اليونان (الأدب في-)
يونان (ادب في)
Greece - Grèce
الأدب
يمثل الأدب اليوناني مجموع المدوَّنات باللغة اليونانية بمختلف محكياتها dialects عبر تاريخ طويل يمتد منذ الألف الأولى قبل الميلاد حتى اليوم. في مراحل البداية كان كتّاب هذا الأدب يونانيين يعيشون في البر اليوناني وجزر بحر إيجه وغربي آسيا الصغرى، وكذلك في مناطق امتداد الحضارة اليونانية إلى صقلية وجنوبي إيطاليا. ومنذ نشوء امبراطورية الإسكندر المقدوني انتشرت اللغة اليونانية في بلدان شرقي البحر المتوسط، وصارت لاحقاً لغة الامبراطورية البيزنطية، ومن ثم فإن كثيراً من الأدباء الذين لم تكن اليونانية لغتهم الأم وجدوا فيها الوسيلة الملائمة للتعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم وهواجسهم، فاغتنت بإبداعاتهم الفكرية وتطورت أساليبهم الفنية المجدِّدة. ولكن حتى ما قبل سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين في عام 1453 كانت منطقة نفوذ اللغة اليونانية وانتشارها آخذة بالانكماش جغرافياً حتى انحصرت اليوم في حدود الجمهورية اليونانية ومقدونيا.
على الرغم من أن ما تبقى من أعمال كاملة وشذراتٍ من تراث الأدب اليوناني القديم الضخم حجماً لا يعادل سوى جزء يسير منه، لكنه بالغ الأهمية، لا لنوعيته الممتازة وحسب، بل بوصفه دليلاً قاطعاً على أن كل النتاج الثقافي الغربي اللاحق كان ومازال يمتح (ينهل) من ذلك البئر الذي لا ينضب. ومن ثم فإن جميع الحضارات المتأثرة بالحضارة الغربية (الأوربية ـ الأمريكية) مدينة على هذا النحو أو ذاك للجذور اليونانية.
يصنف الأدب اليوناني القديم ـ من حيث الأسلوب ـ في مراحل ثلاث: 1ً ـ ما قبل الكلاسية (حتى القرن 6 ق.م)؛ 2ً ـ الكلاسية (القرنان 5 ـ 4 ق.م)؛ 3 ً ـ الهيلينية (من نهاية القرن 4 ـ نهاية القرن 1 ق.م).
1ً ـ ما قبل الكلاسية: أبدع اليونانيون شعرهم قبل أن يأخذوا الأبجدية الفينيقية ويطوِّعوها لأغراضهم اللغوية عامة والأدبية خاصة[ر. اليونان (اللغة في ـ)]. وقد استقوا موضوعات أشعارهم من الأساطير البطولية المستندة أحياناً إلى أحداث تاريخية قديمة تناقلتها الأجيال شفاهةً، فعدلت فيها وأسقطت منها وأضافت إليها، وكذلك من الحكايات الشعبية الكثيرة[ر. الحكاية]؛ وأيضاً من بعض التأملات الدينية ذات الطابع البدائي. لكن الأساطير لم تكن مرتبطة بأي عقيدة دينية محددة، على الرغم من تناولها شخصيات الآلهة المتعددة والمختلفة وشخصيات الأبطال الخالدين والفنانين على حد سواء، مما سمح للشعراء بمعالجة المادة الأسطورية انطلاقاً من وجهات نظرهم الخاصة والمرتبطة بالمراحل الزمنية التي عاشوا فيها وكذلك بمجتمعاتهم، مما أدى إلى وجود صيغات مختلفة حول الموضوع الواحد. وبتقدم الزمن وتطور الفكر نضجت صيغاتهم الجديدة حتى الذروة التي تجلت في إبداع هوميروس[ر] ملحمتي «الإلياذة»[ر] و«الأوديسة»[ر] نحو القرن الثامن ق.م؛ اللتين استعاد فيهما مزيجاً من أحداثٍ تاريخية وأسطورية من العصر الموكيني Mycenaean (القرن 14 ـ 12ق.م). وبما أن عصر تدوين الأدب اليوناني قد بدأ مع ملحمتي هوميروس، فيمكن القول: إنهما قد وضعتا معظم الأعراف الأدبية للنظم الملحمي epic. وفي القرن السابع قبل الميلاد ظهر هسيودوس[ر] بشعره التعليمي، مقدماً في ملحمة «الأعمال والأيام» صورة تفصيلية مستمدة من واقع حياة الفلاحين في زمنه وليس من الأجواء الأسطورية الغابرة. أما في ملحمته الثانية «أنساب الآلهة» فقد سطر الشاعر لأول مرة في تاريخ الأدب اليوناني وبصورة مترابطة جليةِ الأجزاء تصوراته عن نشوء الكون والأرض والآلهة ووظائفها وصفاتها وعلاقاتها فيما بينها وخلق البشر وعلاقتهم بالآلهة، بمعنى أنه قد صاغ الأسس الناظمة للمعتقدات الدينية التي آمن بها اليونانيون. وفي حالتي هوميروس وهسيودوس كان الوزن الشعري المعتمد في النظم الملحمي ـ السردي هو البحر السداسي hexameter الذي يمنح الشاعر احتمالات متعددة للسرد الوصفي والإخباري والتعليمي والابتهالي، وكذلك للمناجاة الداخلية (حوار الشخصية مع ذاتها) أو الخارجية (حوار الشاعر مع الآلهة، ولاسيما منها ربات الفنون عامة muse والشعر خاصة.
وفي المرحلة نفسها ظهر الشعر الغنائي lyric بصنوفه المتعددة في جزر بحر إيجه وفي يونيا Ionia على الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى. وكان أول الشعراء الغنائيين المتميزين أرخيلوخُس Archilochos من جزيرة باروس Paros في القرن 7 ق.م، ولاسيما بقصيدة الإليغيا elegy ـ على البحر الدَكتلي dactylos (بيت سداسي يليه بيت خماسي) ـ ذات الموضوعات المختلفة؛ كما شُهِر أرخيلوخُس بالشعر الذاتي واحتل مكانة رفيعة في عصره، وصارت قصائده نماذج تحتذى على صعيد الأوزان والموضوعات والأسلوب اللغوي، ولم يبق من أعماله للأسف سوى شذرات. وبعد مدة قصيرة في مطلع القرن السادس ظهر في جزيرة لِسْبوس Lesbos كل من الشاعرة سافو[ر] والشاعر ألكايوس[ر] اللذين ابتكر كل منهما وزنه الشعري الخاص به في إطار الشعر الغنائي، ثم نقلهما هوراتيوس (هوراس)[ر] إلى الشعر اللاتيني. وقد نظما قصائدهما بالمحكية الأيولية Aeolic، في حين كتب أناكريون[ر] قصائده الغنائية بالمحكية اليونية Ionian مثل أستاذه أرخيلوخُس، لكنه نظمها بوزن جديد عُرف باسمه لاحقاً. وفي نطاق المحكية الدورية Dorian برز في إسبارطة الشاعر ألكمان Alkman ممثلاً لقصائد غناء الجوقة choral، مثلما برز في المرحلة نفسها سْتِسيخوروس Stesichorus، ولكن في صقلية، وفي المجال نفسه.
تعود جذور الشكلين الفنيين المسرحيين المأساة (تراجيديا) والملهاة (كوميديا)[ر. المسرحية (الأنواع ـ)] إلى تراث غناء الجوقة في منطقة المحكية الدورية نحو 600 ق.م، وصارا في صيغتيهما الدراميتين البدائيتين جزءاً أساسياً في احتفالات ديونيسوس[ر] في أعياده السنوية؛ ثم صار للمأساة مهرجان سنوي تشرف عليه دولة المدينة polis لما له من أهمية في تكوين وعي الشعب بطبقاته كافة، يتسابق فيه كتاب المأساة والساتورا[ر. المسرحية (الأنواع ـ)] لإقناع الجمهور ولجنة التحكيم بجودة الرباعيات tetralogy التي قدموها. كان ذلك عام 534 ق.م، وبعد نحو سبعين سنة تمّ الاعتراف بالملهاة رسمياً فصارت جزءاً لايتجزأ من عروض المهرجانات، توجه سهام نقدها الاجتماعي والسياسي إلى كل ما يتعارض مع نظام الديمقراطية الأثينية.
مع أفول القرن السابع قبل الميلاد، حينما صارت القراءة والكتابة أكثر انتشاراً مما سبق؛ ظهرت الكتابات النثرية في صياغات أحكام القوانين، لكن أول أديب ناثر معروف هو فيريكيدِس Pherekydes (نحو 550 ق.م) من سيروس Syros الذي كتب عن بداية الكون والخلق. أما أهم ناثر في تلك المرحلة فهو لاشك هيكاتايوس Hekataios من جزيرة ميلِتوس Miletos الذي عالج في كتاباته الماضي الأسطوري تاريخياً، كما قدم عرضاً جغرافياً لحوض البحر المتوسط والبلدان المحيطة به. ويُرجَّح أن شخصية الكاتب أيسوبوس (إيسوب) Aisopos شبه الأسطورية قد ظهرت في منتصف القرن 6 ق.م، وإليها تنسب الحكايات الأخلاقية الوعظية بلسان الحيوان؛ التي انتشرت في جميع أنحاء العالم بصيغات مختلفة.
2ً ـ المرحلة الكلاسية: في القرن الخامس قبل الميلاد بلغت المأساة ذروتها في أعمال كل من أسخيلوس[ر] وسوفوكليس[ر] وأوربيديس[ر] الذين كان تأثيرهم بالغاً في عصرهم وفي تاريخ المسرح الغربي كله. فإذا كان أسخيلوس ذا توجه أخلاقي ديني حفاظاً على منجزات الديمقراطية الأثينية، ولاسيما في «ثلاثية أورِسْت» Oresteia على صعيد القوانين التي سنها البشر لتنظيم حياتهم الاجتماعية، وفي بنية درامية بسيطة؛ فإن مآسي سوفوكليس ـ ذات البنية الدرامية المعقدة والشخصيات الأكثر طبيعية في سلوكها من حيث المزاج البشري ـ تحمل توجهاً عقلانياً يعتمد على البصيرة الإنسانية من دون المساس بحقوق الآلهة على البشر. أما أوربيديس فقد كان شكاكاً تجاه صورة الآلهة المسلَّم بها من دون نقاش عقلاني ينير الطريق أمام الإنسان لإدراك مصيره وطبيعة علاقته بالآلهة. وبإضافته الممثل الثالث في أدوار متعددة اغتنت الأحداث والحوارات في مآسيه، وتعقدت بنية الحبكة باتجاه الحل الثنائي المخرج، وذلك بنسيج خيوط الأحداث نحو حل بشري حتمي يتركه مفتوحاً ليستنتجه عقل المشاهد بنفسه، ثم قام بإقحام الآلهة لتنطق بالحل الذي صار بدهياً، فيرضي بهذا الأعراف الدينية والمجتمعية السائدة. لقد نشط ثلاثتهم في عصر بِريكلِس[ر. بركليس] الذهبي في أوج الحكم الديمقراطي.
وعلى صعيد الملهاة القديمة التي بلغت ذروتها في أعمال أريستوفانس[ر. أريستوفان] فإن سماتها العربيدية تدل على أصولها الديونيسية أكثر مما هي الحال في المأساة. وقد استخدم أريستوفانس جميع وسائل الإضحاك والسخرية لغوياً وحركياً لينتقد مثالب عصر كليون Kleon حاكم أثينا والحلف الأتيكي بعد بريكلس، والذي أعلن الحرب على إسبارطة، مما سبب كوارث بشرية واقتصادية هائلة لأثينا وأدى إلى تغيرات اجتماعية أخلاقية مدمرة كانت أحد الموضوعات المركزية في مسرحيات أريستوفانس. وفي أعماله الأخيرة تراجع دور الجوقة درامياً، مما يدل على تحول بنيوي باتجاه الملهاة الوسطى التي لم يتبق أي أثر من نصوصها. تبع ذلك في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد بدايات الملهاة الجديدة التي رافقت انحلال ممالك المدن اليونانية وبداية الامبراطورية المقدونية أو المرحلة الهيلينية[ر].
كان ميناندروس[ر] أبرز كتاب «الكوميديا» الجديدة، وقد تجلى في أعماله التحول الخطير من الاهتمام بالشؤون العامة وقضايا الدولة والمجتمع إلى الأمور الفردية الخاصة، مما يدل على اضمحلال الدولة بصفتها الديمقراطية التي تلهم الجميع للإسهام في تفعيل شؤونها، والتحول إلى تمركز الحكم في أيدي فرد مطلق السلطات، بمعزل عن فعاليات المجتمع الأخرى، بل بتسخيرها لمصلحته الخاصة. وهذا تماماً هو ما يفسر تبنيه واقتباس أعماله في مرحلة روما الامبراطورية من قبل بلاوتوس[ر. بلوتس] وتِرنتْيوس[ر. تيرنس]. بيد أن تأثيره لم يتوقف عندهما، بل امتد إلى عصر النهضة ومنه إلى العصر الحاضر.
وفي أثناء القرن الخامس أيضاً ظهر الشاعر بينداروس[ر. بيندار] أبلغ شعراء نشيد الجوقة وقصيدة الأْود[ر] الذي نأى في نظمه عن التيار اليوني ـ الأتيكي السائد مقدماً رؤيته الخاصة عن العالم، بلغةِ قيم الأرستقراطية التي كانت في طور الأفول. وفي هذه المرحلة وصل النثر إلى ذروته بعد أن مهد له الفيلسوف أناكساغوراس[ر] والسفسطائي بروتاغوراس[ر] والمؤرخ هيرودوتس[ر]، وقد كتب ثلاثتهم بالمحكية اليونية، في حين كتب المؤرخان زينوفون[ر] وثوكيديدس[ر] بالمحكية الأتيكية.
تعد كتابات أفلاطون[ر] وأرسطو[ر] في القرن الرابع قبل الميلاد أهم ما أنتجته الثقافة اليونانية في سياق الفكر الغربي عامة وعلى جميع الصعد، كما امتد تأثيرهما إلى معظم الحضارات الأخرى. وكان العصر أيضاً عصر البلاغة والخطابة من حيث الاهتمام بالتعبير عن الحقيقة والمثل الأخلاقية والوطنية، وهذه أمور من شأن الفيلسوف والمحامي والسياسي. ومن أعلام هذا الميدان منذ القرن الخامس قبل الميلاد: كوراكس Korax السيراكوزي وإيسوكراتس Isokrates الأثيني ومعاصره ديموسثينس[ر] الذي يعد أكثرهم أهمية بصفته رجل دولة وخطيباً مفوهاً.
3ً ـ المرحلة الهيلينية: في أثناء هذه المرحلة حتى نشوء الامبراطورية البيزنطية تخلخل العالم الإغريقي نتيجة الانقلاب في نظام الحكم من ممالك المدن ذات التمثيل الشعبي الديمقراطي إلى هذا الحد أو ذاك؛ إلى طبيعة الحكم الامبراطوري حيث تتمركز السلطة في يد قائد الجيش وحاشيته، مما ولَّد غربة وهوة بين نظام الحكم والمواطن الفرد الذي انكفأ مجبراً إلى حياته الخاصة مبعَداً عن الشأن العام وقضايا المجتمع، مثلما ابتعد نظام الحكم عن الاهتمام بالأدب والفنون ورعايتها. لكن الامبراطورية جعلت من اليونانية لغة عالمية بمحكية عامة Koine[ر. اليونان (اللغة في ـ)] متداولة في جميع مجالات الحياة، ولاسيما على صعيد الكتابة. وكان أحد أهم منجزات المرحلة تأسيس مكتبة الإسكندرية ذات المخزون الهائل من المخطوطات في جميع ميادين المعرفة، والتي قامت بدور عظيم في جمع الأعمال القديمة وحفظها. وغالباً ما كان مديرها أديباً أو فيلسوفاً أو عالماً يقوم في الوقت نفسه بالتدريس فيها. وقد ساعدت هذه المكتبة ـ المتحف على تطوير تيارات وفروع جديدة في الأدب والفن والمعرفة عامة.
ويذكر من أعلام هذه المرحلة، ولاسيما في القرن الثالث قبل الميلاد ثيوقريطُس[ر] مبدع الشعر الرعوي pastoral والعالم الشاعر كَليماخوس[ر] والشاعر الملحمي أبولونيوس الرودُسي[ر] وأراتوس Aratos الذي أحيا الشعر التعليمي في «الظواهر» Phainomena عن الكواكب والنجوم وهيرونداس[ر] مبتكر المشاهد القصيرة بالوزن اليامي الأعرج. وبعد منتصف القرن الثالث تقلصت الحركة الشعرية في حين بدأت بوادر ظهور الحركة العلمية في الإسكندرية وبِرغامون Pergamon في آسيا الصغرى، ومع ذلك يجدر بالذكر كل من يوفوريون Euphorion من خالكيس Chalkis وبارثِنيوس Parthenios أستاذ ڤرجيليوس[ر].
في الفترة المتأخرة من المرحلة الهيلينية برز ـ على صعيد النقد ـ لونغينوس[ر] بكتاب «الأسلوب السامي»، وديونيسيوس الهَليكارناسي Dionysios of Halikarnassos صاحب الدراسات الأسلوبية في فن الخطابة، وذات المكانة المرموقة تاريخياً. والجدير بالذكر هنا هو أن اللغة اليونانية العامة Koine كانت أساس ما عُرف بالترجمة السبعينية Septuagint للتوارة أو «العهد القديم»، وبها دُوِّنت أناجيل «العهد الجديد»، فقامت بذلك بدور كبير على صعيد تعرف الديانة اليهودية وانتشار الديانة المسيحية.
الأدب اليوناني بعد ظهور المسيحية
بين أفول المرحلة الهيلينية وقيام القسطنطينية عاصمة شرقية للامبراطورية الرومانية مرَّ الأدب اليوناني بتطورات لافتة، ولاسيما أن ثقافة القسطنطينية وما تبعها جغرافياً كانت يونانية وليست لاتينية. ففي القرن الأول الميلادي قدم بلوتارخُس[ر] اليوناني في كتابه «سير متوازية» نموذجاً تثقيفياً موجهاً إلى الإنسان العادي في عصره عن إمكانات التقارب ما بين حضارتين مختلفتين؛ اليونانية واللاتينية، في حين يتجلى في كتابه الآخر «الأخلاق» تراجع التأثير الفكري اليوناني لمصلحة اللاتيني. وعلى الرغم من نجاح حركة إحياء المحكية الأتيكية Attic في نهاية القرن الأول كان لأسلوب السوري لقيانوس[ر] أثر لغوي وأدبي جلي في الثقافة اليونانية لاحقاً.
وفي تلك المرحلة برزت الفلسفة الرواقية[ر] اليونانية التي تجلى تأثيرها مثلاً في »تأملات: امبراطور روما ماركوس أوريليوس[ر]. لكن أبرز فلاسفة المرحلة كان لاشك أفلوطين[ر] الإسكندري أهم ممثلي الأفلاطونية الجديدة، والذي نشر تعاليمه انطلاقاً من مدرسته في روما أيضاً.
يمكن القول: إن آخر إبداعات الثقافة اليونانية هي الرواية الغرامية الإيروسية erotic romanceذات الجذور القديمة من حيث الموضوع في أنواع أدبية مختلفة. وأهم تجلياتها في هذه المرحلة هي روايات الإسكندر التي سردت قصة الإسكندر المقدوني في صيغات متباينة تعظيمية تارة وتشويهية تارة أخرى، باتت جميعها على كل حال مادة قراءة دسمة في القرون الوسطى، ولكن بعيداً عن النزعة الإباحية التي عُرفت في «حكايات ميلِتوس» Milesiako المنسوبة إلى أريستيدس Aristides (نحو 100 ق.م). وهناك أيضاً رواية «نينوس» Ninus مجهولة المؤلف، روى فيها كاتبها مغامرات مؤسس مدينة نينوى، وكذلك رواية «دافنيس وكلووِّه» Daphnis and Chloe للكاتب لونغوس Longus (بين القرنين 2 ـ 3م) ذات الطابع الريفي (الرعوي). أما صياغات ديكتيس كرِتنِسس Diktys Kretensis ودارِس فريغيوس Dares Phrygios عن مقدمات حروب طروادة ومساراتها وعقابيلها؛ فقد فقدت كلها سوى شذرات قليلة.
المرحلة البيزنطية
عانت الثقافة البيزنطية على مدى ألف عام تقريباً ازدواجية خطيرة بين الفصحى والعامية، بين لغة آباء الكنيسة والمثقفين التي تتمسك بالأسلوب الأدبي القديم كتابة ونطقاً، وبين لغة عامة الشعب الذي لم يعد يفهم حتى لغة الإنجيل. والأدب الذي أنتجته الثقافة البيزنطية هو في مجمله أدب القرون الوسطى الذي يشمل جميع من استخدموا اليونانية في التعبير الأدبي، سواء أكان داخل حدود بيزنطة أم خارجها، سواء أكان مسيحياً أم يتبع عقيدة أخرى. ومن معالم هذه المرحلة اندثار المسرح والشعر الغنائي، في حين حوفظ على البلاغة الكلاسية طوال المرحلة. ومع ذلك ظهرت منذ القرن 12م ملامح أدب جديد في المستويين اللغويين، أولهما يستعيد أمجاد ماض غابر مقلداً لغته ومُثُله، وثانيهما منفتح على الحاضر وحياة الحب والمغامرات والخيال باللغة العامية. وكلاهما أسهم بأسلوبه في إغناء الأدب الكنسي وتطويره. وكان من نتائج الحملات الصليبية المتتالية القادمة من الغرب إضعاف بيزنطة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً حتى سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين عام 1453.
المرحلة ما بعد البيزنطية
واجه الأدب اليوناني بعد سقوط القسطنطينية وبعد احتلال أجزاء من اليونان وجزرها قضيتين مهمتين رئيسيتين: أولاهما: إيجاد حل لأزمة الازدواجية اللغوية كي يتوحد اليونانيون لغوياً، وثانيتهما: الإسهام في حرب التحرير وقد استغرق الأمر سنوات طويلة. ففي جزيرة قبرص ثم كريت ظهرت بعض الأعمال الشعرية والنثرية، ولكن بمحكية كل منهما. ومع ذلك بقيت كريت مركز إشعاع أدبي حتى قيام الدولة اليونانية الحديثة، في حين تراجع دور قبرص. وفي المناطق اليونانية المحتلة من قبل العثمانيين صارت الأغنية الشعبية التعبير الأدبي الوحيد تقريباً. وبتأثير الفكر الأوربي ظهرت في القرن 18م حركة ثقافية عملت على رفع المستوى التعليمي والثقافي تمهيداً لحرب الاستقلال، فأثارت مسألة اللغة. وكان أبرز أعلام الحركة الباحث في الأدب الكلاسي أدَمانتيوس كورائيس Adamántios Koraïs الذي طالب بتعميم اليونانية العامة بقواعد كلاسية.
وفي عام 1834 أُعلنت أثينا عاصمة للأجزاء المحررة، وسرعان ما صارت مركزاً ثقافياً يستقطب الكتاب إليها من جميع أطراف العالم اليوناني، ولاسيما من إصطنبول، مثل الأخوين الشاعرين ألكسندروس وبنايوتيس سوتْسُوس Aléxandros & Panayótis Soútsos وألكسندروس ريزوس رنغاڤيس Aléxandros Rízos Rangavís الذي أبدع في جميع الأجناس الأدبية، والروائيين باڤلوس كاليغاس Pávlos Kalligás ودِميتريوس ڤيكيلاس Dimítrios Vikélas. أما الجزر اليونية فقد أبرزت الشاعر ديونيسيوس سولوموس[ر] ذا التأثير الكبير في الحركة الشعرية في القرن 19م الذي ظهرت عند منقلبه المدرسة الأثينية الجديدة التي طالب مبدعوها تأكيد لغة الشعب وفولكلوره بدلاً من استخدام اللغة الديوانية الحوشية. وكان منهم كوستيس بِلاماس Kostís Palamás الذي هيمن على الساحة الأدبية عقوداً عدة بمقالاته وأشعاره محاولاً الوصل بين التقاليد الأسطورية والتقاليد المسيحية البيزنطية والفولكلور اليوناني الحديث؛ لخلق لُحمةٍ يونانية ثقافية جديدة. أما معاصره أنغِلوس سيكِليانوس Angelos Sikelianós فقد تابع هذا التوجه بشعر متين ذي طبيعة صوفية.
وعلى صعيد النثر الجديد بلغة العامة كان للقصص القصيرة التي أبدعها ألكسندروس پاپاديامنديس. A.Papadimandis أثر كبير في دعم توجهات المدرسة الأثينية الجديدة، إضافة إلى روايات أندرياس كركاڤيتساس Andréas Karkavítsas ومسرحيات غريغوريوس زينوبولُس Grigorios Xenópoulos ومقالات كونستانتينوس ثيوتوكيس[ر] Konstantínos Theotókisالنقدية. لكن الشاعر الأبرز في الثقافة اليونانية في النصف الأول من القرن العشرين هو لاشك كونستنتينوس كفاڤيس[ر] ابن الإسكندرية البار.
مرحلة ما بعد 1922
على أثر هزيمة اليونان في حربها التوسعية (1920 ـ 1922) ضد تركيا، اتخذ الأدب اليوناني الحديث منحىً جديداً لافتاً، ظهرت بوادره في آخر قصائد كوستاس كَريوتاكيس Kóstas Kariotákis التي عبر فيها بسخرية مُرة عن الهوة السحيقة ما بين المُثل القديمة والواقع الجديد الذي دفعه إلى الانتحار احتجاجاً على الروح الانهزامية التي نجمت عن نهاية الحرب.
ومع جيل الثلاثينيات من الكتّاب الجدد بدأت تتجلى ردود الأفعال على انهزامية عام 1922 في تعبير أدبي متنوع في جميع الأجناس الأدبية. فعلى صعيد الشعر وبتأثير التيارات الشعرية الأوربية الحديثة أنعش الجيل الجديد الأجواء الشعرية المثقلة بالقِدم بتبني أساليب جديدة تتمرد على الأوزان الكلاسية من دون أن تهجرها كلياً. وفي ميدان الرواية توجه كتابها نحو قضايا الحاضر وروح الإنسان المعاصر بدلاً من الغرق في ماض تليد ما. وفي كلا المنحيين عمل الأدباء على الربط بين الأصالة اليونانية والحداثة الأوربية. ومن شعراء هذا التيار نال كل من غيورغيوس سفريس[ر] وأوديسيوس إليتيس[ر] جائزة نوبل للأدب. أما يانيس ريتسوس[ر] الذي تُرجم كثير من شعره إلى العربية فقد احتفى بالمناضلين الوطنيين في الحرب العالمية الثانية، مثلما أحيا روح الأساطير القديمة في حواراته ومناجاته الشعرية، إضافة إلى قصائده الساخرة التي صور فيها مشاهد من الحياة اليومية. وفي المنحى الثاني برز الروائيون ستراتيس ميريڤيليس Strátis Myrivílis ويورغاس ثيوتوكاس Yórgas Theotakás وكوسماس بوليتيس Kosmás Polítis. أما تجربة اليونان في الحرب العالمية الثانية فقد تجلت في سيل من روايات كتابٍ تلوا جيل الثلاثينيات. لكن أهم روائيي المرحلة قاطبة هو الأديب الكريتي نيكوس كزانتزاكيس[ر] الذي تُرجمت معظم أعماله إلى العربية عدا ملحمته الشعرية «الأوديسة» Odísia ت(1938). ومن كريت أيضاً ظهر باندِليس بريڤيلاكيس Pandelis Prevelákis الذي قدم روايات فلسفية مهمة عن موضوعة مواجهة الموت وجدوى الحياة.
نبيـل الحفـار
- التصنيف : الآداب اللاتينية - المجلد : المجلد الثاني والعشرون - رقم الصفحة ضمن المجلد : 629 مشاركة :