عصبة الأمم
عصبه امم
League of Nations - Ligue des nations
عصبة الأمم
عصبة الأمم The League of Nations هي أول منظمة دولية[ر] ذات أهداف عامة شهدها العالم. وإذا كانت الهيئات الدولية التي شهدها القرن التاسع عشر كالاتحاد البريدي العالمي[ر]، والاتحاد الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية[ر]، تعدَّ السلَف للتنظيم الدولي كما يُعرف اليوم فإن من حق عصبة الأمم أن تدعي أبوتها المباشرة له.
من الممكن البحث عن الأصول المباشرة لعصبة الأمم في المشروعات الفردية والحكومية التي بدأت في الظهور متزايدةً في فترة الحرب العالمية الأولى، وأهمها ما رأى النور في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ثم وجدت لها انعكاسات في عدد آخر من البلاد ومنها فرنسا وهولندا وسويسرا والدول الاسكندنافية وإيطاليا وحتى ألمانيا ذاتها؛ فقد ازدهرت حركة بحث إمكانات جديدة في التنظيم الدولي في سنوات القتال، بقيادة جمعيات تألفت من أفراد ذوي مكانة مرموقة في بلادهم مثل أعضاء «عصبة دعم السلام» في أمريكا و«جمعية عصبة الأمم» في بريطانيا. وسرعان ما تجاوب القادة السياسيون مع هذه التوجهات، فقد برز في بريطانيا وفرنسا زعماء وقفوا أنفسهم على الدعوة إلى إقامة منظمة دولية عقب الحرب العالمية الأولى. لكن «ودرو ويلسون» رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك يعدّ بحق أهم هؤلاء القادة على الإطلاق، ولمساعيه الدؤوبة يعود الفضل المباشر في إخراج عصبة الأمم إلى حيّز الوجود، ففي بيانه الذي ألقاه في 2/4/1917 أكدَّ ويلسون أن الهدف القومي لاشتراك بلاده في الحرب هو«السيادة العالمية للحق بتوافق الشعوب الحرة على نحو من شأنه أن يحقق السلام والأمن للأمم كافة ويجعل العالم آمناً». بل إنه بعد ذلك ذهب خطوة أبعد حين التزم في نقاطه الأربع عشرة الشهيرة بإقامة «روابط عامة بين الأمم». وأخذ ويلسون ومستشاره «هاوس» على عاتقهما مهمة إعداد المشروع الأمريكي للمنظمة المرتقبة. وكانا متأثرين إلى حد كبير بأفكار الفيلسوف «إيمانويل كنت» بضرورة إقامتهما على نمط التنظيم الداخلي للدول بمعنى أن تكون المنظمة الدولية ذات اختصاصات ذاتية ونفوذ واسع وسلطة تنفيذية تمكّنها من فرض أحكامها على أعضائها جبراً عند الاقتضاء. ولابد أيضاً من الإشارة إلى كتيب صغير وضعه «جان كريستيان سمطس» أحد دهاقنة السياسة في جنوب إفريقيا وعنوانه «عصبة الأمم: اقتراح عملي»؛ فهو قد يكون من أبرز الأمثلة للمشروعات الحكومية عن التنظيم الدولي قبل عقد مؤتمر السلام في ڤرساي عام 1919.
أما الصياغة الفعلية لعهد العصبة أو صكها أو ميثاقها covenant، كما يسميه الكتّاب العرب فقد جرت في ڤرساي وفي المفاوضات التي تمت لإعلان انتصار الحلفاء وهزيمة ألمانيا وحلفائها. وهناك اختلفت الدول حول طبيعة المنظمة المقترحة وبرزت فكرتان: الفكرة الأوربية أو بالأحرى الفرنسية، وكانت تدعو لتكوين المنظمة على نمط التنظيم السياسي للدولة الاتحادية، ويُلاحظ في هذه الفكرة صدى الآراء التي أطلقها قبل قرون مفكرو القارة الأوربية أمثال «كَنْت وديبوا ودانتي وايراسموس» وسواهم، والفكرة الانغلو ـ سكسونية، وكان يدافع عنها البريطانيون وقد دعت للاكتفاء بإنشاء المنظمة الدولية التي تعتمد في تحقيق أغراضها على تأييد الرأي العام وعلى مالها من نفوذ أدبي ومعنوي، ويتجلى في هذه الفكرة صدى آراء المفكرين الانغلوـ سكسون المبكرين وعلى رأسهم وليم بِنْ وسورس وبنتام.
يُقال في كتب تاريخ العصبة إن ويلسون كان أصلاً من الرأي الأول، ولكنه أمام ضغط حلفائه في باريس من جهة وأعضاء الكونغرس في بلاده من جهة أخرى مال إلى تأييد الفكرة الثانية التي تولت لجنة «هيرست ـ ميلر» صياغتها في مشروع عهد عصبة الأمم The Covenant of the League of Nations الذي تم إقراره في مؤتمر ڤرساي للسلام بتاريخ 28/4/1919 جزءاً من معاهدات الصلح بين الحلفاء وبين المنهزمين وعلى رأسهم ألمانيا.
تألف عهد العصبة من ديباجة أو مقدمة preamble وست وعشرين مادة، وقد ورد ذكر أهدافها في مقدمة العهد، إذ قالت إن العصبة تهدف إلى تنمية التعاون بين الأمم وضمان السلم لها وفق المبادئ الآتية:
أـ عدم اللجوء إلى الحرب.
ب ـ تأسيس العلاقات الدولية على أساس قواعد العدل والشرف.
ج ـ التقييد بقواعد القانون الدولي.
د ـ التعهد باحترام المعاهدات والمواثيق الدولية.
وقد ضمت العصبة ثلاث فئات من الأعضاء:
1ـ الأعضاء الأصليون (أو المؤسسون) وهم ممثلو الدول الحليفة التي وقعت على معاهدة ڤرساي وعددهم 33 عضواً.
2ـ الأعضاء المدعوون، وهم الدول المحايدة أيام الحرب العالمية الأولى التي دعتها جماعة الدول المؤسسة للانضمام، ومنها إسبانيا وسويسرا والدول الاسكندناڤية وبلجيكا وهولندا وعدد من دول أمريكا اللاتينية (13 دولة).
3ـ الأعضاء المنضمون (أو المنتخبون) الذين تقبلهم الجمعية العامة للعصبة بناء على طلب يقدم لها طلب، وتبتُّ فيه بأغلبية الثلثين، وقد انضم على هذا الأساس نحو عشرين دولة.
أما الانسحاب من العضوية فكان ممكناً شريطة إعلام مجلس العصبة بهذه الرغبة قبل سنتين من تنفيذها، وبعد إتمام العضو الراغب في الانسحاب لالتزاماته المالية تجاه المنظمة. وقد انسحبت عشرون دولة من العصبة بين عامي 1919 و1939.
وهناك إلى جانب الانسحاب الطوعي، الانسحاب القسري أو الفصل من العضوية؛ إذ قرر مجلس العصبة وجمعيتها العامة ذلك في حال مخالفة الدولة المعنية أحكام عهد العصبة، وقد فصل الاتحاد السوڤييتي[ر] من العصبة بتاريخ 14/12/1939 أثر اعتدائه على فنلندا.
بلغ عدد أعضاء العصبة حده الأعلى عام 1932حين وصل إلى 60 دولة، وهبط إلى حده الأدنى في عام 1939إذ وصل إلى 44 دولة فقط.
تألفت عصبة الأمم من مجلس، وجمعية عامة وأمانة عامة، وكل هذه شكلت هيئاتها الرئيسة، إضافة إلى عدد من الهيئات المساعدة على النحو الآتي:
ـ المجلس: كان المجلس يضم أعضاء دائمين، هم ممثلو الدول الكبرى وأعضاء غير دائمين وهم منتخبون من الجمعية العامة لفترة محدودة. وفي البداية كان عدد الأعضاء الدائمين خمسة والأعضاء غير الدائمين أربعة. لكن هذا التوازن اختل بالتدريج حتى أصبح عدد الدول غير الدائمة أحد عشر عضواً مقابل ثلاث دول دائمة العضوية في مستهل عام 1939. كان مجلس العصبة يعقد أربع دورات سنوية، ثم أنزلت إلى ثلاث دورات مع نهاية العشرينات، وكان بإمكان المجلس الانعقاد في دورات استثنائية عند الحاجة الماسة.
كان مجلس العصبة أداتها الأكثر نشاطاً والأوسع اختصاصاً ويتخذ قراراته بالإجماع، عدا المسائل الإجرائية التي كان يكتفي فيها بالأغلبية (ولا تحسب أصوات الدول المتنازعة)، أما اختصاصات مجلس العصبة فكانت كما يأتي: مراقبة إدارة الأراضي الموضوعة تحت الانتداب[ر]، مراقبة حماية الأقليات[ر]، مراقبة معاهدات الصلح[ر] بما في ذلك مراقبة إدارة حوض السَّار ومنطقة «دانزنغ» واستقلال النمسا[ر] وتنظيم تسليح ألمانيا[ر].
ـ الجمعية العامة: وكانت تتألف من ممثلين عن جميع الدول الأعضاء، وكانت تعقد دورة سنوية واحدة في شهر أيلول من كل سنة، ولكن كان من حقها أن تجتمع في دورات استثنائية (حدث ذلك في آذار 1926 وآذار 1932 وتشرين الثاني 1934 وأيار 1937). وجلسات الجمعية كجلسات مجلس الأمن علنية، والتصويت فيها مبدئياً بالإجماع (عدا أصوات الدول المتنازعة). أما اختصاصاتها فكان من أهمها: قبول الأعضاء الجدد وانتخاب أعضاء المجلس غير الدائمين وإعادة النظر في المعاهدات وتصديق الموازنة. وقد نص عهد العصبة على عدد من الاختصاصات كان لكل من المجلس والجمعية العامة ممارستها على انفراد وهي: اتخاذ التدابير من أجل الحفاظ على السلام (م3 و4) واستطلاع رأي المحكمة الدائمة للعدل الدولي Permanent Court of International Justice التي أنشئت بموجب (بروتوكول) خاص لتعمل إلى جانب العصبة وليس كهيئة فيها. والواقع أن المجلس كان يحتكر المبادهة في هذين الاختصاصين إلا في حالات محددة كانت الجمعية العامة فيها أسبق منه. كما نص العهد على عدد من الاختصاصات الأخرى كان لابد لممارستها من تعاون مشترك بين المجلس والجمعية العامة وهي: انتخاب محكمة العدل الدولي (م 4 من النظام الأساسي للمحكمة) والتصويت على تعديل الميثاق (العهد) (المادة 26) وزيادة أعضاء المجلس (م4 ف 5) وتسمية الأمين العام (م 6) وفصل أو طرد أحد الأعضاء (م 16 ف 4).
ـ الأمانة العامة: وتتألف من الأمين العام ومساعد واحد وثلاثة نواب، وقد تضخم عدد العاملين في الأمانة العامة ليصل إلى 800 موظف ينتمون إلى خمسين دولة، وقد تولى السير «ايريك دروموند» مهمة أول أمين عام للعصبة بموجب نص خاص في صك إنشائها، وعندما استقال عام 1932 حل محله السيد «افينول». أما اختصاصات الأمانة العامة فكانت تشتمل على تنفيذ مقررات المجلس والجمعية العامة وتهيئة الأعمال الضرورية لعملهما وتهيئة موازنة العصبة. إلى جانب هذه الهيئات الرئيسة الثلاث ضمت العصبة مجموعة من الهيئات المساعدة منها الإدارات الفنية واللجان الاستشارية العامة والمؤقتة واللجان الإدارية أو التنفيذية.
كما قامت إلى جانب العصبة مؤسسات وهيئات دولية متممة لها لكنها مستقلة عنها استقلالاً ذاتياً مثل منظمة العمل الدولية[ر] والمحكمة الدائمة للعدل الدولي التي حل محلها في بنيان الأمم المتحدة[ر] محكمة العدل الدولية (ولكن كواحدة من هيئات الأمم المتحدة الرئيسة) والمعهد الدولي لتنظيم العمل.
عاشت عصبة الأمم حياة مهزوزة نتيجة للتيارات السياسية التي تجاذبتها ولنقاط الضعف التي عانت منها في تركيبها الدستوري والأخطاء التي وقعت فيها في أثناء ممارستها لمهامها الكبرى. واجهت العصبة في حياتها ستين نزاعاً دولياً تفاوتت في الأهمية والخطورة، وقد تمكنت العصبة في حدود إمكاناتها المادية والتنظيمية من أن تخمد خمسة وثلاثين نزاعاً منها بينما تركت الباقي، ولعله الأكثر أهمية ليحله الفرقاء المتنازعون، وبوسائلهم الخاصة.
ويذهب غودسبيد إلى أن العصبة مرت في حياتها بثلاث مراحل:
1ـ مرحلة التكامل، وفيها حاولت العصبة تثبيت أقدامها والبرهنة على قدرتها في التصدي للرياح التي هبت عليها تبتغي تحطيم مكانتها، ونجحت في هذه المرحلة في حل عدد من النزاعات كنزاع السويد ـ فنلندا على جزر آلاند، وبذلت مساع جديرة بالتقدير في عدد آخر من النزاعات، كالنزاع الألباني على الحدود ونزاع ممر كورفو… إلخ.
2ـ مرحلة الاستقرار وقد استمرت بين عامي 1924و1932، وقد سادت في بداياتها روح الثقة بالعصبة نتيجة تمكنها من الوقوف على قدميها في وجه الأعاصير، ونتيجة قيام مجلسها بالتصدي لعدد من المنازعات، كما بدأت نشاطات العصبة في المجالات غير السياسية المختلفة، وتأسست المحكمة الدائمة للعدل الدولي، ولعل من أهم ما حلته العصبة في هذه الفترة النزاع اليوناني البلغاري. كما أسهمت في انقشاع الغيوم المتلبدة في أجواء العلاقات الفرنسية ـ الألمانية، وبلغت العصبة ذروة مجدها بانضمام ألمانيا إليها عام 1929 بوصفها دولة كبرى لها مكانتها داخل العصبة وخارجها. ولكن بعد ثلاث سنوات بدأت الأعاصير تهب في وجه العصبة، منها الأزمة الاقتصادية العالمية وما تلاها من هزات سياسية، ومنها إحياء مبدأ القوميات على أسس ثورية عدوانية، وأهمها جو الشك المتزايد الذي عصف بعلاقات الدول.
3ـ مرحلة الانهيار، وبحلول خريف عام 1931 بدأ الكل يشعر أن العصبة سائرة إلى انهيار، وحدث الغزو الياباني لمنشوريا فما استطاعت العصبة التصرف فيه، وتبعه الغزو الإيطالي للحبشة، فما كان حظ العصبة أحسن حالاً. ثم تجدد الصراع الصيني ـ الياباني عام 1937، وأخيراً ضرب هتلر ضربته الكبرى وأُعلِنَت الحرب العالمية الثانية فانهارت العصبة عملياً. أما رسمياً فلم يعلن انقضاء العصبة إلا في 18/4/1946، أي بعد ولادة هيئة الأمم التي ورثت عنها أملاكها ومشاكلها وخبراتها.
يسجل مؤرخو العصبة بضعة أسباب لإخفاقها منها عدم انضمام جميع الدول الكبرى إليها، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي أخفق ويلسون في إقناع الكونغرس بالموافقة على عهدها ومنها انسحاب عدد من الدول منها كاليابان وألمانيا وإيطاليا وبعض جمهوريات أمريكا اللاتينية وطرد الاتحاد السوڤييتي منها سنة سقوطها، ومن أسباب إخفاقها بُعُدها عن مبادئ العدالة في حلولها، ومنها ولعله من أهمها أن دستورها أو عهدها جاء مندمجاً في نصوص معاهدة ڤرساي، وبذا اختلطت بمعاهدة الصلح التي كانت تذكرة مستمرة للمنتصرين بانتصارهم وللمهزومين بانهزامهم. ومن أسباب إخفاق العصبة أيضاً أخذها بنظام المركزية في نشاطاتها، فلا هي اعتمدت على التنظيمات الإقليمية، ولا على المنظمات المتخصصة، ومن أسباب إخفاقها أيضاً بعض العيوب والثغرات في عهدها، فهو لم يحرم الحرب نهائياً، وكذلك جاء مائعاً في تحديد الصلاحيات والاختصاصات لكل من مجلس العصبة وجمعيتها العامة. ومن أسباب إخفاق العصبة أيضاً ما اتصل بنشاطاتها التي أحاطتها السّرية ولونتها العواطف الوطنية للعاملين فيها. لكن أهم أسباب إخفاق العصبة يكمن في رأي غالبية مؤرخيها في إخفاق الدول التي أنشأتها أو أسهمت في عضويتها في تحمل مسؤولياتها التي تعهدت بالقيام بها بموجب عهدها وسعي هذه الدول باستمرار إلى تسخير العصبة في خدمة أهدافها الوطنية الضيقة على حساب التجربة الرائدة في السعي نحو العالمية، وهي ما قامت العصبة أصلاً من أجله.
لقد انتهت العصبة بكل مالها وما عليها، وأصبحت جزءاً من التاريخ السياسي للعالم المعاصر. لكن الأفكار التي بلورتها والآمال التي شجعتها والوسائل والمؤسسات التي ابتكرتها أو طورتها أصبحت كما يقول «وولترز» جزءاً لا يتجزأ من التفكير السياسي للعالم المتمدن، وسيستمر أثرها باقياً حتى يصل الناس إلى مرحلة يتجاوزون فيها مرحلة تقسيم العالم إلى دول وأمم، وكانت من دون شك مدرسة يفترض أن هيئة الأمم المتحدة التي خلفتها تعلمت منها ما هو مفيد ونافع.
محمد عزيز شكري
الموضوعات ذات الصلة: |
الأمم المتحدة (منظمة ـ) ـ الانتداب (نظام ـ) ـ السلام (معاهدات ـ) ـ القانون الدولي ـ منظمة العمل الدولية.
مراجع للاستزادة: |
ـ محمد عزيز شكري، التنظيم الدولي العالمي بين النظرية والواقع (دار الفكر، دمشق 1973).
ـ بطرس بطرس غالي، التنظيم الدولي (القاهرة 1955م).
- F.P.WALTERS, History of the League of Nations, (London 1952).
- WEBSTER and HERBERT, the League of Nations in Theory and Practice (1933).
- التصنيف : القانون - المجلد : المجلد الثالث عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 203 مشاركة :