logo

logo

logo

logo

logo

النموذج

نموذج

Model - Modèle

النموذج

 

يعد تعبير «النموذج» le modèle واحداً من المفاهيم التي يكثر استخدامها في المجالات المتعددة، العلمية منها والتجارية والصناعية والصحية والثقافية، فضلاً عن استخدامه الواسع في سياق العلاقات الاجتماعية بين الناس على اختلاف شرائحهم ومجالات عملهم، وينطوي على معنيين أولهما المعنى المادي، والآخر المعنوي أو الفكري.

 أما الأول فيراد به الشكل أو الصورة التي تتخذ معياراً للحكم على الأشياء الأخرى المماثلة له بالتوافق معها أو عدمه، ويعد الأساس في المقارنات التي يمكن من خلالها تقييم الأشياء وبيان الصالح منها والفاسد، والتي تستخدم كثيراً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفي عمليات البيع والشراء وتبادل المنافع، فيصعب على المرء تقييم الأشياء وتقويمها إلا في ضوء نماذج مشابهة لها في الوظائف ونوعيتها وسهولة الحصول عليها، وغير ذلك من المعايير التي تجعل من النموذج مرجعاً يعتمد عليه في عملية التقويم والتبادل.

وفي المعنى المجازي أو الفكري يستخدم تعبير النموذج بمعنى التصور الذي يعتمد عليه المرء في المقارنة بين الأشياء والحكم عليها في ضوء ما تتصف به من سمات وخصائص تجعلها قريبة من ذلك التصور أو بعيدة عنه، وكثيراً ما يستخدم هذا التعبير في المجالات المختلفة أيضاً، ولكنه أكثر وضوحاً في مجالات الفكر والأدب والعلوم على اختلاف أنواعها، ويؤدي الوظيفة نفسها المتمثلة في تقييم الأشياء، وخاصة الأفكار وبيان الصالح منها والفاسد في ضوء التصورات المسبقة التي تكونت في شخصية الفرد.

فالمقارنة بين الأشياء والحكم عليها، وتفضيل بعضها على بعضها الآخر أمور لا تحدث إلا في ضوء مجموعة من النماذج التي تكتسب مصداقيتها بدرجة عالية لدى الفاعلين، وتعد بمنزلة معايير تلامس الحقيقة، أو تقترب منها بدرجة كبيرة، الأمر الذي يمنح النماذج في كثير من الأحيان أبعاداً نفسية وعاطفية واجتماعية وعقلية تزيد في قيمتها على أبعادها الواقعية الفعلية.

- النموذج والقياس:

تقود فكرة النموذج وتطبيقاتها المختلفة إلى فكرة القياس syllogism الواسعة الانتشار في العمليات العقلية والتي تنتفي مع غياب النموذج الذي يُعتمد عليه، ذلك أن عملية القياس ليست من حيث النتيجة سوى عملية مقارنة بين الأشياء الخاضعة للقياس - والتي يراد اختبارها والحكم عليها ومعرفتها - والنموذج الذي سبقت معرفته، ويتصف بمصداقية عالية تجعله معياراً للحكم على الأشياء.

وعلى الرغم من انتشار مفهوم القياس في الفلسفات القديمة، ظهرت أوضح صورة له مع أرسطو[ر] الذي نظر إلى القياس على أنه عملية أساسية من عمليات المنطق، بل يذهب ابن سينا إلى القول إن الهدف الأول من صناعة المنطق هو معرفة القياس الذي يتألف بحسب التعريف الأرسطي من مقدمة ونتيجة، مع حد وسط يجمع بينهما، وفي حين يعد التسليم بالمقدمات ضرورة من ضرورات القياس المنطقي، لابد أن تأتي النتيجة متوافقة مع المقدمة، فالقول إن كل إنسان فانِ، وسقراط إنسان، إذاً سقراط فان، ينطوي على العناصر الأساسية في القياس المنطقي الأرسطي، يلاحظ فيه أن المقدمة الكبرى »كل إنسان فانٍ» ليست في النتيجة إلا تصور في الذهن ينطبق على بني البشر كافة، فهو نموذج تقاس عليه أحوال الناس، بصرف النظر عن مطابقته للواقع أو عدم المطابقة، ويأتي الحكم بأن «سقراط فان» قياساً إلى المقدمة التي تقول إن «كل إنسان فانٍ» منطقياً لأن «سقراط هو إنسان» ومشمول في النموذج الذي بات مسلماً بصحته.

وبتحليل عناصر القياس في العلوم قاطبة يلاحظ أن كل مقياس لا بد من اعتماده على نموذج يعد سليماً من الناحية الاعتبارية، أي لا بد من الاعتماد عليه في المقارنات بصرف النظر عن مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، ويأخذ الباحثون في الحكم على الأشياء في ضوء مقاربتها له في خصائصه وسماته وأبعاده، ويتجلى ذلك في المقاييس التي تستخدم المعايير التي باتت نماذج، منها ما هو مجرد كوحدات القياس التقليدية (قياس الزمن بالدقيقة أو الساعة، وقياس المسافات بالمتر، أو اليارد، وقياس الأوزان بالغرام أو الكيلو غرام…)، ومنها ما هو إجرائي كما هي الحال في معظم المقاييس العلمية.

- النموذج وعمليات التنميط والتصنيف:

تعد عملية التصنيف classification والتنميط typologie واحدة من العمليات الأساسية المستخدمة في العلوم، حتى إن من المؤشرات الأساسية لتطور أي علم من العلوم يكمن في قدرته على تصنيف موضوعاته وتنميط الظواهر التي يأخذ برصدها وتحليلها.

ويعد تكوين النماذج الخطوة الأولى في كل عملية تصنيف التي تعني ترتيب التصورات أو المفهومات في سلم صاعد من الأفراد إلى الأنواع إلى الأجناس وغيرها، ويمكن التمييز بين مجموعة من المصطلحات التي تقوم في أساسها على عملية التصنيف، ومن ذلك الفئات، والمجموعات، والشرائح، والكتل، والتجمعات وغيرها كثير.

ولكل من هذه التصنيفات نموذجه الخاص؛ فيأتي تصنيف العناصر في هذه المجموعة أو تلك على ما تحمله من خصائص مشتركة بينها، يضمها النموذج الخاص بها، فتصنيف الكائنات إلى كائنات حية وكائنات غير حية يقوم على تصور محدد لمفهوم الحياة، وتصنيف الكائنات الحية إلى نبات وحيوان وإنسان يقوم أيضاً على تصور محدد لكل مفهوم من المفاهيم المشار إليها، فجملة التصورات التي يمكن من خلالها الحكم على الكائن الحي بأنه من صنف الإنسان أو من غيره تمثل نموذجاً عقلياً تقارن به الكائنات الحية، فإذا تطابقت خصائص الكائن الحي مع عناصر النموذج أمكن القول إنه إنسان، وهو حيوان عندما تتطابق خصائصه مع خصائص نموذج الحيوان، وهكذا…

وعلى الرغم من ذلك فإن النموذج الواحد الذي يصار إلى تصنيف ملايين العناصر المشمولة فيه لا يمكن أن يكون إلا عقلياً، ولا يمكن تلمس وجوده إلا في العقل الإنساني وحسب، ففي الوقت الذي يمكن تصنيف ملايين الأشجار في العالم في زمر وأنواع وأجناس… غير أن مفهوم الشجرة لا وجود له إلا في العقل الإنساني؛ لأنه مفهوم مجرد «نموذج» تقاس عليه الأشياء، ولا يقاس هو بشيء منها، وكل شجرة في الواقع لابد أن تكون محددة بجنس أو نوع أو زمرة أو فئة، الأمر الذي يجعلها مدرجة في النموذج، ولكنها لا تشمله.

- تكوين النماذج وتطور العلوم:

يستخدم الإنسان مفهوم النموذج في عمليات القياس والمعايرة والتصنيف منذ أن خلقه الله في أرضه، غير أن هذا الاستخدام يأخذ بالتطور دائماً وعلى نحو مستمر، فتنمو المفاهيم الخاصة بكل نموذج يوماً بعد آخر، فيكتسب جملة من الصفات التي تجعله أكثر تطوراً من ذي قبل، وأقرب إلى الاكتمال، في الوقت الذي تنشأ أيضاً، وفي كل يوم نماذج جديدة لموضوعات ومفاهيم لم تكن معروفة في السابق، وإذا كانت عملية تطوير النماذج ذات أهمية كبيرة في تاريخ العلم فإنها اليوم تكتسب أهمية أكبر، ذلك أن الوقائع الجديدة تدفع الباحثين في العلوم المختلفة إلى تطوير النماذج التي توافقها بغية رصدها وتحليلها على نحو أفضل.

وفي الوقت الذي يعد فيه اللجوء إلى قواعد المنطق الصوري لتحديد خصائص النموذج ومكوناته وحدوده، والتعريف به ضرورة أساسية لتمييز النموذج من غيره من النماذج، وتطوير عملية تصنيف الموضوعات المدرجة في النموذج يعد استخدام الرياضيات ضرورة أخرى لتكميم الظواهر الكيفية وتحويلها إلى مؤشرات قابلة للقياس والموازنة بين بعضها بعضاً.

وإذا كانت العلوم تختلف في مستويات تطورها، من حيث ضبطها للموضوعات المدرجة فيها، ومن حيث قدرتها التفسيرية للظواهر المعنية بها فمرد ذلك إلى تباين قدراتها في تكوين النماذج التي يدل تطورها على القدرة على تصنيف المعطيات المدروسة والمقارنة بينها من جهة، وعلى إجراء عمليات القياس والمعايرة بغية تحقيق مستوى أعلى من الفهم، وقدرة أكبر على التحكم في حركة الظواهر من جهة أخرى.

وفي حين تعد العلوم الفيزيائية من أكثر العلوم استخداماً للنماذج التي تتصف بدقة التعريفات والمفاهيم من جهة، وعمليات القياس والمعايرة من جهة أخرى تأتي العلوم الاجتماعية، وخاصة الإنسانية والأدبية منها في الموقع الأخير من حيث هذه القدرات، فاختلاف الباحثين في هذه العلوم على الدلالات التي تنطوي عليها المفاهيم والمصطلحات مازال واسعاً، الأمر الذي يحول دون إمكانية الاعتماد على تصنيفات متفق بشأنها، ودون إمكانية إجراء عمليات القياس والمعايرة بين الموضوعات إلا على نحو كيفي تأتي نتائجه مختلفة باختلاف المقدمات التي يعتمدها الباحثون، على خلاف العلوم الفيزيائية التي تعمل على تطوير نماذجها التي بنيت منذ فترة طويلة، وينطبق الأمر على العلوم الأخرى كالعلوم الهندسية، والعلوم الحيوية، والعلوم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، ولكن بدرجات متباينة، ومن الملاحظ أن الجهود العلمية المتعلقة بتطوير النماذج الرياضية وتطبيقاتها تزداد يوماً بعد آخر في مجالات التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والأنثروبولوجيا، ولكن بدرجات متفاوتة تبعاً لخصوصية كل مجال، ولخصوصية الوقائع التي تأخذ العلوم بمعالجتها.

- التطبيقات العلمية والعملية لمفهوم النموذج:

تعد التطبيقات العلمية والعملية لمفهوم النموذج واسعة الانتشار، ويصعب حصرها في المجالات المتعددة، وفي حين ينطوي بعضها على بعد قيمي وأخلاقي ووجداني، يجعل تركها في  غاية الصعوبة لصلتها الوثيقة بحياة الإنسان، وبالطريقة التي تكيف بها مع البيئة المحيطة به، كما هي الحال في النماذج ذات الصلة بحياة الإنسان، حيث تظهر معايير الحق والخير والعدالة والمساواة، وكلها مفاهيم وتصورات تقاس عليها الأنماط السلوكية التي يتم تصنيفها بحسب تطابقها مع المعايير المشار إليها، أو عدم التطابق. والنموذج وفق هذا التصور ذو قيمه تجعله مثلاً أعلى في حياة الإنسان، وكثيراً ما يصبح بعض المشاهير والأبطال وقادة الرأي والعلماء في المجتمع نماذج يسعى الآخرون إلى تقليدها والاهتداء بسيرتها، ولكل شعب من الشعوب، ولكل حضارة من الحضارات نماذجها الثقافية والحضارية التي تعد مصدر تقييم الأفعال والأنماط السلوكية بين أفرادها، وتختلف هذه النماذج بين الشعوب والحضارات اختلافات كبيرة وواسعة، فما هو نموذجي في مجتمع لا يكون كذلك بالضرورة في مجتمع آخر، وما الثقافة من حيث النتيجة إلا مجموعة من المعايير والنظم والنماذج التي تختزنها الأمة وتتوارثها الأجيال، وتكسب قوتها من صلتها الوثيقة بتاريخ الأمة من جهة ومن الوظائف الحيوية والمهمة التي تؤديها في المحافظة على الهوية والأصالة، ولهذا يحمل تصنيف الحضارات والشعوب بعداً ذاتياً يقوي من اعتزاز أبناء المجتمع الواحد بثقافتهم، ويشدد من ارتباطهم وتكاملهم.

وتبعاً لهذه التصورات فإن المعايير من وجهة نظر علماء الاجتماع هي نماذج يكونها المجتمع في ضوء قيمه وثقافته ويجعل الأفراد يمتثلونها من خلال عمليات التنشئة التي تقوم على بعدي الثواب والعقاب، ويصنّف علماء الاجتماع المعايير في نوعين: المعايير المكتوبة وهي القوانين والدساتير والأوامر الإدارية، والمعايير غير المكتوبة كالأعراف moeurs والعادات والطقوس الشعبية والرأي العام.

وعلى طرف آخر يلاحظ أن النماذج ذات الطابع العلمي لا تحمل بالضرورة بعداًً وجدانياً، الأمر الذي يمكّن أبناء المجتمع من تطويرها تبعاً لحاجاتهم وتطلعاتهم المستقبلية، وتبعاً لما تؤديه من وظائف على المستوى المعرفي، وبالتالي فالتخلي عن هذه النماذج ممكن إلى جانب تكوين نماذج بديلة عنها، مادامت عملية الاستبدال تساعد على تحقيق المزيد من عملية الفهم والتفسير، أو تساعد في تلبية الحاجات على نحو أفضل، كأن يقوم الفرد باستبدال آلة بغيرها، تحقق له حاجة مادية أفضل، وتساعده على تحقيق طموحاته، وقد يأتي استبدال النماذج بتأثير البعد الاجتماعي، بدرجة تزيد في تأثره بالحاجة، فقد يندفع الفرد إلى اقتناء سلعة ذات كلفة عالية لمجرد أنها تحسن من موقعه الاجتماعي، وتساعده على الظهور بشكل أكثر جاذبية بين الآخرين، وقد تأتي عملية استبدال النماذج نتيجة أسباب صحية أو نفسية أو سياسية…

ومن مظاهر التطور في تكوين النماذج أيضاً التطور الملحوظ في الصناعات على اختلاف أنواعها، ففي كل يوم تقدم الصناعات نماذج (موديلات) جديدة لمنتجاتها المختلفة بغية السيطرة على المستهلك والعمل على تلبية حاجاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية من جهة، وتحقيق السبق في عملية التسويق الاقتصادي والسيطرة على السوق التجارية من جهة أخرى، وقد بلغ اهتمام المؤسسات والشركات الصناعية بالنماذج حتى أصبحت تستحوذ في كل فرع من فروعها على مهندسين وخبراء متخصصين في مجال تطوير النماذج، وباتت لهؤلاء مواقع اجتماعية وتعويضات تزيد في كثير من الأحيان على المواقع التي يحظى بها المهندسون الآخرون، وتزيد تعويضاتهم على التعويضات التي ينالها غيرهم، وبات هذا المجال من مجالات الصناعة يضم كبار المبدعين والمصممين في مجالات الصناعة المختلفة، كما هي الحال عند مصممي الألبسة والأحذية والسيارات وغرف النوم، وكل مظاهر الإنتاج الصناعي.

أحمد الأصفر

 

 الموضوعات ذات الصلة:

 

أرسطو ـ التصنيف ـ القياس ـ المعايرة ـ المنطق.

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ محمد مهران، المدخل إلى المنطق الصوري (جامعة دمشق، 1998).

ـ نعيم الرفاعي، التقويم والقياس في التربية (جامعة دمشق، 1987).

- N. ANDJIGA, F. CHANTREUIL, D.LEPELLEY, La mesure du pouvoir de vote, Math. & Sci. hum, Mathematical Social Sciences (41e année, no 163, 2004).


التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد
المجلد: المجلد الواحد والعشرون
رقم الصفحة ضمن المجلد : 72
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1036
الكل : 58480567
اليوم : 53081

تاميل نادو

تاميل نادو   تاميل نادو Tamil Nadu ولاية هندية اتحادية تقع في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة الهندية. يحدها من الشرق والجنوب المحيط الهندي ومن الغرب ولاية كيرالا ومن الشمال أندابراديش ومن الشمال الغربي ولاية كارناتاكا (موسور سابقاً). تبلغ مساحتها 130.058كم2، وعاصمتها مدينة تشناي Chennai (مدراس سابقاً).
المزيد »