مقامه (فن)
Maqama - Maqâma

المقـامة (فن ـ)

 

المقامة فن أدبي ازدهر في القرن الرابع للهجرة على يد بديع الزمان الهمذاني(ت 398هـ) حتى عُدّ من أهم فنون الأدب العربي. والمقامة في اللغة: اسم للمجلس أو لموضع القيام، من فعل قام يقوم، ومثلها المَقام، وهو النديّ ومن فيه وما يدور بينهم من أحاديث. وبهذا المعنى يُفسَّر قول زهير بن أبي سُلمى:

وفيهم مقاماتٌ، حسانٌ وجوهُهم            وأندية ينتابُها القولُ والفعـلُ

ثم توسّع العرب في استعمال الكلمة فصارت اسماً للقوم المجتمعين في المجلس. وهو ما أطلق على من تضمّه مجالس الخلفاء منذ العصر الأموي، وعلى أحاديثهم التي كانوا يقولونها أو تُقال لهم في مجالسهم من وعظ أو علم أو تاريخ أو أخبار أو محاضرات وما إلى ذلك، حيث كان الزهّاد والصالحون والوعّاظ خاصةً يحضرون تلك المجالس أو «المقامات» ويتوجهون بنصائحهم إلى ولي الأمر ومن في مجلسه، من أقوال حافلة بالحكمة والبيان والجهر بالحق.

فلما جاء القرن الثالث الهجري اتسع معنى المقامة الذي كان يراد منه أصلاً المجلس والقوم المجتمعون فيه، فأخذ يتناول القصة الطريفة، يتحدث بها الراوية، وينوّع فيها المقال في موضوعات شتى، وانتقل ذلك من مجالس أولي الأمر إلى الأسواق والمساجد وما إليها، وصارت المقامة كلاماً مختاراً يجري على ألسنة الشحّاذين والسائلين من السوقة والرعاع يُطرفون بها الناس سعياً وراء المعاش والتكسّب بهذه المهنة.

وكانت هذه المقالات أو المقامات المنمقة الحجر الأول في بناء صرح من الأدب جديد، أغنى الأدب العربي في القرن الرابع للهجرة، وكان صاحب هذا الصرح الجديد بديع الزمان الهمذاني، فهو أول من أعطى كلمة «مقامة» معناها الاصطلاحي، فصارت نوعاً من الأدب يقوم على دعامتين اثنتين: أولاهما: قصة قصيرة لحادث وقع، أو مخترع نسجه الخيال. وثانيتهما: أسلوب مسجوع أنيق الجمل والألفاظ تهدف في مجموعها إلى جمع شوارد اللغة الفصيحة، وتدور القصة فيها حول بطلٍ يكون هو الشخصية الرئيسية، وراوية (أو راوٍ) يسرد الأحداث والطرائف والأشعار، وربما كان الراوية هو البطل نفسه في بعض الأحيان.

وقد عرف القرن الرابع - الذي عاش فيه بديع الزمان - ازدهار تلك الطريقة المنمّقة المسجوعة في الكتابة والكلام على يد ابن العميد وتلميذه الصاحب ابن عباد، فانتفع «البديع» بما وصل إليه تطور الكتابة، وصرفه ذلك إلى القصة فكان صاحب مذهب جديد في الكتابة، وجاء بفنّ مستحدث في الأدب العربي سمي بالمقامات.

وهذا الحديث يسوق إلى الكلام على أديبين كبيرين ربما يعود إليهما الفضل في أصل نشأة «المقامات»:

أولهما: أبو بكر بن دريد، الأديب اللغوي (ت 321هـ) الذي أطلق على كتاباته اسم «أحاديث» وهي نمط من المقامات عرف بأحاديث ابن دريد، وعددها أربعون، تدور موضوعاتها حول حكايات عربية قديمة. وقد أغرب في أحاديثه وحشاها بألفاظ وتراكيب تنبو عن قبولها الطباع، فلم تلق استحساناً في النفوس. وثانيهما: أحمد بن فارس اللغوي (ت 395هـ) أستاذ بديع الزمان والصاحب بن عباد وغيرهما، فإن له رسائل أنيقة ومسائل في اللغة والفقه، وهي مئة مسألة.

  وقد أفاد الهمذاني مما كتبه هذان الأديبان من رسائل أو أحاديث، واستثارا حميته لابتداع المقامات. ولكن تلك الرسائل والأحاديث لم تصل إلينا كما وضعها صاحباها، وإن حاول بعض الدارسين المعاصرين أن يقفوا على عمل ابن دريد من خلال أمالي القالي، لأن أبا علي القالي كان تلميذاً لأبي بكر ابن دريد، وروى عنه كثيراً من الأحاديث ولاسيما تلك التي تقترب قليلاً من المقامات في أسلوبها وغايتها. وهذا ما يجعل من الصعوبة إجراء المقارنة والإتيان بأي حكم، ولذلك يبقى الفضل مرتبطاً بالهمذاني في إيجاد ذلك الفن الأدبي الجديد، الذي دعي بالمقامة، تلك القصة الأدبية المنمقة التي بلغت الذروة على يده ومن بعده الحريري؛ فهما خير من كتب في هذا النمط من الأدب أو من النثر الفني، والتزما بوحدة الراوية، ووحدة البطل.

والناظر في مقامات الهمذاني يراه قد جعل من نفسه مستمعاً واعياً لراوية لبق يقص أخبار بطلٍ يعزو إليه مافي القصة من طرافة وبيان وحيلة.

فعماد المقامة إذن: مؤلّف يشركنا في علمه ويحدثنا بما أبدعه خياله، وراوية يقص الأحداث والوقائع، وبطل يكون هو الشخصية الرئيسية، وعلى يديه تجري تلك الأحداث وما يرافقها من طرائف وحيل ومفاجآت وحضور بديهةٍ وما إلى ذلك. فالراوية (أو الراوي) في مقامات البديع يدعى عيسى بن هشام، وهو اسم اخترعه المؤلف؛ ليقوم بسرد الأحاديث ونقلها. أما البطل في كل مقامة تقريباً فهو أبو الفتح الإسكندري، واسمه أيضاً من وحي الخيال، وتروى أخباره على لسان الراوية عيسى بن هشام، وهو يمثل طائفة من الأدباء المتشردين الذين جمعوا بين ذرابة اللسان وقوة الحيلة وفصاحة البيان وحدّة الذهن والمعرفة الشاملة، والتقلّب من حالة إلى حالة، ومن زيّ إلى آخر كما تقضي به المناسبات. ويقوم سلوكه على مبدأ «الغاية تسوغ الوسيلة».

وربما كان الراوية عيسى بن هشام هو نفسه بطل المقامة أحياناً، في الوقت الذي يُروى فيه الخبر على لسانه، كما في المقامة البغدادية حيث يحتال عيسى بن هشام نفسه على السواديّ ويدخله دكان شوّاء، فيصيبان من الطعام هنيئاً ثم يحتال عيسى للهرب، فيدفع السواديّ ثمن الطعام بعد خصومة وجدال مع صاحب الدكان.

ومقامات الهمذاني عامةً تبيّن قيمته الحقيقية في عمله الأدبي، لما فيها من أسلوب قوي متماسك، وروح مرح طروب، ونقد لاذع ، وتهكّم دقيق ناعم، ووصف شامل محيط، وثقافة واسعة ، ويمازج ذلك كلّه مفاجآت طريفة، ونوادر شائقة، وكياسة ظريفة، وقد قصد الهمذاني من ذلك كله إلى غايات اجتماعية وأدبية ولغوية وتعليمية، فضلاً عن الإمتاع والإبداع والطرافة. وقد تناول كثيراً من مشاهد الحياة والمجتمع في عصره بأسلوب قصصي فصوّرها وأبدع في تصويرها، ثم أضفى عليها مسحة من روحه وتفكيره كما في المقامات: البغدادية، والمضيرية، والحلوانية، والشامية، والخمرية، والصيمرية.

 وقد يرجع إلى الماضي ويتخطى مشاهد الحياة الحاضرة، كما في المقامة الفزارية التي تعرض مشاهد من البادية، والمقامة الحمدانية التي تصف مجلساً أدبياً من مجالس سيف الدولة الحمداني.

أما الغاية الأدبية واللغوية فتبدو في حرص الهمذاني على جمع شوارد اللغة وفصيحها وعيون مفرداتها وتراكيبها، وعلى إظهار ما يملك من ثقافة في الأدب والتاريخ والأخبار، والانتفاع بملكته في التهكم والنقد والإضحاك بأسلوب قصصي يثير التشويق، ويحقق المتعة والطرافة. ويبلغ عدد مقامات الهمذاني ثلاثاً وخمسين ويقال إنها في الأصل أربعمئة مقامة. وقد أوجدت أسلوباً جديداً في الكتابة، سلك سبيله كثير من الأدباء في عصره نفسه وفي العصور التي جاءت بعده.

وأبرز من سار على نهجه أبو محمد القاسم بن علي المشهور بالحريري (446- 516 هـ) الذي أعطى فن المقامات شكله النهائي الثابت على الأيام، إلا أنه زاد على الهمذاني عناية بقوة الصياغة وباختيار المفردات اللغوية وحسن انتقائها، وأفرط في الزخرفة والسجع، وجعل المقامات كلها دائرة حول بطل واحد هو أبو زيد السّروجي وراوية واحد؛ هو الحارث بن همّام. وبقيت الغايات الاجتماعية والأدبية واللغوية نصب عيني الحريري على منوال الهمذاني.

فأما البطل أبو زيد السروجي فهو رجل شرير مغامر، يلبس لكل حالة لبوسها، محتال مراوغ، لا يبالي أن يذمّ الدنيا وهو أكثر ما يكون تعلّقاً بها، ويذكر الحساب والحشر وهو هائم بالخمر، وهو فوق ذلك كثير التقلب في نسبه، وموطنه، وهو من الشعراء أو العلماء أو الذين أصابهم الدهر بالفقر بعد الغنى. وأما الراوية الحارث بن همّام فرجل وقور وأديب مطّلع يسعى إلى المعرفة أينما كانت، يجوب البلاد ويبلو الناس، ويشهد المحافل، ويذوق طعم الهناءة والشقاء.

ولا شك أن الحريري قد حاكى الهمذاني في كثير من الأغراض، فضلاً عن أنه عارضه في الطريقة والفن، حتى إن بعض مقامات الحريري شاركت في عنواناتها مقامات الهمذاني نفسه، كالمقامة الدينارية، والحلوانية، وغيرهما. ثم إن مقامات الحريري ذات صنعة ورويّة وتكلّف، حتى بات العنصر القصصي في كثير من الأحيان باهتاً بسبب جور الشكل على المضمون، وطغيان المبنى على المعنى.

وقد جاء لاحقاً أدباء وعلماء كثُر ساروا على نهج الهمذاني والحريري في مقاماتهم، كالزمخشري (ت 538 هـ) وابن الجوزي (ت 597 هـ) وشمس الدين الدمشقي (ت 727هـ) وابن سيد الناس (ت 734هـ) وجلال الدين السيوطي (ت 911هـ) وغيرهم، واختلفت غاياتهم جميعاً ما بين أدبية ولغوية ودينية ووعظية.

استمرت سلسلة التأليف في المقامات حتى نهاية القرن التاسع عشر، إذ أحيا كتّابه هذا الفن، وأشهرهم ناصيف اليازجي (ت 1287هـ) في «مجمع البحرين» وسار في مقاماته هذه التي تبلغ الستين على خطى الحريري في الدقة والإحكام والصنعة، كما أن لشهاب الدين محمود الآلوسي (ت 1270هـ) وعبد الله باشا فكري (ت 1307هـ) عدداً من المقامات التي لم تبلغ مبلغ مقامات اليازجي في الخيال والصنعة والإتقان.

وانتهت المقامة اليوم وعزف عنها الكتّاب والأدباء وكادت تنقرض وتصبح بعضاً من تاريخ الأدب.

 

محمود فاخوري

مراجع للاستزادة:

ـ أنيس المقدسي، تطور الأساليب النثرية (بيروت 1960).

ـ محمد جميل سلطان، فن القصة والمقامة (دمشق 1362هـ/1943).

ـ شوقي ضيف، المقامة (دار المعارف، مصر 1954).

ـ زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع (مصر 1943).


- التصنيف : اللغة العربية والأدب العربي - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 250 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة