logo

logo

logo

logo

logo

الإنطباعية (في الفن)

انطباعيه (في فن)

Impressionism - Impressionnisme

الانطباعية في الفنون التشكيلية

 

الانطباعية في الفنون التشكيلية حركة فنية نشأت وازدهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد مجموعة من الفنانين الثوريين الذين ضاقوا ذرعاً بالقواعد التقليدية والموضوعات الأسطورية والتاريخية وتحكم العقل بتنظيم العالم المرئي لدى تصويره. وكان من أبرز خصائص الانطباعيين انطلاقهم إلى أحضان الطبيعة ليصوروا شواطىء البحار، وضفاف الأنهار، والخمائل والأشجار، ومعالم الحياة في المدن العصرية، ومقاهي الرصيف، وحلبات سباق الخيل، ومسارح التمثيل، ومسارح الباليه. وتنطلق فلسفتهم من أن مهمة الفنان هي التعبير عن رحلة الإدراك في عالم حركة الصور، وقد أكملتها الإحساسات والتأثيرات الانفعالية التي ينطوي عليها مصطلح الانطباع، وتسجيل الانطباعات العابرة التي تخلّفها في نفسه المغايرة بين الضوء والظل في مشهد ما في ساعة من ساعات النهار، أو في حالة من حالات الجو الصافية أو العاصفة.

الانطباعية في فرنسة: نشأت الانطباعية في الفنون التشكيلية في فرنسة وازدهرت فيها، وكان هذا الاتجاه الفني الجديد ثورة عدها فيما بعد جان كاسو Jean Cassou أحد الأحداث المهمة التي قادت الإنسان إلى وعي طبيعته الزمنية وتحديد مكانه في الزمان وتلمّس هذا الواقع. وبالفعل فإن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد تحولات مهمة في مختلف المجالات الاجتماعية والفكرية والعلمية. فقد كانت الحياة في باريس، في تلك الحقبة، قد  تفتحت عن موجة من الشباب الثائر على القيم الثابتة المستقرة في مجالات الواقع الفرنسي، وكانت نزعة التحرر والانطلاق تجيش في نفوس هؤلاء الشباب فتنطلق مدويّة في المقاهي المنتشرة على الضفة اليسرى من نهر السين حيث يجتمع الناشئون من الأدباء والفنانين والشعراء في جدال متنوع المناحي ولّد الكثير من الاتجاهات الأدبية والفنية كالرمزية والانطباعية وغيرهما.

واشتدت الروح الثورية لدى الفنانين الشباب عندما رفضت لجنة التحكيم للمعرض السنوي لعام 1863 عرض لوحاتهم التي بلغت أربعة آلاف لوحة، لكنهم تمكنوا من استصدار مرسوم من نابليون الثالث يقضي بإقامة معرض آخر لهم في المبنى نفسه الذي يقام فيه المعرض الرسمي. وقد أطلق الناس على معرض الشباب هذا اسم «صالون المرفوضين». وتوجهت الصحافة بالتهكم والنقد اللاذع للأعمال الفنية المعروضة علماً أن منها ما يُعدّ اليوم روائع فنية، مثل لوحة «الفتاة الصغيرة» من أعمال وسلر Whistler و«الغداء على العشب» Dejeuner sur l'herbe من أعمال مانيه Manet. واستمر الفنانون الثائرون في لقاءاتهم وقد توثقت الروابط فيما بينهم بتواتر اجتماعاتهم في مراكز التصوير. وتوجوا وحدتهم عندما أقاموا معرض المستقلين عام 1874 في مرسم المصور الضوئي نادار (1820-1910) Nadar وأشهر من اشترك  في هذا المعرض كلود مونيه، وكميل بيسارّو Camille Pissarro، وأوغست رنوار Auguste Renoir، وألفريد سيسلي Alfred Sisley وبول سيزان Paul Cézanne، وإدغار دوغا Edgar Degas، وأرمان غيومان Arman Guillaumin والفنانة بيرت موريسو Berthe Morisot. ولم يستقبل جمهور باريس هذا المعرض بالترحاب: فقد هاجم الصحفيون والنقاد الأعمال الفنية المعروضة، وأطلق الصحفي والناقد الفني لوروا Leroy على العارضين اسم الانطباعيين مستعيراً ذلك من لوحة مونيه «انطباع: شروق الشمس» وذلك في مقالة تنضح بالسخرية اللاذعة.

وفي عام 1876 أقامت جماعة الفنانين معرضها الثاني الذي لم يشترك فيه سيزان لما أصابه من تجريح مقذع. ولقي هذا المعرض بعض المدافعين عنه إلى جانب التهجم الذي حمل طابعاً سياسياً. ثم أقيم المعرض الثالث عام 1877 في فندق دروّو Drouot فقامت مظاهرات لم تخمد إلا بتدخل الشرطة.

هكذا شهدت الانطباعية في بداياتها لحظات صعبة جداً في مواجهتها الذوق المحافظ الغالب آنذاك. وانعكست آثار ذلك على الشقاء الذي عاناه معظم هؤلاء المبدعين الشباب، ولاسيما مونيه وبيسارو وسيسلي، وقد عانى هذا الأخير كثيراً من سوء الحظ، في حياته القصيرة، ولم يشهد الانتصارات التي حققتها الانطباعية ولم ينل قسطه من خيراتها.

وفي المعرض الرابع الذي أقيم عام 1879 كان الإقبال شديداً على أعمال هذه الجماعة، وقد لقي رنوار نجاحاً كبيراً في حين أخفق زميله سيزان. ثم تتابعت المعارض حتى المعرض الثامن والأخير عام 1886 الذي غاب عنه بعضهم مثل رنوار ومونيه وسيسلي واشترك فيه فنانون آخرون مثل سينياك Paul Signac (أحد الانطباعيين الجدد) وسورا Seurat الذي ابتكر التنقيطية Pointillisme أو التقسيمية Divisionnisme.

ومضى ما ينوف على نصف قرن من ظهور الانطباعية، قبل أن تقوم الحكومة في باريس عام 1937 بإدخال أعمال الانطباعيين إلى متحف اللوفر Le Louvre. وقد اتبعت الحركة الانطباعية طريقة جديدة في التصوير مبنية على نمط جديد في الرؤية، إذ كان همها الرئيس تسجيل الانطباع البصري كما تحسه العين مادياً وآنياً، وكانت غير مكترثة بالنظم المتعارف عليها حتى ذلك الوقت. وهي لا ترى في الطبيعة سوى تبدلاتها بحسب الضوء والمناخ والفصل والساعة. ومن الممكن تلخيص مبادئ الانطباعية بالقول إنها قامت على تصوير الطبيعة مباشرة وليس ضمن جدران المُحترف، ولم تقم وزناً للمنظور الهوائي أو المرئي perspective aérienne، بل تأثر الانطباعيون بمفهوم  المنظور الصيني والياباني، وهو منظور يفترض نقطة النفاذ إلى وراء ما يراه الناظر، واهتمت الانطباعية بالبقع اللونية المتميزة لكي تعبر عن نوع من الحركة الداخلية، وأهملت الخط واللون الأسود والرمادي، ولم تحفل بالظلال، بل عبرت عنها بمتممات اللون بحسب الدائرة اللونية.

وهكذا فإن الانطباعية تقوم على رفض القانون الوضعي الذي جاء نتيجة ممارسة الأعمال الفنية التقليدية، لذلك لم يعد الفنان الانطباعي يصور الأشياء استناداً إلى ما لديه من معرفة بها، أو ما اكتسبه من خبرة عنها. فهو مثلاً، لا ينقل ألوان الأرض البنية، بل يصورها كما تتراءى له في اللحظة نفسها التي ينظر إليها، وقد تكون وردية مع ظلال زرقاء أو برتقالية مع ظلال بنفسجية. والفنان الانطباعي يصور ما يراه بسرعة كي يتمكن من تسجيل معالم الطبيعة الأكثر دقة وشفافية والأسرع زوالاً. لذلك وجهت الانطباعية جلّ اهتمامها نحو كل ما هو منعكس و متبدل وذو شفافية في الطبيعة، ولعل العنصر الأساس في كل ذلك هو ضوء الشمس. وهنا لجأ الانطباعيون إلى النظريات العلمية التي وضعها الفيزيائيون المعاصرون وهي النظريات التي اهتمت بتفكيك الضوء بوساطة الموشور والدائرة اللونية. وبفضل هذه الدراسات العلمية تبين للانطباعيين أن جزءاً أساسياً من الانطباع اللوني ينتج من الأحوال المناخية وأن اللونيات تتحدد قيمتها بالضوء الذي تتلقاه، أي إن هذه القيم اللونية ليست ثابتة كما كان يراها الاتباعيون classicistes، كالشجرة الخضراء والسماء الزرقاء والجسد الوردي الشاحب، بل إنها تتبدل مع تبدل الضوء كالتفاحة التي تتجدد ألوانها بحسب كثافة الموجات الضوئية التي تتلقاها. ويعني ذلك أن الألوان ليست من خواص الأشياء ولا وجود للون خاص، بل إن كل لون مرئي يستدعي اللون المتمم له. لذلك استبعد الانطباعيون اللون الأبيض الصافي، والألوان القاتمة، وكذلك اللون الأسود الذي لا وجود له في الطبيعة، واستخدموا فقط ألوان الطيف الشمسي السبعة أي ألوان قوس قزح. فكل شيء في الطبيعة يصطبغ بلونية متلألئة في ذلك الظلال التي يمكن أن تكون زرقاء أو بنفسجية. فاللون الذي استخدم في البداية في تحديد ظواهر الأشياء، يتحول من لون وصفي إلى لون مستقل، إلى لون خام ذي قيمة ذاتية مع فان غوغ Van Gogh، وغوغان Gauguin مثلاً وتصبح مكوناته الساكنة دينامية متبدلة دوماً توحي، بسبب تداخل الموجات اللونية في الطبيعة، بهذا الطابع التموجي للإشعاع الشمسي، وهكذا فإن كل شيء في نشاط لوني دائم. ولكي يلتقط انعكاسات الضوء وتموجاته ويسجلها، لجأ سورا ورفاقه في الانطباعية الجديدة neo impressionnisme، إلى تقسيم الضربات اللونية من ريشة الفنان أو تجزئتها  لتتجاور بحسب تآلفها، وبذلك يتم مزج الألوان بصرياً على اللوحة لا على المِلْوَن palette. فالألوان تتفاعل فيما بينها حتى في أصغر الأجزاء مساحة كما أنها تتفاعل بحسب الوقت الذي يمر تبعاً لتبدل الطبيعة الدائم.

 

 

فالانطباعية هي إذاً تسجيل للحظة عابرة، لحاضر عابر، وهي، بمعنى آخر، تمثيل للإحساس الذي يدركه الفنان في الهواء الطلق، والفن في نظر الانطباعيين ليس حالة ذهنية، بل هو في العفوية والإحساسات المباشرة التي ينقلها الفنان إلى اللوحة بأمانة، كما يراها ويدركها، معبراً عن الانتقال السريع من الإدراك إلى الحركة التصويرية. ولهذا، لجأ مونيه ورفاقه إلى تصوير المنظر نفسه في عدة لوحات، ولكن في أوقات متفاوتة من النهار، كي يظهر التحول الذي يطرأ على المنظر من الفجر إلى الغروب. وكان من نتائج ذلك أن استعيض عن المنظور التقليدي المبني على الأسس الهندسية الخطية بتدرج لوني يوحي بالعمق أو المدى الفضائي.

هكذا عمد الانطباعيون، في عملهم التصويري، إلى تجاوز التحليل الدقيق لما يُرى. لقد انطلقوا من المدرسة الواقعية وعنايتها بالموضوع وتحليله العلمي كما هو في الطبيعة، ولكنهم تخطوا ذلك للتعبير في فنهم عن النظرة الذاتية لذلك الموضوع. والانطباعية لم تظهر، على نحو عفوي، أو بعيداً عن أي تأثير أو تطور بل هي، فضلاً عن تأثرها بالاكتشافات العلمية والتطور الفكري  والاجتماعي للقرن التاسع عشر، تؤلف حلقة طبيعية في تاريخ فن التصوير، وهي بالتالي نتيجة مباشرة للتطور الفني الذي مهدت له أعمال عدد كبير من الفنانين.

ففي فرنسة يمكن إرجاع جذور الانطباعية إلى أوجين دولاكروا Delacroix وهو ما يعترف به سينياك في دراسته: «من أوجين دو لاكروا إلى الانطباعية الجديدة» الصادرة في «المجلة البيضاء» سنة 1899. وفعلاً كان دولاكروا قد عمد إلى تجزئة الضربات اللونية، تماماً كما فعل الانطباعيون بعد ذلك، ووجد في الطبيعة أن «الانعكاس أساس في كل شيء».

وهناك فنانان آخران حملت أعمالهما هذا الانطباع بالهواء الطلق مع أنها أُنجزت جزئياً، أو كلياً أحيانا، داخل المحترف وهما كورو Corot الذي اهتم بمعالم المناخ، وكوربيه G.Courbet الذي اهتم بالنور الطبيعي وانعكاساته وهو الذي كان يقول لطلابه: «اعمل ما ترى وما شئت وما تحس به».

وظهر فنانون آخرون كان لهم بعض التأثير في الانطباعية مثل ميّيه Millet ودوبيني Doubigny والهولندي جون كنغ Jon King ذو الأعمال الفنية اليابانية الطابع. وفي الحقبة نفسها ظهر في إنكلترة فنانان كان لهما تأثير كبير في التطورات اللاحقة التي أدت إلى ترسيخ الانطباعية وهما كونستابل Constable وتورنر Turner اللذان أظهرا اهتمامات مشابهة لاهتمامات مونيه وأصدقائه.

بيد أن أحداً من هؤلاء لم يعمد إلى تفكيك عناصر الضوء أو تحديد القيم اللونية المتممة المضاءة في الظلال، أو استخدام تقنيات جديدة. وفي هذا المجال لابد من الإشارة إلى التأثير الذي مارسته فنون الشرق الأقصى في الانطباعية، وكذلك بعض فناني نهاية القرن التاسع عشر في الغرب. فكانت أعمال الفنانين اليابانيين مثل أوتامارو Outamaro وهوكساي Hokusai وهيروشيغ Hiroshige، من أتباع مدرسة أوكيو - إي Ukiyo-e، نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، أحد مصادر الإلهام لعدد من الفنانين الانطباعيين ولفنانين آخرين مثل فان غوغ وغوغان وسيزان من الذين أعجبوا بالطريقة اليابانية وكانت تعدّ الأولى بين الفنون الأجنبية التي غذّت مخيلة الفنان الغربي. فهي تتفق مع الإحساس بالصيرورة الكونية، إذ تصور «العالم المتبدل» و«العالم العائم» عالم النساء والمسرح. فالفنان لا يتخطى الصورة المماثلة للواقع فحسب بل إنه يرى ما هو أبعد من هذا الواقع الذي يحيط به ويستنبط مفرداته وعوالمه الخاصة.

ولم يقتصر أثر الانطباعية على فن التصوير وحده بل تعداه إلى النحت الذي انتقل كما انتقل التصوير من الأسلوب الإبداعي إلى الأسلوب الانطباعي على يد أشهر المصورين والنحاتين الانطباعيين مثل رنوار وغوغان ودوغا Degas الذين مارسوا النحت إلى جانب التصوير، ويُعد الكثير من أعمال أوغست رودان Auguste Rodin دليلاً على مبادئ الانطباعية في فن النحت. وقد لا يمكن إطلاق تسمية الانطباعية بكل أبعادها على النحت الذي أنتجه هؤلاء بسبب من أساسها الذي تنطلق منه وهو اللون وتفاعله مع النور، ولكن من الممكن، مع ذلك، الحديث عنهم لدى الحديث عن الانطباعية والوقوف عندهم حين يسمى هذا الاتجاه مذهب الهواء الطلق pleinairisme. فلقد خرج هؤلاء النحاتون إلى الطبيعة لكي يبحثوا عن انعكاسات الضوء على السطوح ودفعهم هذا الانعكاس إلى ترك السطوح خاماً بعد أن كانت مصقولة باصطناع ملحوظ عند الاتباعيين والأكاديميين، كما زالت لديهم الحدود الصارمة الدقيقة الشكل وحلت محلها حدود رجراجة وفق ما يقتضيه انكسار النور على الشكل.

الانطباعية خارج فرنسة: لقد فتحت الانطباعية في التصوير الطريق إلى واقعية جديدة خارج فرنسة تقوم على إهمال الخط والاهتمام باللون المضيء. وبدأ ذلك في إنكلترة عند سيكرت W.R.Sikert وفي ألمانية عند ليبرمان M.Liebermann وفي إيطالية عند بولديني G.Boldini وسباديني A.Spadini وفي النرويج عند فيرنسكيولد E.Wernskiold، وتاولوف F.Thaulow وفي روسية عند ماليافين A.Maliavine وغرابار E.Grabar، وفي هولندة عند برايتنر G.H.Breitner، وفي إسبانية عند موريه A.Moret ورغويوس D.Regoyos. ويعد الفنان الأمريكي ويسلر والسويدي هِل G.H.Hill من كبار المصورين الانطباعيين خارج فرنسة، وقد عاصرا مبدعيها حتى إن هِل دُعي من قبل الانطباعيين الفرنسيين إلى الاشتراك في معرضهم عام 1877، وأعماله تشبه إلى حد ما أعمال سيسلي.

الانطباعية الجديدة: لم تكن الانطباعية في التصوير بادئ الأمر مدرسة حقيقية ذات منهج واضح. وقد أدى ذلك إلى اختلاف في الرأي وتباين في الأسلوب الفني بين الفنانين الانطباعيين. فانبثقت عن هذه الحركة اتجاهات غنية متباينة تمثلت بعدد من الفنانين الانطباعيين ذوي التيار الفني الجديد. وقد تأسس سنة 1884 «صالون المستقلين» الذي ضم في تظاهرته الأولى كلاً من ريدون Redon وأنغران Angrand، وسورا، وسينياك. وعُدَّ هذا الحدث خطوة جديدة نحو تحرر الابتكار الفني ونحو القطيعة الكلية بين الفن والذوق الغالبين وتسلط الفن الرسمي. وقد تناول سورا وزملاؤه الذين يعدّون ممثلي الحركة الانطباعية الجديدة، دراسات الفيزيائيين عن الضوء من جديد، قاصدين إيجاد انطباعية علمية جديدة لا تكتفي بالحدس. وهذا هو ما عبر عنه سورا في دراسة عنوانها «منهجي» Ma méthode وسينياك في كتابه «من أوجين دولاكروا إلى الانطباعية الجديدة". إذ جدّدوا أبعاد هذا التيار الجديد المتمسك بتطبيق القواعد العلمية والعودة إلى قوانين الطبيعة مع النشاط العقلي. وأصبح التحليل والتحرّي يهيمنان على التصوير بهدف تحويل الكون المرئي إلى لطخات صغيرة من البقع اللونية المتجاورة.

إنه تحول باتجاه العقلانية لكن بتقنية تعتمد على التطبيق المنهجي للاكتشافات العلمية لعناصر الضوء. أي إن الانطباعية الجديدة تصل إلى «اللونية - الضوئية» chromo-luminarisme وقانون التضاد المتزامن بتثبيت الضربات اللونية أو تجزئتها وفق منهج علمي واضح، أي إن مزج الألوان لا يتم على المِلْوَن بل يحصل بصرياً (في عين المشاهد)، بفضل تجاور هذه البقع أو النقاط اللونية على اللوحة. لذلك أطلقت عبارتا «التقسيمية» و«التنقيطية» على هذه الحركة الفنية الجديدة التي حولت الانطباعية إلى قانون ونظام.

ويعد فينيون Fénéon أول من استعمل مصطلح «الانطباعيون الجدد» في مقال نشرته له مجلة «الفن المعاصر في بروكسل» Art moderne de Bruxelles واستعاد الكلمة أرسين ألكسندر Arsène Alexandre في جريدة «الحدث» L'Evénement. ومن أشهر لوحات الانطباعيين الجديدة مجموعة من الرسوم المائية من أعمال سورا «يوم أحد في الصيف في الجات الكبير؟» Un Dimanche d'eté à la Grande Jatte، وقد أثارت هذه اللوحة الشهيرة  ضجة كبيرة في حينها، إذ تتوضح فيها أهداف الانطباعية الجديدة كإعادة البناء وإعطاء الأشياء أحجامها وأشكالها.

الانطباعية في سورية وبعض البلاد العربية الأخرى: ازدهرت الانطباعية في البلاد العربية في أوائل القرن العشرين وقدمت اللون المحلي والمفاهيم الجمالية الخاصة المرتبطة بالأرض والبيئة. وأعطت اللون المقام الأول في شكل التعبير الفني. ويعد ميشيل كرشة[ر] (1900ـ 1971) رائد الانطباعية الأول في سورية. ومنذ بداياته الأولى ظل مخلصاً لروح الانطباعية ومفاهيمها في كل ما رسم. وقد عبر عن ذلك بقوله: «إني أفضل الانطباعية التي هي أقرب إلى ذوق شعبنا ورهافة حسه». وحقق قمة تعبيره الفني الانطباعي في لوحته «صيدنايا»، وظهر في سورية عدد من الفنانين الذين أضيفت أعمالهم إلى أعمال كرشة. ولكن الانطباعية في سورية وصلت إلى ذروة خاصة في أعمال الفنان نصير شورى[ر] (1920ـ 1992) الذي كان له دور مهم في تأكيد التيار الانطباعي ضمن الحركة الفنية في سورية.

وفي مصر يُعدّ الفنان يوسف كامل[ر] (1891ـ 1962) من أوائل الرواد الذين قاموا بتعريف الانطباعية بصفتها جمالية وافدة كان لها الأثر في الحوار المشروع بين جماليات التراث والجماليات الوافدة. وقد تأثر  كامل بالانطباعيين الفرنسيين، وحين عودته إلى القاهرة أصبح من مشاهير الانطباعيين والرائد الذي ظل مخلصاً وفياً وعاشقاً لهذا المذهب إلى آخر إنجازاته، فاتحاً الباب على مصراعيه لاتجاهات حديثة بدأت وتطورت على يديه. ومن بين الفنانين المصريين الذين تأثروا بالانطباعية الفرنسية محمود سعيد (1897ـ 1966) ومحمد ناجي (1888ـ 1956) الذي أقام في فرنسة وعمل مع الفنان الفرنسي مونيه وتأثر بفنه. وأحمد صبري (1889ـ 1955) وراغب عياد (1892ـ 1982).

وفي لبنان ظهر عدد من الانطباعيين بينهم على سبيل المثال لا على الحصر قيصر الجميل[ر] (1898ـ  1958) الذي كان شديد الإعجاب بالانطباعية ولاسيما أعمال الفنان الفرنسي رنوار. ومصطفى  فروخ[ر] (1901ـ 1957) الذي تأثر كثيراً بالانطباعي الفرنسي بول سيزان.

ومن بين الانطباعيين العرب كذلك عطا صبري (1913ـ ؟ ) في العراق، ويحيى التركي (1901ـ  1968) في تونس، ونصر الدين دينه (1861ـ 1940) في الجزائر، وحسن جلاوي (1924ـ ؟ ) في المغرب.

وواقع الحال أن الانطباعية انتشرت في البلاد العربية، وتجلت في أعمال ذات مستوى فني متميز، ومن بين الفنانين الشباب عدد غير قليل يأخذون بهذا المنحى في أعمالهم.

وسام نويلاتي

 

 

التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
النوع : عمارة وفنون تشكيلية
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 925
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1039
الكل : 58480647
اليوم : 53161

أونغاريتي (جوسيبي-)

أونغاريتي (جوسيبي ـ) (1888ـ1970)   جوسيبي أونغاريتي Giuseppe Ungaretti شاعر إيطالي ينحدر من أسرة توسكانية مهاجرة، فقد ولد في الاسكندرية بمصر وتوفي في ميلانو بإيطالية. يُعدّ من كبار شعراء إيطالية في القرن العشرين. كان صحفياً وناثراً، كما كان رجل ثقافة وأدب وتأمل، إلى جانب كونه رجل مقاهٍ وحوارات وأسفار. وكان مواطناً عالمياً: فهو مصري المولد، فرنسي الثقافة والفكر، إيطالي الأصل، جذوره ضاربة في أرض أجداده ومرتبطة بعاداتها وتقاليدها ارتباطاً لاتُفصم عُراه. استقر في باريس منذ عام 1910، وتابع في الكولّيج دي فرانس College de France محاضرات الناقد الأدبي الفرنسي غوستاف لانصون Gustave Lanson، ومحاضرات جوزيف بدييه[ر] Joseph Bedier أستاذ أدب العصر الوسيط، كما واظب على حضور محاضرات الفيلسوف الفرنسي هنري برْغُسن[ر] Henri Bergson. وقد تردّد أونغاريتّي مدَّة إقامته في باريس على أكثر الأوساط الثقافية والفكرية والفنية الطليعية نشاطاً آنذاك. كما اطلع على أعمال ثُلَّةٍ من الشعراء الفرنسيين الذين أثّروا تأثيراً بالغاً في مسيرته الشعرية، أمثال شارل بودلير [ر] Charles Baudelaire، وستيفان مالاّرميه[ر] Stéphane Mallarmé، وأرتور رامبو[ر] Arthur Rimbaud، وجول لافورغ[ر] Jules Laforgue وكثير غيرهم كانوا مايزالون مجهولين في إيطالية. كما التقى أونغاريّتي في باريس شاعراً إيطالياً مولوداً في الاسكندرية وهو فيليبو تومّاسو مارينيتّي Filippo Tommaso Marinetti الذي برزت في شعره النزعة «المستقبلية» Futurisme ومؤداها: الثورة على الماضي بكل أساليبه الفنية، ومحاولة ابتكار موضوعات وأساليب فنية وأدبية تتمشى مع عصر الآلة. وبعد أن ترك أونغاريتّي باريس واستقر نهائياً في رومة، احتفظ بصداقة وثيقة العرى مع كل من الأديبيَن الفرنسيَين جان بولهان Jean Paulhan ، وبنيامين كريميو Benjamin Crémieux. تأثّر أونغاريتّي تحديداً بالشاعر الفرنسي مالاّرميه، فنظم شعراً على منواله فاشتهُر أمره، واندرج اسمه في الرباعي الإيطالي الكبير إلى جانب الشعراء أومبرتو سابا[ر] Umberto Saba ومونتالي وكوازيمودو. وقد بشّر هذا الرباعي، الذي ظهر في مرحلة مابين الحربين العالميتين، بنهضة شعرية في إيطالية. نفخ أونغاريتّي في بواكير إنتاجه روحاً جديدة في الشعر الإيطالي، وانطلق صوته غريباً عن قضايا الشعر الإيطالي السائد آنذاك، وتجاوز جميع محاولات ردود الفعل ضد المدرسة الدانّونزية المسيطرة التي أسسها وتزعمها الإيطالي غابرييله دانّونزيو[ر] Gabriele D'annunzio. كما خالف نهج الشاعر جوفانّي باسكولي[ر] Giovanni Pascoli، وبلور أسلوباً شعرياً جديداً في مبناه وفي معناه يمكن تلمس صداه فيما بعد عند الشاعر الفرنسي رنيه شار[ر] Rene Char. نظم أونغاريتّي ستة دوواين شعرية جمعها في خمسة مجلدات وهي على التوالي: 1ـ «غبطة الغرقى«L'Allegria dei naufragi  نظمه بين عامي 1914 و1916 ويحتوي بين دفتيه على ديوان صغير بعنوان «المرفأ الغائر» Il porto sepolto. وصف أونغاريتّي في ديوانه هذا أهوال الحرب ومآسيها، وعبّر فيه عن فرحة البقاء بعد انتهائها. ويُلمس في هذا الديوان شفافية التشاؤم البطولي الذي يطبع بطابعه مجموعة قصائد الديوان. 2ـ «الشعور بالزمن» Sentimento del tempo: نظم قصائده في الأعوام 1919-1937. عبّر فيه عن ضيقه بالعيش وتبرّمه به، واستحواذ فكرة الموت وهاجسه على نفسه، فبحث عن وطن حقيقي ضائع ومختبئ في ليل الزمان السحيق. كما بحث عن «البراءة الأولى». وتُظهر هذه الأحاسيس كلّها أن جرح النفي والاغتراب الذي كان يشعر به على الدوام لم يندمل بعد عنده. وقد زاد من حدة اغترابه عن وطنه آنذاك معارضته للفاشية وأفكارها، فشدّ الرحال من جديد وسافر إلى البرازيل ليدرّس فيها الأدب الإيطالي الحديث من عام 1937 حتى عام 1942. وقد بحث أونغاريتّي في ديوانه هذا عن أسلوب أكثر إتقاناً، وعن شكل شعري أكثر اتباعية. 3ـ «الألم» Il Dolore: نظم قصائده في الأعوام 1937-1946. في المدة التي درّس فيها أونغاريتّي في سان باولو وقعت أحداث جسام تركت بصماتها المأساوية على قصائد هذا الديوان. فقد توفي ولده في عام 1937 وكان له من العمر تسع سنوات، وأدمى قلبه احتلال النازيين رومة فصبّ أحزانه في قصائد فيها نُواحٌ يمزق القلوب.  4ـ «الأرض الموعودة» Terra Promessa:نظم  قصائده في الأعوام 1947-1950. شعر أونغاريتّي طوال حياته بأنه منفي؛ منفيٌّ في الأرض، هائم على وجهه، دائم التنقل والترحال، يحث السير أبداً نحو آفاقٍ جديدة. فقد وُلد في مصر التي تعجّ بشتى الأساطير، وبالسحر الذي يفتن الغرب. وقد بقي طوال حياته داعياً لهذه الازدواجية التي تجري في عروقه بين أصله الإيطالي ومولده المصري، ممزقاً بينهما؛ فبين بَهْرِه وهَلَعِه من الصحراء وتعلُّقه بسحر السراب وبحثه الدائم عن الواحات وترصده إياها، يتنازعه حنينه الذي ورَّثته إياه أمّه إلى أرض توسكانة Toscana. وقد اندمج هذان العالمان المتناقضان في ذهنه وروحه، فأبدع من وحيه ديوانه «الأرض الموعودة». وقد عبّر عن نفيه واغترابه في قصيدته القصيرة التي أهداها إلى صديقه العربي محمد شهاب، قرينه في الاغتراب وتوأم روحه. بحث أونغاريتّي بدأب وإصرار عن تلك الأرض السراب التي كلّما ظن أنه وجدها تلاشت من تحت قدميه واختفت. وقد عبّر عن ذروة اغترابه في قصيدته «الأنهار» التي يتحدث فيها عن نهر سيركيو Serchio الإيطالي، والنيل المصري، والسين Seine الفرنسي. ثلاثة أنهار تحمل في جريانها ثلاثة منابع ثقافية، كان قلب أونغاريتّي يخفق بها ويرتوي منها. لقد وصل أونغاريتّي في ديوانَيه «الألم» و«الأرض الموعودة» إلى حدّ الإبهام والغموض وإلى مرحلة «الشعر الصرف».  5 ـ «صراخٌ ومناظر» وهو آخر دواوينه، نظم أشعاره في الأعوام 1950- 1954. تضم هذه الدواوين الخمسة قصائد عروضها أحد عشر مقطعاً. ولأونغاريتّي كتابات نثرية. فقد كتب مجلدات كثيرة عن ذكرياته، وكتب مقالات ودراسات شرح فيها تجربته في الهرب من «قلق العصر» عن طريق الصفاء التقني في النظم الشعري، واللوذ بالأحلام، والتلاشي في الأحاسيس. وهذه كلّها منابع للخلاص الإنساني يمكن أن يبلغ الشعر فيها شأواً بعيداً لايخلو من غموض وانسجام. كما كتب أونغاريتّي دراسات في التصوير والمصورين ولاسيما كتاباته عن المصور والرسام والنحات الفرنسي جان فوترييه[ر] Jean Fautrier. وله كتابان: «الفقير في المدينة» Il povero nella città نشره في عام 1949، و«مفكرة شيخ» Il Taccuino del Vecchio وقد نشره في عام 1960. كما نشر كتاباً في عام 1961 عن ذكرياته بعنوان «انطلاقاً من الصحراء» Il Deserto e dopo. وله ترجمات مهمة. فقد ترجم سونيتات Sonnets شكسبير[ر]، وقصائد للشاعر الإسباني غونغورا[ر] Gongora، كما ترجم للشاعر الفرنسي راسين[ر] Racine، وللشاعر والمصور الإنكليزي بليك[ر] Blake، وبعضاً من قصائد مالاّرميه، وقصائد للشاعر الروسي يِسّينين[ر]. شعر أونغاريتّي بأكمله وبعمقه مرآة لسيرته الذاتية والمناسبات التي عاشها. فهو لم يترك مناسبة أو تجربة إلاّ ونظم فيها شعراً. ويُعدّ هذا الشعر اعترافات متلاحقة، لكنه تمالك فيها نفسه وكبح جماحها من شطط الحقيقة وخفاياها اللاذعة أحياناً. وقد أغرب أونغاريتّي في نظم قصائده وعزف فيها عن كل ماهو ثانوي واحتفظ بالجوهري، فأسقط من شعره كل ماهو تزييني وسهل. يُعدّ أونغاريتّي  رائداً من رواد المدرسة الهرمسية أو الإبهامية Hermétisme التي اختارت الإبهام والغموض منهجاً لها. وشعره رصينٌ دقيق المعنى والفِكرة، ليس فيه تكلّف، وليس فيه حشو ولا إسفاف، وهو يعيد القارئ في شعره إلى ماضٍ بعيد، ماضي ماقبل الولادة، ماضي الإنسان البدائي، فيصل بذلك في شعره إلى مرحلة الأسطورة. لقد انزوى أونغاريتّي في أشعاره في «عزلة ساطعة» يهيمن عليها إحساس حاد بالصمت. وكان يغوص في الأزمنة السحيقة، وفي السكون المطلق، وفي الفراغ الذي ملأ كل شيء ولاشيء يملؤه.   نبيل اللو   مراجع للاستزادة:   - G.OSSOLA,Giuseppe Ungaretti, Mursia, (Milano 1975). - P. BIGONGIARI, la congiuntura Ungaretti-Breton-Reverdy,in LApprodo letterario, nº17, (1972). - Y. CAROUTCH,.Ungaretti (Paris 1980).
المزيد »