logo

logo

logo

logo

logo

الوراثة والشيخوخة

وراثه شيخوخه

Inheritance and aging - Hérédité et le vieillessement

الوراثة والشيخوخة

 

سُئل أحدهم: «من هو ذلك الذي يمتلك أربعة أطراف في الصباح ويكون آنذاك بالغ الضعف، وطرفين في الظهيرة، وثلاثة في المساء؟»، فأجاب: «إنه الإنسان، في مراحل ثلاث: مرحلة الطفولة الضعيفة، ومرحلة البلوغ القوي، وبعدهما مرحلة التدهور النهائي، التدريجي أو السريع، وهي مرحلة الشيخوخة، وتنتهي بالوفاة».

والشيخوخة aging هي ظاهرة التدهور العام لخلايا كامل الجسم وأنسجته وأجهزته وأعضائه، تحدث مع تقدم الكائن الحي بالعمر، وتختلف من فرد إلى آخر ومن نوع إلى آخر، مؤدية إلى ضعف جميع وظائف الجسم، ومن ثم إلى موته.

تتفاوت أعمار الكائنات الحية تفاوتاً ملحوظاً سواء بين الأنواع المختلفة أم ضمن كل منها، فالحد الأقصى لحياة الإنسان قد يكون نحو 120 عاماً، في حين هو نحو 150 عاماً عند بعض السلاحف و20 عاماً عند الكلاب. ومن المؤكد أنه بالرغم من التأثير القوي للعوامل البيئية، فإن المورثات تؤدي دوراً رئيساً في تحديد الأعمار عند الكائنات الحية، وخير دليل على ذلك نتائج الدراسات بشأن طول حياة النيماتودا nematodes والحيوانات المخبرية، والتي مكَّنت الباحثين من استخدام الاصطفاء[ر] selection والهندسة الوراثية[ر] genetic engineering لإطالة أعمار هذه الحيوانات. وكذلك البحوث الكثيرة والمكثفة على حشرات ذبابة الخل[ر] Drosophila melanogaster التي تعيش مدة 70-80 يوماً، ففي مختبرات جامعة كاليفورنيا في إرڤن Irvine الأمريكية، أمكن بأعمال الاصطفاء والتربية  breeding مضاعفة طول الحياة الطبيعية في هذه الحشرة. ومن المفيد الإشارة إلى أن أعمال التربية وُجِّهت نحو حشرات نُفِّذت فيها أعمال الاصطفاء من أجل الحصول على صفات أخرى مثل القدرة على مقاومة نقص الغذاء. ويُعتقد بأهمية دور الأنزيم superoxide dismutase (SOD) في هذه المجالات. وقد اكتشف روبرت تايلر Robert Tyler أن الحشرات الأطول عمراً تمتلك ضرباً مختلفاً من مورثة الأنزيم المذكور، وهو أكثر نشاطاً من مثيله في الحشرات ذوات طول العمر العادي. وأعطى هذا الاكتشاف دعماً للفرضية القائلة إن: الأنزيمات المضادة للتأكسد antioxidant enzymes مثل أنزيم SOD ذات علاقة بطول العمر.

اكتشف علماء كثيرون أن بعض المورثات عند الديدان والخميرة وذبابة الخل وغيرها تطيل أعمارها، في حين وُجدت مورثات أخرى ذات تأثير مخالف. وقد أمكن عزل واحدة من «مورثات الموت» هذه عند النيماتودا في مختبرات جامعة كولورادو Colorado الأمريكية، ووجد الباحثون فيها أن طفرة mutation لمورثة معينة تزيد من طول عمر النيماتودا من نحو 3 إلى أكثر من 6 أسابيع، وأن ذلك يعود إلى إنتاج زائد من الـ SOD والكاتالاز catalase، وهو أيضاً أنزيم مضاد للأكسدة.

ومن جهة أخرى، يحاول الباحثون معرفة البروتينات التي تنتجها مورثات طول العمر، ووظائفها في الخلايا والأنسجة، وكيفية تأثير تغيّر هذه المورثات في الشيخوخة. ويبدو أن بعض البروتينات ـ مثل مضادات الأكسدة ـ قادرة على منع حدوث أضرار بالخلايا، في حين تساعد بروتينات أخرى على إصلاح الدنا المتضرر، أو تساعد الخلايا على مقاومة الشدة stress. كما أن بروتينات أخرى تتحكم في تكاثر الخلايا أو تشيُّخه؛ إذ تكون هذه العملية بالغة الأهمية في طول العمر والشيخوخة.

لقد تم اكتشاف عدد من المورثات المرتبطة بشيخوخة الإنسان، ولعل أول من درسها بدقة كان الطبيب الألماني أوتو ڤِرنَر Otto Werner الذي تتبع حياة أسرة تميزت بشيخوخة مبكرة جداً فعاشت حياتها بأكملها في بضع سنوات، ومرَّ أفرادها بالمراحل الطبيعية الخاصة بحياة الإنسان: الولادة، الطفولة، البلوغ، النضج، الشيخوخة بعلاماتها البارزة مثل شيب الشعر وتجعد الجلد وغيرها، وصولاً إلى حدوث السرطان عند بعض الأفراد، كلها حدثت متتالية ولكنها انقضت وانتهت بالموت في سنوات قلائل. واعتقد ڤِرنَر بوجود سبب وراثي أدى إلى ما مرَّت به هذه الأسرة.

تُعرف هذه الحالة اليوم باسم متلازمة ڤرنَر Werner’s syndrome وتتسبب من طفرة في مورثة متنحية تقع على الذراع القصير من الصبغي الثامن، وتظهر في الفرد الذي يتلقى الطفرة من كل من أبويه، ولا تكفي إحدى الطفرتين لحدوثها. وقد أوضحت بحوث لاحقة أن راموز الدنا لهذه المورثة موجود أيضاً في بعض الديدان والخميرة ونوع من الجراثيم.

في الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة لا يستطيع أنزيم هليكاز helicase أن «يفك» (يفتح) unwinds الدنا المزدوج الملتف لتكوين ما يشبه السلم لتتعرض جزيئات الدنا للأنزيمات التي تتوسط التفاعلات المختلفة، فتتعرض لمشكلات استقلابية metabolic متعددة، وقد تُفقد صبغيات بأكملها في أثناء الانقسامات الخلوية، أو تحدث أشكال من العبور crossing-over الشاذ، وتزداد الطفرات mutations، ومنها طفرات المورثات المسببة للسرطان، وهذا مما يفسر أسباب تعرض كثير من المصابين بمتلازمة ڤِرنَر لبعض السرطانات.

ومن جهة أخرى، فإن المصابين بهذه المتلازمة «تبلى» لديهم «قمم» صبغياتهم بسرعة أكبر، وهذه القمم هي القُسيمات الطرفية (التيلوميرات) telomeres؛ وظيفتها الأساسية هي حماية الصبغيات، وهي لحسن الحظ لا تمتلك مورثات. وحينما تصير هذه القُسيمات قصيرة جداً فإن الخلية تتوقف عن الانقسام، وتُظهر علامات الشيخوخة، مع أنها لا تموت مباشرة.

يستطيع اليافعون تعويض خلايا الجلد التالفة عندهم بالانقسامات الخلوية، لكنه مع تقدمهم بالعمر فإن القُسيمات الطرفية تتلف تدريجياً ثم تتوقف الخلية عن الانقسام. وتُفرز الخلايا أنزيماً يتلف الكولاجين collagen الذي يجعل الجلد طرياً وغضاً، وتساعد الأشعة فوق البنفسجية في أشعة الشمس على تسريع هذه العملية مؤدية إلى إتلاف خلايا الجلد ودفعها نحو انقسامات أسرع. ولما كان للخلية نحو 50 انقساماً فحسب في حياة الفرد فإن سرعة حدوث الانقسامات في زمن قصير تؤدي إلى سرعة ظهور علامات الشيخوخة الجلدية، ولهذا فإن القُسيمات الطرفية لا تهتم في الواقع بعدد السنين بقدر اهتمامها بعدد الانقسامات الخلوية.

هنالك حالة نادرة للغاية تدعى متلازمة هُتشنسون- غيلفورد Hutchinson-Gilford توضح التأثير السيئ لنقص أنزيم الهليكاز في قمم القُسيمات الطرفية والتي تفقد أجزاء منها بسرعة واضحة في حين تحدث شيخوخة مبكرة للخلايا والأنسجة. لا يزيد عدد المصابين في العالم بهذه المتلازمة على بضع عشرات. ويتجعد جلد المصاب بسرعة فائقة فيبدو كأنه في العقد التاسع من العمر، ويبتدئ القلب بالفشل وتصير عظام المصاب هشة وقابلة للكسر ويموت بسبب الشيخوخة حينما يبلغ العشرين من العمر.

يستطيع أنزيم التلوميراز telomerase إضافة دنا إلى القُسيمات الطرفية التي فقدت أجزاء منها. وهو أنزيم نشيط في كلٍ من النطاف والبويضات مما يجعل هذه الخلايا «يافعة»، ويفسر هذا سبب كون الأطفال المولودين لآباء متقدمين في السن ممتلكين قسيمات طرفية طبيعية. وقد أمكن عزل هذا الأنزيم وتحديد المورثة الخاصة به مما يتيح المجال - ولو نظرياً- لإجراء معالجات وراثية[ر] genetic therapy بهذه المورثة، وهذا لم يحدث بعد، ولاسيما أن هنالك مشكلة مهمة مرتبطة بهذا الأنزيم، كونه يُنتج في الخلايا السرطانية أيضاً إذ تحدث فيها انقسامات غير متحكم بها فتنتج أوراماً سرطانية؛ لكون هذه الخلايا غير قادرة على معرفة متى يجب أن تتوقف عن الانقسام. ولهذا فإن محاولة «إطالة العمر» بـ«زرع» المورثة المذكورة بغية إطالة القُسيمات الطرفية يمكن أن تسبب أيضاً تكاثراً خلوياً سرطانياً يسبب الموت.

إن أسباب الشيخوخة كثيرة ومعقدة، مع أن بعضها يبدو بسيطاً في توارثه. وإن هناك أمراض كثيرة تكون الشيخوخة إحدى معالمها، مثل مرض ألزهايمر Alzheimer disease الذي تم تحديد ثلاث مورثات على الأقل تسبب أشكاله. وبديهي أن للعوامل البيئية أثراً كبيراً في إظهار معالم الشيخوخة، ومثل ذلك التآثر (التفاعل) بين المورثات والبيئة. والمورثات التي اكتشفت حتى اليوم قليلة العدد، وهي جزء من عشرات أو مئات المورثات المرتبطة بطول العمر والشيخوخة، وهي لا تزال تنتظر اكتشافها.

وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن أضرار الجزيئات الحرة free radicals للخلايا وبروتيناتها، وأجريت وتُجرى بحوث كثيرة لتحديد وسائل التغلب على آثار هذه الجزيئات وأضرارها.

أسامة عارف العوا

الموضوعات ذات الصلة:

 

الاصطفاء ـ ذبابة الخل ـ الشذوذ الصبغي ـ الصبغيات (كروموزوم) ـ الوراثة (علم ـ) ـ الوراثة والأمراض ـ الوراثية (المعالجة ـ) ـ الهندسة الوراثية.

 

مراجع للاستزادة:

 

- SIEGFRIED HEKIMI, The Molecular Genetics of Aging (Springer -Verlag 2000).

- CINDY S. BERGEMAN, Aging: Genetic and Environmental Influences (Sage Publications 1997).

- M. S. KANUNGO, Genes and Aging (Cambridge University Press 2005).


التصنيف : الزراعة و البيطرة
النوع : صحة
المجلد: المجلد الثاني والعشرون
رقم الصفحة ضمن المجلد : 199
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1045
الكل : 58480861
اليوم : 53375

كفافيس (كونستنتينوس-)

كڤافيس (كونستَنْتينوس ـ) (1863ـ 1933)   كونستنتينوس بيترو كڤافيس Konstantinos Petrou Kavafis، أو صاحب الاسم المستعار كونستنتين كڤافي Constantine Cavafy، هو أحد أبرز الشعراء المحدثين في الأدب اليوناني في القرن العشرين. ولد في مدينة الاسكندرية في مصر لعائلة برجوازية من القسطنطينية، انتقلت للاستقرار في الاسكندرية عام 1850 حين افتتح ربّ  العائلة متجراً للاستيراد والتصدير، ولكن على أثر وفاته عام 1870 اضطرت العائلة إلى الانتقال إلى ليڤربول Liverpool في إنكلترا حيث تلقى كڤافيس تعليمه الأساسي باللغة الإنكليزية. وفي عام 1882 عادت العائلة إلى الاسكندرية وتابعت حياتها السابقة فيها، ولكن فقط حتى أحداث 1885-المرتبطة بنضال الحركة الوطنية في مصر ضد الاحتلال البريطاني- حين رجعت العائلة إلى موطنها في القسطنطينية.
المزيد »