logo

logo

logo

logo

logo

العيارون

عيارون

-

العيـَّارون

 

تُعَدُّ أخبار العيَّارين من الحكايات الشَّائعة في الأدب العربي، والعيَّارُ لغةً: الَّذي يُكْثِرُ التجوال والطواف ويتردَّدُ من غير عمل، والعيَّارون فئةٌ من الفقراء المُعْدَمِين الَّذين خرجوا عن قوانين المجتمع لِمَا أصابَهم من الظُّلم والعطل عن العمل، طحنَهُمُ الفقرُ فأغاروا على الأغنياء وسلبوهم أموالَهُم، وقد يدفعون ما يسلبونه إلى غيرهم من ذوي العجز والفاقة، وتعدُّ في العيَّارين فئـات أخرى لاتختلف عنهم كثيراً من حيث السُّلوك، كالشُّطَّار وهم اللصوص الذين يحتالون بدهائهم، والزُّعَّار، جَمْعُ أَزْعَر، وهو الذي يتردَّد من غير عمل ويُخلي النَّفس وهواها فلا يستقرُّ به مكان، والزَّعارةُ شراسةُ الخُلُقِ، وقيل الأزعرُ: اللِّصُّ الخاطفُ الماردُ، ومنهم الحَرافيشُ، جَمْعُ حِرْفِش، والعامَّة تقول: حرفوش، وهو ذميم الخَلْق والخُلُقِ، والمقاتل المصارع، واللِّصُّ الذي يجمع ذلك.

وهؤلاء من الصَّعاليك وأصحاب المهن المحقَّرة ضاقوا ذرعاً بغياب القانون فخرجوا عنه، وضاقوا ذرعاً بالفقر والبطالة فانصرفوا إلى السَّلب والنَّهب والضَّرب والاشْـتِجارِ، يهيمون على وجوههم لا يثنيهم شيءٌ، ويزعمون أنَّ البطولة خارجَ القانون.          

حَظِيَتْ هذه الفئاتُ بإعجاب بعض المغلوبين المستضعفين في المجتمع، وهذا ما تدل عليه كثير من الروايات الأدبيَّة التاريخيَّة، من ذلك ما رواه الأبشيهي صاحب «المُسْتَطْرَف من كلِّ فنٍّ مُسْتَظْرَف» من أنَّ «عمر بن عُبيد (ت144هـ) مرَّ بجماعةٍ وقوفٍ، فقال: ما هذا؟ قيل: السُّلطانُ يقطعُ سارقاً، فقال: لا إله إلا الله، سارقُ العَلانِيَةِ يقطعُ سارقَ السِّرِّ!».ويُلاحَظُ احتفاءُ كتب التُّراث العربيِّ بأخبارهم، إذ روى المصنِّفون حكاياتِهم الَّتي تـنم على طرافة طرائق حِيَلِهِمْ وأسـاليب دهائهم، واحتفظَتْ كتبُ التَّراجم والطَّبقـات والسِّيَرِ والتَّاريخ والشِّعر بقدرٍ كبيرٍ من تلك الأخبار.

وتجلَّت ظاهرةُ العيارة في خِضَمِّ الاضطرابين السِّياسيِّ والاقتصاديِّ في مراحلَ من العصر العبَّاسيِّ والعصرين العثمانيِّ والمملوكيِّ، وترجع ظاهرةُ الصَّعلكة تراثيّاً إلى العصر الجاهلي، وأشهر أعلامها عُرْوَةُ بن الوَرْدِ. قال أبو الفرجِ الأصفهانيِّ: «كان يُلَقَّبُ عُرْوَةَ الصَّعاليك لِجَمْعِهِ إيَّاهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم، ولم يكن لهم معاشٌ ولا مغزى» فهو أبو الصَّعاليك في الجاهليَّة. ولا تخفى الأسبابُ الاجتماعيَّةُ التي دفعت الصَّعاليك إلى الخروج عن أمرِ قبائلِهم. 

والطَّريف في الأمر أنَّه كانت للعيَّارين في التَّاريخ العربي مواقفُ سياسيَّةٌ واضحةٌ، منها أنَّهم رفضوا انقلابَ المأمون بن هارون الرَّشيد على أخيه الأمين، واستلابه السُّلطة من أخيه، وقيل: بلغ عددُ العيَّارين في انتفاضتهم رفضاً لخلافة المأمون نحو مئة ألف عيَّار، وهذا العدد الذي قد يكون مبالَغاً فيه ليس مهمّاً بقدر ما يكشف عن أَثَرِ الظُّروف السِّياسيَّة والاقتصاديَّة في المرجعيَّة السُّلوكيَّة للعيَّارين، وذكرَ ابنُ الأثير ما فعله العيَّارون والشُّطَّار بمَنْ سمَّاهم أهل الصَّلاح حين قال: «ووثب الشُّطَّار على أهل الصَّلاح» وقصد بأهل الصَّلاح: الأثرياءَ من كبار التُّجار والقوَّاد، وإنَّما وثبَ العيَّارون والشُّطَّار عليهم في قصورهم لتخاذلهم عن نصرة الأمين في حرب استمرَّت أربعةَ عشرَ شهراً كانت من منظور العيَّارين والشُّطَّار حرباً بين العَجَم والعرب، وفي سيرة «دليلة والزَّيبق» المشهورة تقود دليلةُ أربعةً وعشرين ألف عيَّار، ممَّا يشير إلى أنَّ بعض الذين توسَّـلوا بالتَّلصُّص والتَّشطُّر والعَيارة والزَّعارة متمرِّدون على واقعِ الظُّلم، غير أنَّ وسـائلَهم لم تكن وجهاً إيجابيّاً من وجوه المعارضة الشَّعبيَّة العربيَّة للأغنياء الذين أَثْرَوا من استغلال أقوات الفقراء، وللحُكَّام المنشغلين عن تدبير شؤون العامَّة.

وتبدو هذه الظَّاهرة ـ من ناحية أخرى ـ مَعيناً للمتأدبين المولعين في سَرْدِ الطَّرائف الأدبيَّة وأخبار العيَّارين والشطَّار، فيذكرون أعلامهم، وثقافتهم التي يستمدونها من زعمائهم، فمن ذلك قول أحدهم، وهو عثمان الخيَّاط يوصي رجاله من العيَّارين والشُّطَّار: «جَسِّــروا صِبيانَكُمْ على المُخارجاتِ، وعلِّموهُمُ الثَّقافةَ، وأَحْضِروهُمُ ضَرْبَ الأمراءِ أصحابَ تصـويرِ الجرائم، لئلا يجزعوا إذا ابْتُلُوا بذلك، وخذوهم بروايةِ الأشعارِ منَ الفُرسان، وحدِّثوهم بمناقِبِ الفِتيان من أهل السُّجون»، وإنَّما سُمِّيَ عثمان الخيَّاط بذلك؛ لأنَّه نَقَبَ على أحذق النَّاس في صناعة التَّلصُّصِ فأخذ ما في بيته، ثم خرجَ وسدَّ النَّقْبَ على أحسن وجهٍ، فكأنَّه خاطَهُ، ومن قوله لأصحابه: «اضمنُوا لي ثلاثاً أضمنْ لكمُ السَّلامةَ: لا تسرقوا الجيران، واتَّقوا الحُرَم، ولا تكونوا أكثر من شريكٍ مُناصفٍ»، ومن شُطَّار بغدادَ المشهورين ابن حَمْدي، عُرِفَ بالفتوَّة والطَّرافة، ذكره القاضي التَّنوخي، ولقَّبه لصَّ بغدادَ الظَّريف، قيل إنَّه لم يفتِّش امرأةً، ولم يسلبْ أحداً من العامَّة، وأعيا الدَّولة، وتعصَّبَتْ له العامَّة، ثم أمَّنَهُ أبو جعفر ابن شيرزاد سنة 332هـ/943م وخلع عليه ليأمنَ شرَّه، وجعله على إمرة الجند، لكنَّه خرج عن أمره. و ثمَّة نسوةٌ من هؤلاء، أشهرهنَّ «دليلة» التي عاصرَتْ اثنين من كبار المتشطِّرين، هما: علي الزَّيبق، وأحمد الدَّنف، وعُرِفَتْ أخبارها عند العامَّة بـ «أخبار دليلة»، ويؤكِّدُ الباحثون أنَّ هذه الشخصيات المذكورة ليست مُخْتَلَقَةً، سمَّاها المسعوديُّ «دالة المُحتالة» وجاء ذكرُها لديه في درج حوادث سنة 282هـ/895م أيَّام الخليفة المُعْتَضِدِ في أثناء حديثه عن بعض أخبار الشطار والعيارين، ويشير ابن الأثير إلى علي الزَّيبق الَّذي تمكَّن من الاستيلاء على السُّلطة في بغداد وجباية أسواقها، قال:« وفيها حدثت فتنة… وانتشر العيَّارون، وتسلَّطوا وجَبَوا الأسـواقَ، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان في مقدِّمتهم الطَّقْطَقيُّ والزَّيبق»، ومنهم أبو القاسم أحمد بن علي التَّميميّ من رجال القرن الرابع الهجري، رُوِيَ عنه قوله: «أنا الموج الكَدِرُ، أنا القفلُ العَسِرُ، أنا النَّار، أنا العيَّار، أنا الرَّحى إذا استدار».    

ولاتعدو هذه الحركات أن تكون من فتوَّة الجُهَّال، وإنْ حاول زعماؤها بناءها على أساس أخلاقي واهٍ لا يبرِّرُ قُبْحَ السُّلوك، ويظهر ذلك فيما رواه الجاحظُ من قول أحدهم: «إنَّ هؤلاء التُّجَّار خانوا أماناتِهم، ومنعوا زكاةَ أموالِهم، فصارَتْ أموالُهم مُسْتَهْلَكَةً بها، واللُّصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم ـ وإنْ كرهوا أَخْذَها ـ كان ذلك مُباحاً لهم، لأنَّ عينَ المال مُسْتَهْلَكَةٌ بالزَّكاة، وهؤلاء يستحقُّون أَخْذَ الزكاةِ، بالفقـر، شاءَ أربابُ الأموالِ أم كَرِهُوا».

ويطول شرحُ فنون هؤلاء في السَّرقة والدَّهاء، فمن أخبارهم ما رواه أبو الفتح البِصْريُّ، قال: «اجتمع جماعةٌ من اللُّصوص اجتازَ عليهم َصيْرَفِيٌّ معه كِيْسُه، فقال أحدهم: ما تقولون فيمن يأخذُ كيسَ هذا؟ قالوا: كيف تفعل؟ قال: انظروا، ثم تبعه إلى منزله فدخل الصَّيرفي،ُّ فرمى كيسَهُ على الصَّفَّة، وقال للجارية: أنا حاقنٌ فالحقيني بماء، فدخل اللِّصُّ فأخذَ الكيسَ وجاء إلى أصحابه فحدَّثَهُمْ، فقالوا: ما عملْتَ شيئاً تركْتَهُ يضربُ الجاريةَ ويعذِّبُها وما هذا مليحٌ، قال: فكيف تريدون؟ قالوا: تُخَلِّصُ الجاريةَ من الضَّرب وتأخذ الكيس، قال: نعم، فمضى فطرق الباب، فإذا به يضرب الجارية فقال: مَنْ؟ قال: غلام جارك في الدُّكَّان، فخرج فقال: ما هذا تقول؟ فقال: سيِّدي يسلِّم عليك ويقول لك: قد تغيَّرْتَ ترمي كيسَكَ في الدُّكَّان وتمضي، ولولا أنَّا رأيناه كان قد أُخِذَ وأَخْرَجَ الكيسَ، وقال: أليس هذا هو، قال: بلى والله صدق، ثم أخذَهُ فقال له: بل أَعْطِنِيْهِ وادخل فاكتبْ في رقعةٍ قد تسلَّمْتُ الكيسَ حتى أتخلَّص أنا ويرجع إليك مالُكَ، فناوله إياه، ودخل ليكتبَ، فأخذَهُ ومضى».

علي أبو زيد

 مراجع للاستزادة: 

ـ محمد رجب النجَّار، حكايات الشطار والعيارين (عالم المعرفة، الكويت 1981).

ـ الأبشيهي، المُسْتَطْرَف من كل فنٍّ مُستَظْرَف (المكتبة التجارية، القاهرة، د.ت).

ـ القاضي التَّنوخي، الفرج بعد الشدة (دار صادر، بيروت 1978م).


التصنيف : التاريخ
المجلد: المجلد الثالث عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 634
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1037
الكل : 58491943
اليوم : 64457

الاتحادية

الاتحادية   الاتحادية أو الفدرالية Fédéralisme نظرية ترى أن الاتحاد الحرّ بين أفراد البشر والجماعات والدول هو الشكل المثالي للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن خصائصها الاتجاه نحو إحلال علاقات التنسيق محل علاقات التبعية، أو على الأقل، تضييق نطاق هذه الأخيرة ما يمكن، وإحلال المشاركة محل الإكراه، والإقناع محل الأمر، والقانون محل القوة. والمظهر الأساسي لهذه النظرية هو التعددية، واتجاهها الأساسي التنسيق، والمبدأ الناظم لها هو التضامن. وإذا كان المبدأ الديمقراطي يهدف إلى الغاية نفسها، لأنه يتجه إلى إشراك الأفراد في تكوين القرارات التي تلزمهم، فإن الديمقراطية لاتعنى إلا بمشاركة الأفراد على أنهم أفراد. أما الفكرة الاتحادية فتتجه إلى تغليب مشاركة الجماعات والدول.
المزيد »