المخابرات ( مصلحة-)
مخابرات ( مصلحه)
Intelligence agency - Agence de renseignements
المخابرات (مصلحة ـ)
المخابرات أو الاستخبارات Intelligence هي الأجهزة المتخصصة أساساً بجمع المعلومات وتقويمها واستنباط الاستنتاجات منها، ورفعها إلى القيادات السياسية والعسكرية المعنية للاستفادة منها - مع غيرها من المعلومات العلمية والإدارية - في اتخاذ القرارات وانتهاج السياسة المناسبة للبلد وإدارة شؤونه الخارجية والداخلية في زمني السلم والحرب. ويقصد بالمخابرات كذلك المجهود الذي يبذل للحصول على تلك المعلومات وجمعها في كلٍّ واحد بحيث تقدم صورة واضحة ما أمكن عن الموقف، واحتمالات ما يمكن أن يحدث، ورسم الخطوط العريضة للمستقبل.
وكلمة مخابرات مشتقة من الاستخبار، بمعنى الاستعلام عن الخبر وأخذ اليقين عنه، وليس من المفروض أن يكون الاستخبار سرياً، أو أن يتم بأسلوب خفي، بل هو حاجة يومية ضرورية ومشروعة لكل من ينشئ عملاً أو يعقد العزم على فعل شيء. كما أنه ضروري لكل تنظيم أو مؤسسة أو حكومة ليساعدها على اتخاذ قراراتها والتصرف على أسس سليمة. لكن الغايات والنوايا التي تكمن وراء العمليات الاستخبارية، والأساليب التي تتبعها الجهات المعنية أو أفرادها تختلف من بلد إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، باختلاف مصالحها وتضاربها؛ الأمر الذي قد يدفع كلاً منها إلى اللجوء إلى الأساليب الملتوية والسرية، وإلى العنف أحياناً، للحصول على المعلومات.
وبديهي أن الحصول على المعلومات الضرورية لا يتأتى بالمصادفة، وإن كانت محتملة، ولا ينجح بالارتجال، بل هو نتيجة مجهود كبير يبذله عدد غير قليل من المتخصصين، ولا يعطي ثماره إلا بتطبيق الأسس العلمية الصحيحة، ورسم الخطوط الدقيقة بالاستناد إلى الأسباب والوقائع والنتائج، وهو العمل الأساسي لأجهزة المخابرات. في حين تسعى الأطراف المختلفة إلى إخفاء المعلومات الحيوية التي تخصها وكتمانها، وتوظف لهذه الغاية أجهزة متخصصة هي المخابرات المضادة أو مكافحة التجسس لتحول دون تسرب أسرارها إلى جهات غير مرغوب فيها.
لمحة تاريخية
الاستخبارات نشاط قديم مارسه الإنسان منذ تكون المجتمعات. ولعل أول ممارسيه هم العرافون والسحرة الذين كانوا يزعمون القدرة على التنبؤ بالأمور، وهم في الحقيقة أصحاب فراسة، وماهرون في تحري الأمور خفية، واستنباط الاستنتاجات من أقل المعلومات التي يتوصلون إليها بأنفسهم أو بوساطة مساعديهم. وفي طيات التاريخ كثير من الشواهد على عمل رجال المخابرات والجواسيس والعيون والرصاد، والمنجزات التي تحققت على أيديهم. وقد وعى الرسول الكريمr أهمية الاستخبارات واستعان بها في نشر الدعوة وفي حرب المشركين. ففي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة مثلاً، وجه الرسولr سَرية من اثني عشر رجلاً يقودها عبد الله بن جحش الأسدي، وسلمه رسالة وأمره ألا يفضها إلا بعد يومين من مسيره، فإذا فتحها وفهم ما فيها مضى في تنفيذها. وكان مضمون الرسالة: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا أخبارها». وكانت للنبيr والخلفاء من بعده، وكذلك قادة الجند والولاة عيون وأرصاد يخبرونهم عن كل مهم، ولم يغفل ولاة الأمور في الدول الإسلامية المتتابعة عن هذا الأمر فوضعوا له القواعد، واستخدموا التعمية (الشيفرة) وفك المعمى وحمام الزاجل في نقل المعلومات وإبلاغها في الوقت المناسب، وكان صاحب البريد ورئيس العسس هما المعنيين مباشرة بهذا النشاط.
يقول المفكر الصيني القديم سون تزو Sun Tzu قرن الرابع ق.م ـ مؤلف كتاب فن الحرب ـ إن هناك خمسة أنواع من العيون (العملاء السريين)، ويقابلهم في العصر الحاضر: العميل المحلي القادر على الوصول إلى أسرار البلد، والعميل المزدوج الذي يعمل لمصلحة المخابرات المعادية والصديقة معاً، والعميل المخادع أو المضلل الذي يقدم للعدو معلومات مضللة، والعميل المستهلَك الذي بفقده أو خسارته يتمكن عملاء آخرون من تنفيذ مهامهم، والعميل المدسوس الذي يتوصل إلى الاندماج في القيادات العليا المعادية. ويؤكد سون تزو في كتابه أهمية التنظيم الجيد للاستخبارات والعناية بالاستخبارات المضادة (مكافحة التجسس) والحرب النفسية.
في العصور القديمة والوسطى مُورست أعمال المخابرات على نطاق واسع في مختلف أرجاء العالم القديم، ولكنها لم تكن متقنة التنظيم، وكانت تتم بجهود أفراد أو جماعات قادرة على التجسس والتخفي وجمع المعلومات. ومع أنه لم يكن من الممكن في تلك العصور إخفاء تحركات قوات كبيرة أو مجموعات سفن، فقد كانت المواصلات بطيئة بحيث يصعب تحقيق التوازن بين الوقت اللازم للعميل لجمع المعلومات وإبلاغها المعنيين، والزمن المستهلك لحشد قوات ضخمة وتحقيق المفاجأة الاستراتيجية.
وفي القرن الخامس عشر الميلادي بدأت المدن - الجمهوريات الإيطالية (البندقية وبيزا وجنوة) بتأسيس سفارات لها في العواصم الأجنبية، وتبعتها بقية الدول الأوربية. وقد استغل البنادقة هذه السفارات في عمليات استخباراتية، واستخدموا التعمية (الشيفرة) والرموز لإيصال المعلومات. وفي عصر القوميات وتنامي الجيوش النظامية والعلاقات الدبلوماسية بين الدول ولدت تنظيمات متخصصة بالاستخبارات ووضعت لها أسس عملية. فعرفت إنكلترا في عهد إليزابت الأولى (1558ـ1603) تنظيماً حكومياً فعالاً احترف مهنة التجسس، وزرع عملاءه في كثير من الدول الأجنبية، وزودهم بالوسائل والأدوات التي تساعدهم على فك رموز الشيفرة، والخوض في تنظيم المؤامرات والمكايد السياسية.
وجاء بعد ذلك الكاردينال ريشيليو (1585ـ1642) في فرنسا، وأوليفر كرومويل (1599ـ 1658) في إنكلترا ليرسخا قواعد المخابرات في بلديهما، ومنها قنوات الاتصال السرية والتسلل إلى دوائر اللاجئين السياسيين واغتيال أعداء الدولة. ولكن الحدود الفاصلة بين المخابرات المتخصصة بالأمن الخارجي وتنظيمات الأمن الداخلي (المخابرات المضادة) لم تتبلور إلا في القرن الثامن عشر حين بدأ ولاء الشعب يتحول إلى الدولة بدلاً من الأسر الحاكمة والزعماء الدينيين، وتركز اهتمام الدوائر الحاكمة في عصر الاستعمار على فهم أفكار الشعوب الأجنبية وتقاليدها، فتغيرت طبيعة الدبلوماسية والمتطلبات المرجوة من المخابرات. وقد أدخل فريديريك الكبير ملك بروسيا (1740ـ1786) ومن بعده المستشار الألماني أوتو فون بسمارك[ر] تنظيمات جديدة على أجهزة المخابرات وأساليب عملها، ووحّدها في وكالة مخابرات عسكرية واحدة، كانت أول تنظيم تجسسي على مستوى ضخم، وعيناً للبلاد على العالم الخارجي.
المخابرات في العصر الحديث
تزايد احتياج الحكومات الأوربية في مطلع القرن العشرين تزايداً مطرداً إلى المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية لتتمكن من الصمود في وجه المنافسة السياسية القوية والمحافظة على إمبراطورياتها في الخارج، ولتبقى على اطلاع دائم على ما يطرأ من تقدم في المجالات العسكرية والتقنية والمواصلات. وهكذا انتشرت مكاتب المخابرات في أرجاء القارة وبقية العالم، ونجم عن ذلك رد فعل تمخض عن ازدياد نشاط تنظيمات مكافحة التجسس والمخابرات المضادة وتضخم تنظيماتها. ومع ذلك فقد كان اندلاع الحرب العالمية الأولى دليلاًَ على إخفاق أجهزة المخابرات وعدم فاعليتها. وخاصة في فرنسا التي أخفقت مخابراتها في تقدير القوة العسكرية الألمانية، وفي ألمانيا التي فقد قادتها العسكريون الثقة في فاعلية مخابراتهم ولم يعتمدوا عليها في حساباتهم الاستراتيجية، وفي روسيا التي حققت مخابراتها نجاحاً أولياً في النمسا ثم تقاعست فلم تقم بعمل له شأن. ومع أن البريطانيين نجحوا في اختراق أنظمة الشيفرة الألمانية واستغلوا المعلومات المتوافرة لديهم من أجل تسريع دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب فإن المعلومات التي وفرتها أجهزة مخابراتهم كانت مضللة، ولم تقدر القوة العسكرية الألمانية حق قدرها. أما الولايات المتحدة الأمريكية فلم يكن لديها آنئذٍ تنظيم استخباراتي مركزي، وكانت مهام استطلاع الجيش في بداية الحرب من صلاحيات قسم صغير في الأركان العامة يضم ضابطين وكاتبين اثنين من صف الضباط.
تمخضت دروس المخابرات المستفادة من الحرب الأولى مع التقدم الذي أنجز في مجال التقانة ولاسيما الإلكترونيات والطيران عن ظهور تنظيمات مخابراتية جديدة ترافقت مع المطامع التوسعية لدول أوربا والولايات المتحدة. ومع نشوب الحرب العالمية الثانية اتسع نشاط المخابرات وتضخمت أجهزتها، وأنشئ لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1942 مكتب الخدمات الاستراتيجية للمخابرات والعمليات السرية. وقد فرضت الحرب الجوية وتطور التقانة العسكرية التوسع في عمليات المخابرات الدفاعية والهجومية وزيادة عمليات الاستطلاع الجوي، كما أتاح تطور البث الإذاعي[ر] إمكانات تطوير الحرب النفسية التي تطلبت دراسات مستفيضة من المخابرات. ومع ذلك ظلت توقعات المخابرات وتنبؤاتها موضع شك لدى القيادات، بل إن كثيراً من الأحداث الكبرى والحاسمة في الحرب كانت شاهداً على إخفاق المخابرات في نواحٍ كثيرة، كالغزو الألماني المفاجئ للاتحاد السوفييتي والهجوم الياباني على بيرل هاربور، ومعركة بلجيكا بعد الإنزال في النورمندي، وعمليات القصف الجوي التي نفذها الحلفاء على ألمانيا وغير ذلك.
وفي الحرب الباردة أصبحت المخابرات مهنة من أهم مهن العالم وأضخمها، يعمل فيها مئات الآلاف من المحترفين ضمن نسيج متآلف حيناً ومتنافر حيناً آخر من وكالات المخابرات ومكاتبها وفروعها في الدول الكبرى. وبرزت في الولايات المتحدة الأمريكية بدءاً من عام 1947 وكالة المخابرات المركزية (سي آي إي CIA) بين التنظيمات المهمة الأخرى في الدول الكبرى كلجنة أمن الدولة (ك ج ب KGB) في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) والإنتلجنس سرفيس السري (إس آي إس SIS) والخدمة السرية البريطانية (ب س س BSS) في المملكة المتحدة، وخدمة التوثيق الخارجية ومكافحة التجسس (SDECE) في فرنسا، ووزارة أمن الدولة (MSS) في الصين، ويضاف إليها أيضاً المجمع المركزي للمخابرات والأمن الإسرائيلي (الموساد Mossad). وبدءاً من العقد السابع من القرن العشرين كان هناك في كل دولة كبيرة أو صغيرة نسبياً خدمة مخابرات خاصة بها.
طرائق عمل المخابرات
تنطلق إدارة المخابرات الجيدة من تحديد ما تريد أن تعرفه بدقة، ومن دون ذلك سيكون جمع المعلومات عشوائياً، ولن يحصل صناع القرار على المعطيات التي تمكنهم من التصرف على النحو الأفضل. ويجب أن تُقوَّم المعلومات تقويماً صحيحاً، وأن تصاغ على النحو الذي يمكّن من الاستفادة منها، وقد تدّخر أحياناً ليستفاد منها في المستقبل. والتقويم ضروريٌ لأن كثيراً من المصادر مشكوك في مصداقيته. وهناك قواعد أساسية تقاس بها درجة مصداقية المصدر ودقة المعلومات التي صدرت عنه، وعلى هذا الأساس تصنف المعلومات بأنها موثوقة أو مؤكدة أو قريبة من الصحة أو محتملة أو غير صحيحة على الأرجح.
يلجأ بعض أجهزة المخابرات إلى جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحصيل المعلومات وتحليلها والتحقق من صحتها، بما فيها الرشوة والإفساد والإغواء والابتزاز والسرقة واقتحام المواقع السرية والمحظورة حتى الاغتيال والاختطاف والتخريب. لكن المعلومات المستقاة والمستخلصة من مصادر مكشوفة قد تزيد على أربعة أخماس ما تحصل عليه أجهزة المخابرات عموماً، ويتوقف ذلك على نظرة الدولة إلى نوعية الأسرار التي تعتمدها وتحاول إخفاءها. ولا تحتل الطرائق السرية للحصول على المعلومات إلا حيزاً صغيراً من المحصلة الإجمالية، وإن كانت هي الأساس الذي تبنى عليه قصص التجسس والنشاط السري.
ومع أنه لا يمكن أبداً الاستغناء عن العميل ـ الجاسوس التقليدي ـ فإن بعض الدارسين يرون أن الآلة قد حلت محله، ومنذ أواخر القرن العشرين أصبح الاعتماد الأساسي لأجهزة المخابرات الكبرى على الرصد البصري والتنصت الإلكتروني والراديوي بالوسائل التقنية عن طريق السواتل[ر] ومراكز التنصت السرية، وكاميرات التصوير البعيدة المدى، وأدوات السبر والتحسس والكشف والتنصت المختلفة. ويمكن بهذه الوسائل التقنية الرؤية في الظلام والتنصت من مسافات بعيدة والتقاط الصور الدقيقة من ارتفاع مئات الكيلومترات. وقد تطورت تقانات الاستطلاع الجوي تطوراً هائلاً منذ أربعينات القرن الماضي عندما استعملت الولايات المتحدة بالونات مجهزة بكاميرات خاصة تسوقها الرياح عبر أراضي الاتحاد السوڤييتي لتصوير المنشآت العسكرية والصناعية. وتستطيع السواتل والطائرات بعيدة المدى والأجهزة الطائرة المسيرة اليوم التحليق فوق مناطق شاسعة ليلاً نهاراً بلا انقطاع وتصويرها بدقة عالية جداً، ويستطيع الخبراء استنباط المعلومات المهمة منها، كما تستطيع أجهزة المسح الإلكترونية المزروعة في السفن ومراكز التنصت في السفارات والقواعد العسكرية والسواتل جمع المعلومات عن الاتصالات الراديوية والنشاط البحري والجوي لأي بلد في العالم. ويوفر استخدام الحواسيب إمكانات تحليل فيض المعطيات التي يتم الحصول عليها من مصادر مختلفة، وغربلة ذلك الكم الهائل من المعلومات ومقارنتها واستخلاص المعطيات المفيدة منها وتصنيفها وحفظها لحين الحاجة، حيث تستطيع تقانة الحواسيب استرجاع أي معلومة بالغاً ما بلغ صغرها من بين ذلك المخزون الهائل ومقارنتها بمعطيات محددة في لحظات ، كاسترجاع صورة مشبوه عند مركز حدودي مثلاً من بين آلاف الصور المخزنة في ذاكرة الحاسوب.
تنظيم المخابرات
من المعلوم أن أجهزة المخابرات في الزمن الراهن وخاصة في الدول الكبرى قد تضاعف حجمها ونشاطها إلى أكبر مما هو متوقع وضروري، حتى إن بعض الدول عانت وتعاني السيطرة على مخابراتها والحد من نشاطها ونفوذها. وتصر هذه الأجهزة ـ سواء كانت في دول ديمقراطية أو غير ديمقراطية ـ على أن تكون تنظيماتها وعملياتها والمعلومات التي تجمعها مكتومة وسرية لا عن الجمهور عامة فحسب، بل حتى عن أغلب الرسميين في الأجهزة الحكومية. والحاجة إلى السرية يجعل موضوع الإشراف على أجهزة المخابرات وكبح جماحها مسألة بالغة الصعوبة. ويشهد التاريخ على المكايد السياسية والمؤامرات التي مارستها الأجهزة السرية في مختلف بلاد العالم. وقد فرض التطور التقني في القرن الحادي والعشرين تزايد سلطة أجهزة المخابرات واستقلاليتها، وتسعى السلطات التشريعية والتنفيذية في كل الدول إلى وضع قيود فعالة لضبط مناشط أجهزتها والسيطرة عليها كي لا تصبح أسيرة لها.
هناك نوعان عامان من المخابرات أحدهما يعنى بجمع المعلومات عن البلدان الأجنبية وأعداء الدولة وتقويمها ويسمى الأمن الخارجي، والثاني حماية الدولة والمحافظة على أمنها من المخربين والجواسيس والعملاء ومكافحتهم. ويختص كل منهما بوظائف معينة، وله تنظيمه وأجهزته وتبعيته، ويعطى كل منهما أسماء مختلفة، وقد تتداخل صلاحياتهما ومهماتهما وحتى أجهزتهما. ويمكن أن يكون هناك نوع ثالث مستقل هو الأمن العسكري المعروف باسم المخابرات العسكرية و«الاستطلاع». ونماذج المخابرات النشطة كثيرة ولكل منها خصائصها ومجال عملها، وفيما يلي وصف مختصر لأجهزة المخابرات في خمس دول كبرى هي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي (سابقاً) والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، وكذلك المخابرات الإسرائيلية، يمكن أن يعد كل منها نموذجاً لما هي عليه تنظيمات المخابرات في العالم.
ـ الولايات المتحدة الأمريكية: تمخضت خبرة مكتب الخدمات الاستراتيجية بعد الحرب العالمية الثانية عن الرغبة في إيجاد تنظيم مركزي موحد يحل محل الأجهزة المتفرقة التابعة للجيش والأسطول ووزارة الخارجية، وإلحاقه بهذه الأخيرة باستثناء ما يتصل بمهمات الاستخبارات التقنية العسكرية، مع السماح لبقية الأطراف بالاحتفاظ بفروع مخابرات خاصة بها. وكانت النتيجة تشكيل وكالة المخابرات المركزية Cetnral Intelligence Agency (CIA)، ووكالة مخابرات الدفاع Defense Intelligence Agency (DIA)، وإدارات مخابرات أركانات الجيش والأسطول والطيران، ومخابرات وزارة الخارجية، ووكالة الأمن القومي National Security Agency (NSA)، وإدارة مخابرات وحدة الطاقة النووية، ومكتب التحقيقات الفدرالي Federal Bureau of Investigation (FBI). وكل هذه التنظيمات تعمل تحت إشراف مجلس الأمن القومي National Security Council (NSC) برئاسة رئيس الجمهورية. وقد نص قانون الأمن القومي الصادر عام 1947 على خمس وظائف أساسية لوكالة المخابرات المركزية. ويفهم من تفسير تلك الوظائف إطلاق يد الوكالة في أعمال التدخل والتجسس السياسية والاقتصادية، والحرب النفسية والعمليات شبه العسكرية في البلاد الأخرى. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001 وتمرير قانون أمن الوطن Homeland Security Act في السنة التالية أصبحت الوكالة متكاملة مع إدارة أمن الوطن، وقد يكلف موظفوها بالعمل في وحدات مكتب التحقيقات الفدرالي والعكس صحيح. ويقدر عدد العاملين بوكالة سي آي إي بدوام كامل في الولايات المتحدة اليوم بنحو 20000 موظف، يضاف إليهم بضعة آلاف في الخارج. تتألف الوكالة من أربع إدارات رئيسية Directorates مسؤولة عن التجسس والعمليات والعلوم والتقانة, ويحتل المدير العام للوكالة مركز مستشار الرئيس لشؤون المخابرات، ويعد الأول بين المتساوين المسؤولين عن أجهزة المخابرات الأخرى. وقد ازداد نشاط الوكالة في القضايا العسكرية - حتى على المستوى التكتيكي- بعد حرب الخليج وفي البلقان وبعد غزو أفغانستان والعراق.
أما مكتب التحقيقات الفدرالي فمهمته الأساسية مكافحة الاستخبارات والتجسس في داخل البلاد، ويتبع رئيسه النائب العام الفدرالي من وزارة العدل، ويرأس معاون مدير المكتب قسم الأمن القومي National Security Division وهو قسم سري لا يعرف تنظيمه ولا ميزانيته. وتعد وكالة الأمن القومي أضخم أجهزة المخابرات في الولايات المتحدة وأكثرها نفقات، ووظيفتها الأساسية الاستخبارات السلكية واللاسلكية والتجسس الإلكتروني وفك التشفير والرموز وتحليلها في أنحاء العالم، ويرأسها ضابط من رتبة عالية، وتتمتع بشبه استقلال مع تبعيتها لوزارة الدفاع، ولديها شبكة عالمية من الحواسيب العالية القدرة وأجهزة الكشف واعتراض الاتصالات والتنصت.
وأما وكالة مخابرات الدفاع فقد تأسست عام 1961 وتعرف بين أجهزة المخابرات بالحروف INR، وهي المزود الرئيسي لوزارة الدفاع بالمعلومات الاستخباراتية العسكرية، وتنسق بين إدارات المخابرات والاستطلاع في القوات المسلحة وهي مسؤولة عن تعيين الملحقين العسكريين وتنسيق نشاطهم في الدول الأجنبية.
- روسيا والاتحاد السوفييتي (سابقاً): كانت لجنة أمن الدولة (ك ج ب) Kometet Gosudarstvennoy Besopastnosty (KGB) هي المسؤولة عن أمن الاتحاد السوڤييتي قبل تفككه، وتقابل السي آي إي والإف بي آي الأمريكيتين معاً، إضافة إلى الخدمة السرية Secret Service المسؤولة عن أمن الشخصيات الرئاسية وأسرهم. وكان البلاشفة سنة 1917 قد نظموا إدارة للبوليس السري عرفت باسم «تشيكا» Cheka وأعيد تنظيمها سنة 1922 لتصبح إدارة الدولة للشؤون السياسية Gosudarstvennoe Politicheskoe Upravlenie (GPU) ثم أصبح اسمها عام 1934 مفوضية الشعب للشؤون الداخلية NKVD. وفي أثناء الحرب العالمية أدخلت تعديلات كثيرة على نشاط المفوضية وتنظيمها لتصبح وزارة أمن الدولة MGB، وفي عام 1954 أنشئت لجنة أمن الدولة لتنسق أعمال جميع أجهزة المخابرات في الاتحاد السوڤييتي وتمتعت بصلاحيات واسعة ونفوذ كبير. وإلى جانب «ك ج ب» هناك مكتب المخابرات الرئيسي المعروف بالرمز GRU، وإدارة المخابرات الرئيسية في الأركان العامة. وبعد تفكك الاتحاد السوڤييتي في التسعينات من القرن العشرين أصبحت مهام ك ج ب من مسؤولية الخدمة السرية الفدرالية Federal Security Service (FSB) في روسيا الاتحادية.
- المملكة المتحدة: تأسست المخابرات البريطانية منذ عهد الملكة إليزابت الأولى، وقد اقتدت بها على مر السنين أكثر تنظيمات المخابرات في العالم. وعلى الرغم من محافظتها الشديدة على درجة كبيرة من السرية من حيث التنظيم والتنفيذ فقد تسلل إليها كثير من العملاء المزدوجين. تتألف المخابرات البريطانية من وكالتين رئيسيتين هما: خدمة المخابرات السرية (الإنتلجنس سرفيس) Secret Intelligence Service (SIS) المعروفة برمزها «M16 م 16» والخدمة السرية البريطانية British Security Service (BSS) التي يرمز لها «M15 م 15».
تعد «م 16» تنظيماً مدنياً يوازي سي آي إي من حيث المهام والمسؤوليات، ولكن قوامها أصغر بكثير من هذه الأخيرة، وهناك تكتم شديد حول شخصية رئيسها. أما «م 15» فتكافئ إف بي آي تقريباً ومهمتها الرئيسية مكافحة التجسس والتخريب في البلاد، وتختلف عنها بأنها تمارس عمليات المخابرات المضادة فيما وراء البحار أيضاً، ولكنها لا تقوم بالاعتقالات بل تترك أمرها للاسكُتلَنديارد Scotland Yard. وهناك تنظيمات أخرى للمخابرات في المملكة المتحدة مثل خدمة مخابرات الدفاع Defence Intelligence Service التابعة لوزارة الدفاع، وخدمة مخابرات الاتصالات المختصة بالاستطلاع الإلكتروني ومخابرات الاتصالات. تشرف على جميع وكالات الاستخبارات البريطانية وتوجه سياستها وتقوّم عملها لجنة المخابرات المشتركة Joint Intelligence Committee على غرار مجلس الأمن القومي الأمريكي. ويرأسها دائما معاون وزير الخارجية للشؤون الأجنبية في مجلس الوزراء.
- فرنسا: تتألف منظومة المخابرات ومكافحة التجسس الفرنسية الحالية من مزيج من وحدات تمتد أصولها بين عهدي نابليون بونابرت وقوات فرنسا الحرة في الحرب العالمية الثانية بقيادة الجنرال شارل ديغول. وكانت خدمة المخابرات الفرنسية بين عامي 1946- 1981 تحمل اسم «خدمة التوثيق الخارجية ومكافحة التجسس» Service de documentation extérieure et de contre- espionnage (SDECE) ثم حلت محلها المديرية العامة للأمن الخارجي Direction générale de la sécurité extérieure (DGSE)، ومع أن بنيتها تبدلت فقد ظلت تقوم بوظائف سابقتها كالمخابرات الخارجية ومكافحة التجسس خارج فرنسا والتدخل السياسي الخفي ماوراء البحار. وهناك وكالة أخرى للمخابرات الفرنسية تسمى المديرية الثانية لأركان الدفاع الوطني التي تقوم بمهام المخابرات العسكرية وتعد وريثة المكتب الثاني Deuxième Bureau الفرنسي القديم الذائع الصيت. يضاف إلى ذلك مديرية الأمن الإقليمي Direction de la sécurité du territoire ثالث أهم أجهزة المخابرات الفرنسية، وهي مسؤولة عن الأمن الداخلي بإشراف وزارة الداخلية، وتماثل في عملها مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي.
- الصين: تتولى شؤونَ المخابرات في الصين وزارةُ أمن الدولة Ministry of State Security (MSS) وهي تماثل «ك ج ب» في تنظيمها وعملها، وتمارس المخابرات على الدول الأجنبية والمخابرات المضادة والتجسس العلمي والتقني، ويعمل فيها ضباط تحت غطاء دبلوماسي ومدنيون من رجال الأعمال والعلماء، ونشاطها فاعل في كل المجالات. يضاف إليها إدارة المخابرات العسكرية التابعة للأركان العامة التي يتبع لها الملحقون العسكريون وضباط مخابرات تحت غطاء أكاديمي ورجال أعمال.
- إسرائيل: تملك إسرائيل منذ تأسيسها جهاز مخابرات ومخابرات مضادة، ومن خصائصها أن ما يعرف عنها أقل بكثير مما هو معروف عن الأجهزة الأخرى، وهي تتألف من عدة تنظيمات مستقلة أو شبه مستقلة، وعلى رأسها المجمع المركزي للمخابرات والأمن المعروف باسم «الموساد» The Central Institute for Intelligence and Security (Mossad) ومهمته التجسس والنشاط السياسي السري والعمليات شبه العسكرية بما فيها اغتيال المناضلين والناشطين السياسيين الفلسطينيين وغيرهم، ويتبع رئيس الوزراء مباشرة. وإلى جانب الموساد هناك جهاز الخدمات السرية العامة «شين بيت» Shin Bet ومهمته مكافحة التجسس والمخابرات المضادة الداخلية مع التركيز على عمليات التخريب والفدائيين وغيرها من الشؤون الأمنية ذات الطبيعة السياسية. تتألف «شين بيت» من ثلاثة أجنحة هي: الشؤون العربية، والشؤون غير العربية، والأمن الوقائي (حماية السفارات الإسرائيلية والبنى التحتية العسكرية والخطوط الجوية الإسرائيلية)، وقد اشتهرت شين بيت بتعاملها العنيف مع المناضلين الفلسطينيين وقضايا التعذيب والاغتيال التي تمارسها. و هناك أيضاً جهاز المخابرات التابع لجيش الدفاع ويسمى «أمان» ويزاحم الموساد وينافسها في نشاطه. يضاف إلى ذلك مكتب ليكيم للعلاقات العلمية Lekem Bureau of Scientific Relations وهو تنظيم مخابراتي صغير وسري للغاية يجند الجواسيس والعملاء في البلدان الغربية، وقد افتضح أمره بعد اعتقال جوناثان بولارد عميل المخابرات البحرية الأمريكي الذي باع إسرائيل وثائق سرية للغاية.
محمد وليد الجلاد
مراجع للاستزادة: |
ـ مجموعة من الباحثين، امبراطورية البيت الأبيض، سي. آي. إي، ترجمة محمد الدنيا (دار طلاس، دمشق 1986).
ـ بوريس سفيتوف ورفاقه، وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والإرهاب الدولي، ترجمة هيثم حجازي (دار طلاس، دمشق 1986).
ـ لا ديسلاف فاراغو، أسرار الجاسوسية، ترجمة ممدوح الجلبي (إدارة الشؤون العامة والتوجيه المعنوي، دمشق 1979).
- JOHN ALTMAN, The Watchmen (Weekly 2004).
- KEVIN J.ANDERSON & L.RON HUBBARD, Ai! Pedrito!: When Intelligence Goes Wrong (Bridge Publications 1998).
- التصنيف : الصناعة - المجلد : المجلد الثامن عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 151 مشاركة :