logo

logo

logo

logo

logo

العقاب (علم-)

عقاب (علم)

Penology - Pénologie

الِعقَاب (علم ـ)

 

علم العقاب pénologie هو العلم الذي يبحث في أهداف الجزاء الجنائي، سواء أكان عقوبة[ر] أم تدبيراً احترازياً، وذلك بغية الوصول إلى أكثر أساليب التنفيذ ملاءَمة لتحقيق هذه الأهداف.

الأصل في علم العقاب عند نشأته، أنه «العلم الذي يهتم بدراسة تنفيذ عقوبة السجن» ومن هنا جاء اصطلاح science pénitentiaire  ومعناه «علم السجون». فبعد أن ألغت الثورة الفرنسية العقوبات البدنية (عدا عقوبة الإعدام)، وأحلت محلها العقوبات السالبة للحرية، شق علم العقاب طريقه بحثاً عن أفضل الأنظمة ملاءمة لتنفيذ عقوبة السجن تحديداً. إلاّ أن تعدد العقوبات الأخرى واختلاف أنواعها (كالعقوبات المالية، العقوبات المقيدة للحرية والمانعة والمقيدة للحقوق) جعل من مصطلح «pénologie» أكثر مطابقة وملاءَمة، وهو الاصطلاح المطابق حرفياً، لتعبير «علم العقاب».

وإذ يتناول هذا العلم بالدراسة بصفة أساسية تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية[ر]، فإنه لايتقيد في ذلك بالقواعد التي يطبقها تشريع وضعي معين، وإنما يسعى إلى الوصول إلى القواعد التي ينبغي أن تحكم هذا التنفيذ بما يحقق مصلحة المجتمع في مكافحة الإجرام.

ويرتبط علم العقاب بعلم الإجرام[ر] ارتباطاً وثيقاً، فهما يسعيان إلى تحقيق غاية واحدة هي مكافحة الإجرام، وإن اختلفت أساليبهما لبلوغها، غير أن علم العقاب يتميز من علم الإجرام من حيث الموضوع، فحينما يتناول الأول في أبحاثه دراسة العقوبات والتدابير الاحترازية من حيث أغراضها وأفضل السبل لتنفيذها، فإن هذا الأخير يبحث في ظاهرة الجريمة[ر] للوقوف على  أسبابها وطرق مكافحتها.

التطور التاريخي لعلم العقاب

كان النظام العقابي في العصور الوسطى يعتمد على العقوبات البدنية. ولم تظهر عقوبة السجن جزاء مقرراً لمعظم الجرائم إلاّ مع قيام الثورة الفرنسية، فلم تنل السجون في تلك العصور أي اهتمام أو رعاية، فكانت مجرد أماكن يحجز فيها المتهمون لمحاكمتهم وتنفيذ الأحكام التي تصدر بحقهم؛ لذا لم يُراعى في هذه الأماكن توافر أي شروط صحية أو إنسانية، ومن ثّم لم يكن هناك مجال لظهور علم العقاب.

غير أن الحالة التي آلت إليها السجون فيما بعد كانت باعثاً على الاهتمام بها. وقد بدأت الكنيسة في القرن الثالث عشر أول حركة إصلاحية في نظام السجون وأمكنتها، فأنشأت سجوناً كنسية، عدّتها أماكن للتوبة، وطبقت فيها نظام التعليم والتهذيب ومعاملة عقابية بعيدة عن القسوة.

وحينما بدأت العناية توجه إلى طائفة المسجونين، تنبّهت الأذهان إلى ضرورة انتهاز فرصة وجودهم في السجن، للعمل على توجيههم التوجيه السليم وإعدادهم الإعداد المهني الملائم الذي يكفل لهم مصدر رزق شريف بعد الإفراج عنهم.

من أوائل من نادوا بهذه المفاهيم الفرنسي جان مابيون Jean Mabillon ت(1632-1707) الذي أصدر في عام 1690 مؤلفاً بعنوان: «تأملات في السجون الرهبانية» ضمنّه أفكاره عن السجن الانفرادي ودوره في تقويم المحكوم عليه، وضرورة الملاءَمة بين أنظمة التنفيذ العقابي والإمكاناات العقلية والبدنية للمحكوم عليه.  ويُعدّ هذا الكتاب في نظر الكثير منم النواة الأولى لعلم العقاب.

ويُعدّ الإنكليزي جون هوارد John Howard ت(1726- 1790) من الرواد الأوائل، ويأتي على رأس علماء العقاب الذين قادوا حركة إصلاح السجون والنظام العقابي. وقد اشتهر بكتابه «حالة السجون في إنكلترا وويلز» الذي ضمنّه آراءه وأفكاره حول عيوب السجن الانفرادي، ووجوب الاهتمام بالرعاية الصحية والتهذيب الديني للمسجونين. كما أوضح أهمية التدريب على العمل، وقال في ذلك عبارته الشهيرة: «دع المسجونين يعملون وسوف يصبحون شرفاء».

وأسهم الفيلسوف الإنكليزي جريمي بنتام[ر] Jeremy Bentham ت(1748- 1832) في نمو الوعي والاهتمام بالسجون عندما وضع مشروعاً لسجن مثالي من الناحية الهندسية، ونادى بأهمية الرعاية اللاحقة للمحكوم عليه بعد انقضاء فترة عقوبته.

ثم جاء الفرنسي شارل لوكاسCharles Lucas  ت(1803- 1889) الذي اهتم مبكراً بالمشكلات المتعلقة بالنظام العقابي. وقد نشر عام 1828 مؤلفاً بعنوان: «النظام العقابي في أوربة والولايات المتحدة» الذي يعد أول عمل متكامل ينطوي على دراسة علمية عن المشكلات العقابية، وأسّس عام 1877 «الجمعية العامة للسجون» التي أصدرت مجلتها باسم «مجلة السجون والقانون الجزائي» Revue pénitentiaire et de droit pénal  وهي مصدر مهم لعلم العقاب. (وما زالت هذه المجلة تصدر حتى هذا اليوم).

وبفضل جهود هؤلاء الرواد وأفكارهم حول المشكلات العقابية، استمر الاهتمام بالسجون ورعاية المسجونين والقضايا العقابية. ومع تقدم دراسات علم الإجرام وأبحاثه حول العوامل التي تؤدي إلى الجريمة، بدأ علم العقاب في النمو والازدهار، فمتى عُرفت الدوافع للجريمة وأسبابها والعوامل المؤدية إليها، أمكن مواجهتها والقضاء عليها.

أهم مدارس علم العقاب

تعد المدرسة الوضعية الإيطالية وحركة الدفاع الاجتماعي الحديث من أهم المدارس العقابية وأكثرها تأثيراً في تطور مفاهيم علم العقاب.

1ـ المدرسة الوضعية الإيطالية: تعد هذه المدرسة بحق أعظم مدرسة عرفها تاريخ علوم الجريمة، ولها بصماتها الواضحة في تطور القانون الجزائي، وقدمت إلى علم العقاب نظرية عقابية متكاملة؛ فقد رأت وجوب تنظيم العقاب بحسب شخصية المجرم لا تبعاً لطبيعة الجريمة المرتكبة، وأعطت مفهوماً آخر للعقوبة؛ إذ رفضت اعتبار الذنب أساساً في تنظيم الجزاء وقدمت بدلاً منه فكرة «الخطورة الإجرامية»؛ فالذي يعطي الدولة الحق في فرض العقوبة على المذنب ليس الذنب المرتكب وإنما الخطورة الإجرامية، بغية إيقافها، وحماية المجتمع منها. وعليه فقد رفضت هذه المدرسة أكثر المفاهيم العقابية السائدة في عصرها، ونادت بمفاهيم جديدة معارضة لها تماماً؛ فقد وجّهت المدرسة الوضعية الإيطالية اهتمامها كله إلى شخصية المجرم فجعلتها محور نظريتها، فالجريمة تمثل الماضي، أما المجرم فيمثل المستقبل. ورأت أنه يجب تنوع أنظمة تنفيذ العقوبة لتلائم شخصية كل مجرم، وتعد بذلك أول من نادى بمبدأ تفريد العقوبة. ورفضت المدرسة الإيطالية من جهة أخرى نظام العقوبة كرد فعل معادل للجريمة، وقدمت بديلاً منها «التدابير الاحترازية» و«التدابير الإصلاحية»[ر]، كرد فعل مناسب لحالة المجرم.

2ـ حركة الدفاع الاجتماعي الحديث: الدفاع الاجتماعي الحديث حركة إنسانية أخلاقية عالمية، ترمي إلى ملاءَمة القانون الجزائي مع وسائل العلم الحديثة، وتطوير العقوبة وتوجيهها نحو تنشئة الجانح وتأهيله اجتماعياً. وقد حملت هذه الحركة من خلال مؤسسها القاضي الفرنسي مارك أنسل Marc Ancel الطابع الإنساني للعقوبة وذلك من خلال، الصراع ضد الجريمة بوسائل علمية. وأول أوجه هذا الصراع، هو تكييف الجانح أدبياً واجتماعياً، مستعيناً على ذلك بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وذلك بمعاملته معاملة ملائمة، تضمن احترام كرامته الإنسانية وتحمل له المعونة اللازمة. ووفقاً لهذه الحركة، فالهدف الأسمى هو ضمان الدفاع عن المجتمع وإبعاد المجرمين عنه، لكن هذه المدرسة ترى أيضاً أن الحماية الأفضل والأكثر فائدة للمجتمع والأكثر إنسانية تتمثل في تحقيق التأقلم الاجتماعي للجانح عبر كل الوسائل التي يمكن أن يكون لها تأثير في شخصيته مع احترام كرامته ومساعدته لاكتشاف البعد الحقيقي لمسؤوليته الاجتماعية. كذلك تركز المدرسة على حماية المجتمع عن طريق مجموعة من التدابير غير الجزائية  الموجهة إلى سلوك الجانح بغية امتصاص فعاليته الإجرامية، سواء بالإبعاد أو بالعزل أو بتطبيق وسائل علاجية أو تربوية.

مستقبل علم العقاب

بفضل جهود رواد علم العقاب الأوائل والمدارس العقابية أصبح لهذا العلم اليوم مصادره الرسمية الدولية والداخلية. وهو إذ ينطلق من احترام مبدأ الشرعية فإنه يهدف إلى تنفيذ العقوبات المحكوم بها في حق المحكوم عليه من جهة، ومن جهة أخرى يهدف إلى إعادة تأهيله واندماجه في المجتمع. وعليه، فإن مفاهيم هذا العلم عرفت تطوراً مهماً، وإن لم تلق دوماً الدعم اللازم والوسائل الكفيلة بوضعها قيد التنفيذ في الوسط العقابي. مما لاشك فيه اليوم، أنه على الرغم من الإجراءات والتدابير التي يجب اتخاذها مستقبلاً، فإن خطى مهمة قد تمّ تحقيقها في الخمسين سنة الأخيرة، ولاسيما في مجال تنفيذ العقوبة السالبة للحرية في الوسط المفتوح وضمان حقوق الإنسان السجين.

صفاء أوتاني

 

 الموضوعات ذات الصلة:

 

التدابير الاحترازية ـ الجريمة ـ العقوبة.

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ رمسيس بهنام وعلي عبد القادر القهوجي، علم الأجرام والعقاب (منشأة المعارف، الاسكندرية 1986).

ـ محمد زكي أبو عامر وعوض محمد، مبادئ علم الإجرام وعلم العقاب (الـدار الجامعية، بيروت 1991).

- BERNARD BOULOC, Pénologie ; Précis Dalloz ,droit prive (Paris, 1998).

- JEAN LARGUIER, Criminologie et science pénitentiaire, Memento (Dalloz, Paris, 2001).


التصنيف : القانون
المجلد: المجلد الثالث عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 303
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1057
الكل : 58492356
اليوم : 64870

الحميدي (محمد بن فتوح-)

الحميدي (محمد بن فتوح -) (قبل420-488هـ/ 1029-1095م)   أبو عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد الأزدي، محدث ومؤرخ وأديب. ولد في جزيرة ميورقة في الأندلس، وتنقل في الحواضر الإسلامية. فزار مصر والشام والعراق والحجاز، وانتهى به المطاف في بغداد، حيث أقام فيها إلى أن توفي، ودفن إلى جانب قبر بشر الحافي المتصوف الزاهد (ت 227هـ). وأبرز مصنفاته: «الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم»، و«تفسير ما في الصحيحين»، و«الذهب المسبوك في وعظ الملوك»، و«تسهيل السبيل على علم الترسيل»، و«المتشاكه في أسماء الفواكه»، و«نوادر الأطباء»، و«أدب الأصدقاء»، «وذم النميمة»، و«تحفة المشتاق في ذكر صوفية العراق»، إلى جانب مقطوعات شعرية مبثوثة في كتب التراجم والأدب.
المزيد »