساب سلطة الكنيسة. وقد اتسمت هذه الفلسفة بخصائص تختلف في جوانب عدة عما سبقتها من فلسفات، من أهمها: التحرر من السلطة، وانتقاد الفكر، والعناية البالغة بالعلم، فقد استقلت الذهنية الفلسفية عن أي سلطة إلا سلطة العقل ذاته، فانفصلت الفلسفة عن اللاهوت وانقضى عصر الفلسفة المدرسية، وبدت حقائق العقل متمايزة عن حقائق الدين. وشرع الفيلسوف الحديث ينقد الأساليب العرفية التي استخدمها أسلافه، فصارت طريقة الفلسفة طريقة نقدية يتناول أصحابها طبيعة الفكر ووسائله وينقبون عن حقيقة العلم والمعرفة بالكشف من عناصر تلك المعرفة ورسم حدود العلم، وتعيين شروطه وإمكاناته، فدار كثير من الجدل في المباحث الإبستمولوجية حول أدوات المعرفة ومصادرها والوقوف على حقيقة العلاقة بين الذات العارفة والموضوع، وامتد الجدل عند بعض المحدثين حول إمكان قيام المعرفة الصحيحة ونتائجها على المستوى الأنطولوجي (الوجودي) وحتى الأخلاقي.

ولئن تبلورت الفلسفة الحديثة أنساقاً فكرية شاملة أقامها أصحاب الاتجاه العقلي على العقل، وأقامها أصحاب الاتجاه التجريبي على التجربة، ابتداءً من القرن السابع عشر، إلا أن النظرة الحديثة كانت قد بدأت منذ عصر النهضة، فقد ساعد الجو الفكر المتحرر نسبياً، خاصة في إيطاليا، على دعم التمرد على العصر الوسيط واحتضار مدارسه الفكرية والتحرر من سلطة الكنيسة، فاستردت الفلسفة استقلالها، وقام مفكرون أحرار في فرنسا مثل «رابليه» Rabelais و«مونتيني» Montaigne، وظهر في إيطاليا علماء متحمسون يدعون إلى العودة إلى الواقع ومعاينة ظواهره، ونقاد يُحرّضون ضد المعتقدات والقيم السائدة وفي مقدمتهم «ميكافيللي»[ر] Machiavelli الذي أسّس بدعواته الحريات السياسية والعقلية، وطروحاته الجديدة عن السلطة، لتصور جديد عن العالم والإنسان، إضافة إلى انتقادات «إراسموس»[ر] Erasmus حول الانحرافات الكنسية وشرور رجال الدين، ونبذه لكل لاهوت أسست له الفلسفة المدرسية[ر: الفلسفة في العصر الوسيط].

بيد أن التأثير الحاسم في الفكر الحديث كان نهضة العالم العارمة التي شهدها القرن السابع عشر، ففيزياء «نيوتن»[ر] Newton ونظريات «كوبرنيكوس»[ر] Copernic و«غاليليه»[ر] Galilee الفلكية، أحدثت تغيراً جذرياً في التصور السائد عن الأهمية الكونية للإنسان التي خصها به اللاهوت المسيحي، ورفض ما يدعى «بالفرضية» المتصلة بالعالم في التفسيرات العلمية الحديثة، وتقليص دور التدخل الإلهي وجزئيات العالم، فما إن يخلق الله العالم - بحسب نيوتن - حتى تسير أشياؤه بذاتها تبعاً لقانون الجاذبية دون تدخل إلهي مستمر في كل حركة، إضافة إلى أن انتصارات العلم أحيت الكبرياء الإنساني والرضا بالذات، بعد أن كان مستحوذاً عليه مفهوم الإثم والشقاء الأزلي.

احتضنت الفلسفة الحديثة هذه الروح الجديدة، وركّز فلاسفتها اهتمامهم حول «مشكلة المعرفة»، فالنظر العقلي الذي تحرر من السلطة الدينية سرعان ما تحول باهتمامه حول «الذات» بوصفها مصدر كل معرفة. فجاء فلاسفة مثل بيكون[ر] Bacon وديكـارت[ر] Descartes ووضعا حقائق الدين خـارج إطـار التفكير النظري - العقلي، وعملا على تأسيس الفلسفة الحديثة على العقل وحده، فحاول كل منهما الاهتداء إلى أداة عقلية جديدة في البحث، فدعا «بيكون» إلى «أورغانون جديد» منطقه الاستقراء، سلّط فيه الضوء على عقم المنطق الصوري الأرسطي المتمثل بالقياس، واستبدل بفلسفة أرسطو[ر] Aristotle فلسفة أخرى استقرائية، تقوم على المنهج التجريبي الذي يقوم على الملاحظة والاختبار، تغدو الأداة الصحيحة لتقدم المعرفة بالطبيعة، ولذا فهو يطالب بضرورة التخلي عن الميتافيزيقا بدعوى أن الفلسفة الحقة هي التي تسعى إلى «إيضاح لغة الكون وتفسير كلمات الطبيعة».

أما ديكارت فقد بقيت الفلسفة عنده علماً بالمبادئ الأولى غايتها تحصيل علم بموضوعاتٍ شتى، وهذا يتطلب الكشف عن مبدأ أسمى يمكن أن تستنبط منه بالعقل وحده كل حقيقة من حقائق المعرفة، فرسم صورة للفلسفة العقلية الحديثة أناط فيها بالعقل الوظائف النظرية المتعمقة بالمعرفة والأهداف العملية الرامية إلى توفير أسباب السعادة للإنسان. فتغيرت النظرة إلى العقل على يده، فبعد أن كان العقل يدرك الوجود، غدا مكتفياً بذاته لا يخضع إلا لسلطانه، فهو الحكم الفصل والقانون الأوحد لا يؤمن بشيء أنه حق ما لم يعقله ويدرك ببداهة الفكر أنه كذلك. والعقل يتصور الأشياء على مثال أفكاره فينتقل من الفكر إلى الوجود، وبه وحده تقوم مبادئ المعرفة الصحيحة، فأثبت ديكارت بفكره وجود «الأنا» وانطلق منها نحو إثبات حقائق وجود الله والعالم الخارجي، فأعلى من شأن «الأنا أفكر» وركّز على تجربة العقل الفردية دون سواها، وجعل من اكتشاف الفكر لقيمته الذاتية الأصل في كل بحث فلسفي، فاحتفظت الفلسفة الحديثة على يديه بطابع فردي - ذاتي وادّعت لنفسها معرفة الحقائق المحسوس منها وما وراء المحسوس.

وبمقابل التشديد على العقل وسلطانه في المعرفة تابع فلاسفة التجربة الإنكليز في القرن الثامن عشر ما أرساه بيكون من نظرة جديدة للفلسفة ومهامها، من اسـتبعاد للميتافيزيقا والتركيز على الإبستيمولوجيا[ر]، إلا أنهم حاولوا فصل الفلسفة عن سائر العلوم وإقامة بنيان فلسفي قائم بذاته، ركزّوا فيه على «تحليل العقل البشري» وتفسير طرقه في كسب المعرفة، وذلك بإدخال المنهج التجريبي الاستقرائي عليه، فانصرف الفلاسفة عن دراسة أصل الأشياء إلى دراسة أصل الأفكار، فأصبحت الفلسفة علماً يدرس الأفكار ونشأتها وطريقة تكوينها وكيفية ترابطها، فـ«جون لوك»[ر] Locke يُرجع نشوء الأفكار إلى التجربة وحدها، المعين الوحيد لتكوّن المعاني والصور الذهنية، ويجعل من العقل مجرد متلقٍ سلبي لتلك المعاني، فليس منه شيء سابق على التجربة وإنما «صفحة بيضاء تخط عليه التجربة ما تشاء من سطور». وفسر «هيوم»[ر] Hume الأعمال العقلية للفكر وترابط الأفكار بتداعي المعاني تداعياً آلياً ميكانيكياً، ولم تعد الحقيقة مطابقة الفكر للواقع بقدر ما أصبحت «إدراك اتفاق الفكر مع ذاته» فغدا الفكر عند التجريبيين أسير يقينه الذاتي، ولم يتعداه إلى يقين موضوعي في وجود عالم مستقل، وكانت النتيجة القول «باللاأدرية» في معرفة العالم، فجون لوك يقول: «إننا لا نعرف سوى أفكارنا ولا نعرف أبداً الواقع الخارجي»، وبركلي[ر] Berkeley قَصَرَ الوجودَ الحقيقي على الوجود المدرِك وحسب، وشكك هيوم في إمكانية أن تقود المعارف إلى إثبات وجود خارجي مستقل، فعززت التجريبية[ر] النزعة الذاتية الفردية، وأصبحت الفلسفة على يد مفكريها أكثر شكية وأقل يقينية، مما دفع كانت[ر] (كانط) Kant إلى تصحيح مسار الفلسفة الحديثة، كما عرفها العقليون والتجريبيون معاً، فحمل بفلسفته النقدية على الميتافيزيقا التقليدية عند ديكارت وأتباعه، ورفض المذهب التجريبي الإنكليزي، وعدّ أن المحاولات التي تبذل من أجل استخدام العقل استخداماً نظرياً في دائرة الميتافيزيقا إن هي إلا محاولات عقيمة، فذهب إلى أن العلم بحقائق الأشياء متعذر عن طريق الأفكار والمعاني بما هي كذلك، وأن المعرفة هي اجتماع أمرين اثنين: التجربة والإدراك الحسي (مادة المعرفة) والعقل التصوري بمبادئه وصوره السابقة على التجربة واللازمة لقيامها. ومهمة الفكر الكشف عن الأسس العقلية الأولية في النظر والعمل، فكانت فلسفة كانَت النقدية نزعة عقلانية جديدة، اتخذت من نقد العقل نقطة انطلاق من أجل إبقاء الفكر داخل حدوده المشروعة، وفحص إمكاناته وتبيان شروط قيام المعرفة العلمية الحقة من خلال طرحه لمشكلة «إمكانية المعرفة» فكان النقد الكانتي فاتحة لعهد فلسفي جديد، لم تثره الفلسفة السابقة عليه، اضطلعت فيه الفلسفة بمهمة «إعادة بناء العقل» عبر الفحص النقدي ـ الذاتي لقدرات العقل المعرفية وطبيعة المبادئ التي يستند إليها في هذه المعرفة.

والنظرة الحديثة لم تقتصر على العلم والفلسفة؛ بل طال التجديد الدين والسياسة والاجتماع، ففي الدين ظهرت فلسفات ملحدة لاقت رواجاً لها في فلسفات القرن التاسع عشر، وفلسفات لا تقول بنفس خالدة أو بإله شخصي مفارق للطبيعة، بل إن إدراك وجود الله وماهيته وعنايته - فيما يراه اسبينوزا[ر] Spinoza مثلاً - يتم بإدراك النظام الثابت للطبيعة وقوانينها التي هي عين قوانين الله، وهذا النظام عنده أوضح بيان لقدرة الله مما يتم بمعرفة المعجزات، ورفض كل ما من شأنه أن يناقض النظام السرمدي والضروري للطبيعة، حتى وإن تعارض مع المفاهيم والمعتقدات الدينية، وليس الخلود عنده بقاء النفس بعد فناء الجسم، فالنفس فكرة الجسم، لا توجد إلا بوجوده، وأزلية النفس تكون بالمعرفة الذاتية ـ العقلية للحقائق الأبدية. وإذا كانت المعرفة بالعقل عند اسبينوزا أعلى شأناً من المعرفة بالوحي، فإن الدين الحق هو الدين الذي يوجد في العقل والنفس.

وفي السياسة ظهرت دعوات ليبرالية - حرة تدعو إلى تقليص سلطة الملوك المطلقة، ورفض الموقف اللاهوتي الداعم لها (كما ورد في نظريات الحـق الإلهي)، فانتقد «لوك» مبدأ الوراثة في الحكم، وفسّر أصل الحكومات بعوامل طبيعية - تاريخية، ودعا إلى فصل السلطات المدنية عن الدين، مما يكفل للأفراد حقوقهم بعيداً عن انتماءاتهم الدينية ويحميهم من جور الملوك وتعسفهم، وذهب بعضهم في مسألة الفصل إلى تغليب السلطات الزمنية، فاسبينوزا يريد للدولة السلطة الزمنية أن تشرف على كل شيء على أن تكون مصالحها دائماً هي العليا، فكانت تلك الدعوات والنظرات قاعدة أساسية لتحرير الإنسان الحديث، تقوم على العقل وحده.

سوسان إلياس

الموضوعات ذات الصلة:

التجريبية ـ العقلانية ـ لوك ـ هيوم.

مراجع للاستزادة:

ـ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة (دار القلم، بيروت).

ـ برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، عالم المعرفة رقم (62) ج1 ـ 2، الكويت 1983.


التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد
المجلد: المجلد الرابع عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 664
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1051
الكل : 58492112
اليوم : 64626

دينِسِن (إسحاق-)

دينِسِن (إسحاق -) (1885-1962)   إسحاق دينِسِن Isak Dinesen هو أحد الأسماء المستعارة للكاتبة الدنماركية كارين كريستنْسِه دينسن Karen Christence Dinesen  المولودة في بلدة رُنْغْستِد Rungsted، وحملت اسم كارين فون بلِكْسِن - فينِكِه Karen Von Blixen- Finecke بعد زواجها من قريبها البارون السويدي برور بلِكْسِن - فينِكِه، الذي ذهبت برفقته إلى كينيا في إفريقيا للاستقرار وإنشاء مزرعة لإنتاج البن هناك. وعلى الرغم من طلاقهما عام 1921، بقيت مستمرة في العمل في مزرعتها لمدة عشر سنوات أخرى، عادت بعدها إلى الدنمارك لتمضي بقية حياتها ولتتوفى في مسقط رأسها.
المزيد »