التمرد
تمرد
Revolt - Révolte
التمرُّد
التمرُّد Revolt نمط من أنماط السلوك الاجتماعي الموجَّه إلى أشكال السلطة المختلفة ومظاهر النفوذ، للخروج عليها وإعادة بنيتها وسمات مظاهرها بالشكل الذي يخدم الفاعلين، ويحقِّق أهدافهم ويعيد إليهم قدراً من السلطة والنفوذ. وهو يختلف عن الثورة في شرعيته الاجتماعية ومقدار تقبل الناس له وانخراطهم فيه، وتبدأ كل ثورة اجتماعية بعملية تمرُّد تقوم به جماعة من الأفراد ثم تستقطب مجموعات أخرى من الناس حتى تعم أغلب الفاعلين الاجتماعيين وتنظم تمردهم. وغالباً ما يفقد التمرُّد شرعيته الاجتماعية مع ضعف المتمردين وكبح السلطة لهم بالقوة والعنف تارة وبالسياسة والمداورة تارة أخرى حتى يضعف مؤيِّدوهم، وتتاح للسلطة إمكانية السيطرة عليهم وجعل سلوكهم خروجاً على الجماعة وتهديداً لوحدتها، مما يفقد المتمردين قدراً كبيراً من شرعيتهم الاجتماعية، وقدراً كبيراً أيضاً من اعتراف الناس بهم.
وتتنوع مظاهر التمرُّد بتنوع مظاهر السلطة وأشكالها، وهو ليس وليد عصر ما، إنّما وليد الإحساس بالظلم الذي ينطوي على القهر والانصياع للنظم أو القوانين أو الأعراف أو أيِّ أشكال من الروابط التي تحكم الإنسان وتحول دون ممارسته لتطلعاته ورغباته، ولهذا يأخذ التمرُّد شكلاً سياسياً عندما يقوم على رفض مجموعة من الناس لسلطة جماعة أخرى، أو شكلاً اجتماعياً عندما يتمرد بعضهم على العادات والتقاليد والقيم. ويأخذ شكلاً فكرياً عندما يراد منه النيل من الأفكار والآراء السائدة في عصر من العصور.
وينطوي مفهوم التمرُّد على معنى تحدِّي الأوضاع السائدة ورفضها، وهو يحتوي في كثير من الأحيان على مضمون إنساني أخلاقي، يُراد منه تحقيق العدالة والخير والمساواة بين أبناء البشر، إثر انتشار مظاهر الفساد والظلم والبغي الذي يلحق ببعضهم من جراء سيطرة مجموعة من الناس على مقدرات الأمم والتحكم بخيراتها وثرواتها، حتى صار التمرُّد منذ بدايات القرن العشرين سمة بارزة من سمات ذلك العصر، وظهر كرد فعل على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي عاشته أوربة طيلة القرن التاسع عشر، وكرد فعل على الشعارات الكبيرة التي دعا إليها المجتمع الرأسمالي والمتمثلة في الحق والخير والعدالة والمساواة، في الوقت الذي كان هذا المجتمع يمارس أبرز مظاهر الظلم والاستئثار والتحكم، مما دفع بمفكري القرن التاسع عشر ومفكري القرن العشرين إلى التمرد على القيم التي يخفي رافعوها من ورائها ممارستهم الفظة تجاه الشعوب، وهذا ما دفع رومان رولان Roman Rollan وبيغي Peguy وفاليري Valery وجيدGide إلى التمرُّد على كل القيم الإنسانية المطلقة وعدّها شعارات في مهب الريح لانعدام التوافق بين طبيعتها النظرية المثالية وتطبيقاتها في مجال الحياة الواقعية للبشر، وشجَّعت الحربان العالميتان الأخيرتان وما رافقهما من تدميرٍ لقيم الخير والعدالة والأخلاق والمساواة هذا الاتجاه في التمرُّد، وخاصة إثر ما حدث في هيروشيما وناغازاكي، واستخدام الأسلحة النووية وغيرها.
ودفعت مظاهر الظلم وانتشارها في تلك المدة إلى جعل التمرُّد اتجاهاً فكرياً وأيديولوجياً يدافع عنه عدد لا بأس به من المفكرين والباحثين، فالتمرُّد كما يراه «كامي» يتصف بالإيجابية العميقة، لأنه يكشف عن عناصر كامنة في نفس الإنسان لا بد من الدفاع عنها والحفاظ عليها، وهو يرفض فكرة أن التمرُّد ظاهرة سلبية لأنه لا يؤدي إلى شيء، بل الأمر على العكس من ذلك، ذلك أن التمرُّد هو تحد للأوضاع السائدة وتحدٍّ للأسباب المؤدية إليها، وهو ينطوي على مضمون إنساني أخلاقي، وهو يدعو إلى سياسة التخلي عن العنف إيماناً وتقديراً للحياة الإنسانية واحتراماً لها، ولهذا فالتمرُّد ليس تطرفاً بقدر ما فيه ميل نحو الاعتدال، لأنه ردُّ فعل على التطرُّف، ورد فعل على التمادي في ظلم الآخرين. ويأتي فردياً عندما يقدم عليه شخص واحد في بيئة محددة، كتمرد أحد الأبناء على ولي أمره، أو تمرُّد واحد من الطلبة على مدرسه، أو تمرُّد العامل على صاحب العمل، ويكون جماعياً يأتي نتيجة تضافر جهود مجموعة من الأفراد الذين يشتركون بعضهم مع بعض بهموم وقضايا اجتماعية، كتضافر جهود الطلبة في المدرسة أو العمال في المعمل. ومع ذلك لا يمكن أن تأتي كل مظاهر التمرُّد ردَّ فعل على ما هو سلبي بالضرورة، فقد يقوم جزء كبير منها على فهم خاطئ لمجريات الأحداث ومجريات الأحوال، فيندفع أناس للتمرد على أوضاع يتصورون فيها أنهم يعانون من الظلم والاستئثار والتحكم بأحوالهم، ويجدون في بيئتهم من يشجعهم على التمرد تأكيداً لذواتهم، وإظهاراً لشخصياتهم. وما إن يندفعون إلى التمرُّد حتى يجدوا أن الظروف المحيطة بهم أكثر قوة وأشد بأساً، فتوصف حركتهم بالتمرد واللاشرعية، ممّا يفقدهم قدراً كبيراً من مصداقيتهم في بيئاتهم الاجتماعية. وتظهر الحالات التي ينطبق عليها هذا الوصف عندما يكون التمرُّد بمنأى عن الروح الجماعية والغايات الإنسانية، كأن يثور الفرد، ويغضب من أجل تحقيق ذاته بذاته، فيقع ضحية عناده داخل بيئته الاجتماعية. وغالباً ما يصير معادياً للقوانين والأعراف والنظم التي يقرُّها المجتمع بصرف النظر عن سلامتها من الناحية الإنسانية أو فسادها. فالمطالبة بالحرية في مجتمع الرِّق ما هي إلا شكل من أشكال التمرُّد غير المشروع الذي يؤدي صاحبه إلى مزيد من الانعزال، والتبعية للآخرين.
وعلى طرف آخر يرتبط مفهوم التمرد بالحريّة[ر]، إذ ينصب اهتمام المتمرد بالتحرر من سيطرة التقاليد ورفض القيم السائدة لتأكيد فرديته في وجه القوى والمؤسسات التي تسعى إلى قولبته. المعاناة التي يشعر بها المتمرد تحمل في ذاتها الإهانة لكرامة الإنسان وحريته، ولهذا ينطلق التمرد من المفهوم الفردي، والإحساس بالوعي والحرية. ويأخذ شكلاً جماعياً ووطنياً حين تشعر أمَّةٌ من الأمم بامتهان كرامتها، إذ يصير التمرُّد على مظاهر الظلم واجباً وطنياً ودينياً تدعو إليه الأعراف والتقاليد الوطنية والقومية والشرائع الدينية.
توفيق داود
الموضوعات ذات الصلة: |
الثورة ـ الحرية.
مراجع للاستزادة: |
ـ روبير دو لوبيه، كامو والتمرد، ترجمة سهيل إدريس (بيروت).
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد السادس - رقم الصفحة ضمن المجلد : 861 مشاركة :