هند (تاريخ قديم)
India - Inde

الهند (التاريخ القديم ـ)

 

جاء اسم الهند في العربية من اللفظة الهندية سندهو (وتعني النهر) التي أطلقت على نهر إيندوس Indus (أي السند)، والتي حورها الفرس إلى كلمة هندو وأطلقوها على شمالي الهند بصيغة هندوستان، ومنها اشتقت أيضاً تسمية الهند باللغات الأجنبية (india).

شبه القارة الهندية هي موطن إحدى أقدم الحضارات في العالم وأكثرها تميزاً وتأثيراً، وقد اشتهرت على مدى الأيام بالحكمة والزهد والروحانية وخصب الخيال وعمق التفكير، ولكن لا يعرف عن نشأة هذه الحضارة وإنجازاتها الكبيرة في القديم إلا النزر اليسير من خلال الشواهد والتنقيبات الأثرية التي تبقى المصدر الأول لمعرفتها، إضافة إلى ما خلفته من أشعار وملاحم وأساطير ومعتقدات.

للهند تاريخ عريق مغرق في القدم، غير أنه معقد ومتداخل، إذ لم تعرف البلاد الوحدة في تاريخها القديم فهناك تاريخ للشمال بدوله المختلفة المتصارعة وأحداثه الكبيرة ، وتاريخ للجنوب اتسم بالرتابة والمحافظة على التقاليد الموروثة.

يقسم تاريخ الهند القديم إلى حقبتين كبيرتين هما عصور ما قبل التاريخ التي امتدت آلاف السنين، والعصور التاريخية التي بدأت متأخرة قياساً إلى مواطن الحضارات الأخرى في وادي النيل وبلاد الرافدين والشام.

ـ عصور ما قبل التاريخ:

عرفت شبه القارة الهندية مختلف مراحل العصور الحجرية القديمة الباليوليتية والميزوليتية والنيوليتية وكانت من المناطق المفضلة لسكنى الإنسان منذ أقدم العصور. وقد وجدت أدوات مختلفة تنتمي إلى العصور الحجرية الباكرة في عدد من المواقع، وخاصة في مدراس وغوجرات Gujarat ووسط الهند. كما وجدت أدوات حجرية من العصر الميزوليتي في عدة مواقع في جنوبي الهند وغربيها ووسطها، وعثر كذلك على مجموعات قيمة من الفؤوس والأدوات المصقولة من العصر النيوليتي.

سكن الإنسان الكهوف والملاجئ الصخرية في أجزاء مختلفة من الهند وترك رسوماً متنوعة لرجال ونساء ومناظر صيد. ويعتقد أن سكان الهند الأوائل ينتمون عموماً إلى شعوب موندا الأسترو ـ آسيوية Australoids الذين كانوا يعيشون في مجموعات قبلية تميزت بظاهرة الأمومة وتعدد الأزواج. ولاتزال توجد مجموعات لغوية عديدة قائمة اليوم تنتمي اثنياً ولغوياً إلى أولئك السكان الأوائل، وقد دفعهم الدرافيديون والآريون إلى المناطق الجبلية والغابات والأدغال.

ـ حضارة وادي السند Indus Valley Civilisation:

هي بلا شك أقدم حضارات الهند وأعرقها وكان اكتشافها عام 1922 من أهم الأحداث الأثرية في القرن العشرين، وهي تعرف أيضاً باسم هارابّا Harappa باسم أشهر مواقعها في البنجاب وقد ارتبطت بالزراعة وظهور المدن وعصر البرونز. ويبدو أن التطور الحضاري بدأ في منطقة دلتا نهر السند ثم انتقل تدريجياً إلى الشمال الشرقي.

وتتمثل أبرز إنجازات هذه الحضارة في فن البناء وتخطيط المدن. كانت المدن الكبرى وعلى رأسها هارابا وموهنجو دارو Mohenjo Daro تتألف من قلعة على مرتفع تقوم حوله مساكن الأهلين كانت القلعة مركزاً لمعظم المباني العامة الكبرى. ففي قلعة موهنجو دارو مثلاً هناك الحمام الكبير المبني بالآجر ومخازن الحبوب، أما المدينة السفلى فتضم المباني السكنية المبنية من الطوب مع شوارع متقاطعة ومنازل صغيرة وكبيرة. ودلت أعمال التنقيب على مستوى رفيع من الفن المعماري ووجود نظام للصرف الصحي من أرقى ما عُرف في العصور القديمة.

وتشير الآثار الباقية إلى حضارة مادية راقية ومتنوعة .وكان الصناع على درجة عالية من الكفاءة، وقد عثر على كثير من الأدوات الدقيقة المصنوعة من النحاس والبرونز، كما برعوا في صنع الفخار بأنماط مختلفة واستعملوا عجلة الخزاف، وثمة عدد كبير من التماثيل المصنوعة من الغضار المشوي (التِرّاكوتا Terrakotta). كما عثر على آلاف الأختام التي احتوت على كتابات قصيرة بخط تصويري لم تفك رموزه بعد. وكانت طرق النقل البرية والنهرية منظمة تنظيماً جيداً.

ومن المؤكد أن مدن السند كان لها علاقات تجارية قوية مع بلاد الرافدين، وتذكر الوثائق التجارية الرافدية العائدة للعصر الأكادي قوائم بأسماء بضائع من ملوخا Meluhha، وهو الاسم الأكادي القديم لمنطقة وادي السند.

كما تبين وجود جاليات من التجار الهنود في بعض المدن الرافدية، وعثر على أختام هندية في مدينة أور وغيرها. وقد أدت دلمون (جزيرة البحرين) دور الوسيط التجاري بين ملوخا وبلاد الرافدين.

ازدهرت حضارة وادي السند على مدى خمسة أو ستة قرون (نحو 2300-1750ق.م) ثم تلاشت عقب فترة قصيرة من الانحطاط. ويبدو اليوم أن مدن السند خضعت أولاً لسيطرة العناصر الدرافيدية وتابعت حضارتها قبل أن تتعرض المنطقة كلها لاجتياح القبائل الآرية.

ـ الغزو الآري:

كانت نهاية حضارة وادي السند في القرن الثامن عشر قبل الميلاد على أيدي الآريين، الذين دخلوا الهند من شمالها الغربي عبر ممر خيبر الشهير قادمين من آسيا الوسطى. ويعود أصل التسمية إلى الكلمة السنسكريتية Arya التي تعني النبلاء. تمكنت القبائل الآرية بعد معارك عنيفة وطويلة الأمد من إخضاع السكان المحليين وطردهم نحو الجنوب أو استعبادهم الداسا Dasa بعد تدمير حضارتهم، وكان الآريون يكونون طبقة السادة ويختلفون عن السكان الأصليين بديانتهم وعاداتهم وجذورهم الاجتماعية ولون بشرتهم، وكذلك في نطاق اللغة حصل انقسام سياسي - مازال مستمراً حتى اليوم - بين اللغات الآرية في الشمال والدرافيدية في الجنوب.

وهكذا انقسمت حضارة الهند إلى مسارين متوازيين يتميزان بسيطرة النفوذ الآري في الشمال وبقاء حضارة الهند التقليدية في الجنوب.

كانت القبائل الآرية تجهل القراءة والكتابة عندما ظهرت على مسرح التاريخ أول مرة، ومع ذلك تركت ملاحم شعرية وقصائد بطولية تصور حياتها وأوضاعها الاجتماعية.

كون أولئك الغزاة ثلاث طبقات سيدة تتمثل في الكهنة (براهما) والمحاربين (كاشاتريا) وعامة الشعب (ڤايسيا)، أما الشعب المحكوم من سكان البلاد الأصليين فكونوا الطبقة السفلى المستعبدة (شودرا). وهكذا وضع الآريون حجر الأساس لنظام الطوائف والطبقات المعروف في الهند، يدفعهم إلى ذلك الخوف من الذوبان في بوتقة السكان الأصليين، الذين كانوا يفوقونهم بكثير، الأمر الذي يفقدهم امتيازاتهم بوصفهم طبقة حاكمة سائدة.

يقسم تاريخ الهنود الآريين اعتماداً على ملاحم الڤيدا[ر] إلى عصر ڤيدي باكر (1500-1000ق.م) عرفوا فيه العربة الحربية التي تجرها الخيول وضمنت لهم التفوق على السكان الأصليين الدرافيديين، وكانت حياتهم تعتمد على تربية قطعان الماشية ثم بدؤوا يمارسون الزراعة. وفي العصر الفيدي المتأخر (1000-550ق.م) راحوا يستعملون الأسلحة الحديدية الفعالة وانتشروا شرقاً إلى وادي الغانج وتحولوا من شبه رحل إلى مزارعين مستقرين وتفككت الوحدات القبلية لتحل محلها ممالك سيطرت عليها طبقة المحاربين برئاسة الملك واشتدت الصراعات فيما بينها. وأهم مصدر لمعرفة أحوالهم وملاحمهم الشعرية وعلى رأسها الڤيدا Veda التي دونت باللغة السنسكريتية، وأقدم أجزائها الأربعة المقدسة الريغڤيدا Rigveda (= معرفة الحكمة) وهي ترانيم دينية ظهرت في مطلع الألف الأول ونشأ منها عدد من الشروح والتعليقات أشهرها الأوپانيشاد Upanishad.

وتعرض أسفار الفيدا الدين وهو في طريق التكوين بدءاً من النزعة الروحانية البدائية حتى وحدة الوجود الفلسفية. وتتمثل أقدم الآلهة في قوى الطبيعة وعناصرها وقد تطور الإله ڤارونا Varuna (إله السماء) ليصبح أكثر آلهة الڤيدا قرباً من المثل الأعلى للآلهة، يرقب العالم بعينه الكبيرة (الشمس) ويعاقب الشر ويكافئ الخير. وصار إندرا Indra (إله الرعد والعاصفة) أشيع الآلهة ذكراً بين الناس لأنه هو الذي يجلب الأمطار.

ويبدو أن الآلهة الفيدية في مراحلها الأولى لم يكن لها معابد وأصنام وكان تقديم القرابين أهم طقوسها ويتم بإشراف الكهنة الذين ارتفعت مكانتهم وصار البراهمة طبقة ممتازة تسيطر على الحياة الروحية والفكرية سيطرة تامة وتحتكر معرفة النصوص الدينية وتفسيرها باللغة السنسكريتية[ر] (أي الكاملة المقدسة).

لا يوجد في هذه الأسفار والملاحم أي إشارة إلى أن مؤلفيها عرفوا الكتابة التي لم تظهر إلا في القرن الثامن قبل الميلاد والأرجح أن الدرافيديين نقلوها من آسيا الغربية عن الكتابة الآرامية، وقد أطلق عليها فيما بعد الكتابة البراهمية ومنها اشتقت كل الأبجديات الهندية، وبقيت قروناً طويلة لا تستخدم إلا لأغراض تجارية أو إدارية. أما أقدم الكتابات التاريخية فهي نقوش أشوكا Ashoka من القرن الثالث قبل الميلاد. «ومن هذا الإهمال للكتابة نشأت - كما يقول ديورانت - ضآلة معرفتنا بالهند القديمة».

ـ العصور التاريخية:

في أواخر القرن السادس قبل الميلاد تسارعت الأحداث والتطورات في جميع المجالات ودخلت الهند في ضوء التاريخ فعلياً. ففي المجال الديني ظهر كثير من المتشككين وأنصار المذهب المادي الذين زعزعت أفكارهم سلطة البراهمة على العقل الهندي والقيم التقليدية الراسخة ومهدوا لظهور ديانتين جديدتين هما الجاينية Jainism والبوذية[ر]، التي غدت إحدى الديانات العالمية الكبرى.

وفي المجال السياسي نشأت أربع دول كبيرة توسعية كان أقواها وأهمها مملكة ماغادا Maghada في الجزء الجنوبي من بهار وعاصمتها باتاليبوترا Pataliputra (بتنا). وعلى الصعيد الخارجي استولى الملك داريوس[ر] الكبير على إقليم السند عام 518ق.م وضمه إلى الامبراطورية الفارسية الأخمينية كما أرسل بعثة بحرية بقيادة بحار إغريقي يدعى سكيلاكس Skylax لاكتشاف مجرى نهر السند حتى مصبه في بحر العرب والتي تابعت إبحارها إلى الخليج العربي ومضيق باب المندب وصولاً إلى خليج السويس في مصر، وكان من نتائجها أن صارت أساطيل الفرس تجوب المحيط الهندي وتؤمن المواصلات بين الامبراطورية الفارسية وحوض السند، وصارت صادرات الهند النفيسة من حرير وتوابل وأحجار كريمة وسواها تصل حتى شواطئ البحر المتوسط.

ويروي هيرودوت[ر] في تاريخه أن إقليم السند كان الولاية السترابية العشرين في الامبراطورية الفارسية ويدفع جزية مقدارها 360 تالنته (Talent ن=26.2كغ) من تبر الذهب. ويضيف قائلاً إن الهنود كانوا أكبر الشعوب المعروفة آنذاك وإنهم يدفعون أعلى جزية، ثم يروي كيف كانوا يستخرجون الذهب وأخباراً أخرى وقد استمر عصر السيطرة الفارسية على غربي الهند نحو قرنين من الزمن حتى قدوم الإسكندر الكبير المقدوني وقضائه على الامبراطورية الأخمينية.

وصل الإسكندر إلى الهند عام 327ق.م وخاض معركة كبيرة مع أحد أقوى ملوكها وهو بوروس Poros الذي أعجب بشجاعته فأبقاه حاكماً على مملكته. وكان ينوي احتلال وادي الغانج ولكن الجيش المقدوني رفض متابعة الزحف شرقاً واضطر الإسكندر إلى التراجع وغادر الهند عائداً إلى بلاد فارس وتوفي في بابل عام 323ق.م. وكان من نتائج هذه الغزوة ترسيخ العلاقات التجارية والثقافية بين الهند والغرب.

وفي خضم الصراع الذي نشب بين قادة الإسكندر صار شمال غربي الهند من نصيب الملك سلوقس الذي قاد حملة إلى الشرق ووصل الهند عام 302ق.م وعقد اتفاقاً مع الملك تشاندراغوبتا Chandragupta الذي زوده بخمسمئة من الفيلة الحربية مقابل تخليه عن بعض المناطق. وبعد ذلك جاء السفير السلوقي ميغاسثِنِس Megasthenes الذي أقام في بلاط الملك الهندي في باتاليبوترا وألف كتاباً سماه Indikia (مفقود مع الأسف) تضمن كثيراً من المعلومات الموثوقة عن شمالي الهند، أما رواياته عن الجنوب والشرق فهي شبه أسطورية.

ـ الامبراطورية الموريانية Maurya:

كان من نتائج غزو الإسكندر للهند والصراعات التي اندلعت بعد موته أن مهدت لظهور دولة كبيرة هي امبراطورية موريا، التي تعد أعظم دول الهند القديمة، فقد استطاع مؤسسها تشاندراغوبتا - الذي هزم آخر ملوك سلالة ناندا الحاكمة في ماغادا وتصدى بنجاح لهجوم الملك سلوقس - أن يوحد لأول مرة إقليمي الغانج والسند ويبسط سيطرته على شمالي الهند بأكمله وجزء من هضبة الدكن على مدى ربع قرن (321-297 ق.م)، كان قائداً عظيماً وإدارياً حازماً يساعده وزير قدير يدعى كاوتيليا Kautiliyaالذي ألف كتاباً في فن الحكم والسياسة (Arthasatra) له أهمية في معرفة تاريخ ذلك العصر. ويروى أنه تخلى عن العرش وترهب في آخر أيامه حتى موته.

وتشاندراغوبتا هو أول ملك هندي معروف تاريخياً بصورة أكيدة ومؤسس سلالة موريا التي حكمت الهند ما يقرب من قرن ونصف القرن. وقد خلفه ابنه بندوسارا Bindusara  ت(297-273ق.م) الذي تابع فتوحات والده وذاع صيته حتى إن سفارة جاءته من ملك مصر بطلميوس تخطب وده .

ثم تسلم الحكم ابنه أشوكا[ر] Ashokaت(273-233ق.م) أعظم ملوك هذه السلالة وأشهر حكام الهند القدماء على الإطلاق. شن في أول عهده حروباً كثيرة في الشرق والغرب تميزت بالقسوة والوحشية، إذ يروى أنه قتل مئة وخمسين ألف إنسان عندما احتل مملكة كالينغا Kalinga في شرقي الهند، وما إن جاء عام 250ق.م حتى بات أشوكا يحكم الهند كلها تقريباً ما عدا أقصى الجنوب إضافة إلى كشمير وأفغانستان، كما أرسل موفدين إلى الملوك الهلنستيين المعاصرين له، ثم اعتنق البوذية وتحول إلى ملك مسالم يسعى إلى سعادة شعبه والتكفير عن حروبه.

وتتحدث نقوشه التي دونها باللغات السنسكريتية والآرامية والإغريقية عن عدالته وإنسانيته ومن أقواله المشهورة: «إن أفضل الفتوح ليست فتوح الجيوش ولكنها فتوح العقائد والإيمان».

انحدرت المملكة بعد موته وانقسمت بين أبنائه، وفي عام 185ق.م قُتل آخر ملوكها. وشهدت الهند في عهد هذه الامبراطورية تطوراً كبيراً في شتى مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما عاشت نهضة قومية وثقافية تجلت باكتمال ملحمة مهابهاراتا[ر] Mahabharata التي نظمتها أجيال من الشعراء وصارت أشهر الملاحم الهندية. ويذكر الزعيم نهرو في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» أنه كان على كل ملك من ملوك هذه الامبراطورية أن يقسم عند تلقيه سلطته الملكية من أيدي الشعب في يوم التتويج قائلاً: «ألا فليحرمني الله من مملكة السماء ومن الحياة والذرية إن أنا ظلمتكم».

أعقب انهيار امبراطورية موريا عصر لا مركزي من الناحية السياسية عانت فيه الهند غزوات الإغريق والسكثيين والكوشانا. وظهرت سلالة حاكمة جديدة هي سلالة سونغا Sunga  ت(185-73ق.م) التي تقلص سلطانها وسيطر عليها المستشارون البراهمانيون ثم قام وزير آخر السلاطين بتأسيس سلالة كانڤا Kanva التي استمرت حتى سنة 25ق.م.

الإغريق الباكتريون:

استغل الملك دمتريوس Demetrios أحد حكام إغريق باكتريا Bactria انهيار امبراطورية ماوريا ليغزو شمال غربي الهند، وأصدر عملة باللغتين الإغريقية والبراهمانية (خاروستي Kharosthi)، وتسميه المصادر الكلاسيكية «ملك الهند» (نحو 180-165ق.م).وتابع مسيرته خلفاؤه من بعده وخاصة الملك ميناندروس Menandros أعظم ملوك الإغريق الباكتريين (نحو 155-130ق.م) الذي انطلق من إمارة تاكسيلا Taxila، فبسط سيطرته على قسم كبير من شمالي الهند ووطد سلطته في العاصمة سنغالا Sangala، وقد اعتنق البوذية وصار يعرف في المصادر الهندية باسم ميليندا Milinda. ويمثل اعتناقه البوذية تلاحم التراث الهندي مع الهيلينية الذي وجد أفضل تعبير له في فن قندهار Gandahara الإغريقي البوذي. وبعد ذلك بدأ الإغريق الباكتريون بالذوبان في بوتقة المجتمع الهندي، إذ أدى قيام الامبراطورية الفرثية في إيران إلى فصل إغريق الهند عن العالم الإغريقي الهلنستي في الغرب. ثم جاء غزاة جدد من أواسط آسيا وقضوا على الإمارات الإغريقية في شمالي الهند وبدؤوا منذ عام 80ق.م تأسيس إمارات جديدة .

ـ الساكا والكوشان:

في ذلك العصر المضطرب تحرك الهون الذين طردهم الصينيون من آسيا الوسطى، ودفعوا السكيثيين (أو الساكا Saka) نحو الهند فتوغل هؤلاء من ناحية بلوخستان والسند في إقليم البنجاب وتمكن أحد أمرائهم نحو عام 60ق.م من تأسيس امبراطورية ولكنها تفككت إلى عدة سلالات ساكية بقيت قائمة حتى القرن الرابع الميلادي وقد سماهم الجغرافي بطلميوس: الهنود السكيثيين.

في نهاية القرن الأول قبل الميلاد تم توحيد قبائل يويهتشي Yueh-Chi الهونية الخمس في بكتريا وظهرت قبيلة جديدة تدعى كوشانا Kushana تمكنت من فرض سيطرتها منذ القرن الأول الميلادي في البنجاب وقندهار، وبلغت أقصى قوتها في عهد الملك كانيشكا Kanishka (نحو 78-96م) الذي امتدت سلطته من بنارس شرقاً حتى كابول غرباً، واتخذ عاصمته في بشاور التي بنى فيها معبداً بوذياً كبيراً بعد أن اعتنق البوذية ودعم انتشارها، وقد صار عام وصوله إلى الحكم بداية لتقويم السلالة الحاكمة وأرخ أبناؤه وأحفاده من بعده سنوات حكمهم بموجب هذا التقويم. وقد أرسل كانيشكا كثيراً من البعثات التبشيرية التي ازدهرت معها تجارة المملكة، ثم أصابها الضعف وبسط الفرس الساسانيون نفوذهم عليها.

عاش شمالي الهند منذ نهاية القرن الثاني حتى أوائل القرن الرابع الميلادي في فوضى سياسية تمخضت بعدها عن نشأة أسرة حاكمة جديدة هي :

ـ سلالة غوبتا Guptaت(320-535م):

بدأت هذه الأسرة بزعامة مؤسسها تشاندراغوبتا الأول بتوحيد شمالي الهند بعد قرون من الانقسام والصراعات والسيطرة الأجنبية. وفي عهد ابنه سامودراغوبتا Samudragupta ت(330-375م) بلغت أوج قوتها ودانت لها أقاليم كثيرة بالطاعة وساد السلم في عهده الطويل مثلما كان في أيام أشوكا، ولكن على النقيض منه فإن معتقده كان الهندوسية ،غير أن هذا لم يمنع البوذية والبراهمانية من التعايش معاً سلماً، ثم تابع الملكان تشاندراغوبتا الثاني (375-415م) وكوماراغوبتا (415-455م) بناء هذه الامبراطورية التي سيطرت على شمالي الهند بأكمله وقسماًَ من وسطها بالقوة أحياناً وبالدبلوماسية أحياناً أخرى.

يمثل حكم هذه الأسرة الحقبة الكلاسيكية في تاريخ الهند، الذي كان عصراً ذهبياً للعلوم والآداب والفنون. فقد ابتكر علماء الرياضيات النظام العشري للأعداد، وعرف علماء الفلك نظرية دوران الأرض وحسبوا اليوم بدقة كبيرة. كما حققت الهند تقدماً كبيراً في علم الطب والأدوية.

ووصلت الثقافة الهندية مستوى لا مثيل له وبرز كاليداسا[ر] Kalidasa (القرن الخامس) بوصفه أعظم شعراء الهند وأدبائها المسرحيين. كذلك تجلت عبقرية الهند في الفنون والهندسة المعمارية التي أبدعت أوابد رائعة تتسم بالجمال والدقة والرمزية.

كان بوداغوبتا آخر الملوك الأقوياء، انقسمت المملكة بعد موته إلى أسر حاكمة متنافسة. وفي مطلع القرن السادس جاءت موجة جديدة من غزوات الهون البيض Hephthalites فأطاحوا ملوك أسرة غوبتا عن عروشهم وتدهورت الأوضاع من جديد.ثم ظهر فرع جديد للأسرة تمكن بقيادة الملك الشهير هارشا Harsha من طرد الغزاة وحكم شمال الهند وبناء عاصمة جديدة في كانوج Kanauj وكان إدارياً حازماً محباً لشعبه، تحول إلى الديانة البوذية وصار شبيهاً لأشوكا في أعماله وتصرفاته. وكان أديباً يكتب القصص والقصائد ويقرب العلماء، وقد أصبحت عاصمته مركزاً للثقافة لا تقل شأناً عن بنارس مركز الديانة والآداب الهندوسية، وترسم روايات الرحالة الصيني البوذي يوان تشونج Yuan-Chong صورة زاهية للهند في عهده الطويل الذي دام أربعين سنة. ولكن بعد موته تفككت مملكته إلى عدد من الدول الصغيرة المتنافسة. ومع وصول العرب المسلمين إلى السند عام 712م بدأ فصل جديد في تاريخ الهند.

ـ الهند الدراڤيدية:

بينما كانت هذه الأحداث والتطورات تجري في الشمال، فإن الجنوب بقي محافظاً على أوضاعه المعهودة وفي منأى عن التأثيرات والغزوات الخارجية وصار حصناً منيعاً للهندوسية، هنا حافظت حضارة الهندوس التقليدية على أصالتها العرقية والثقافية والدينية ،ولم تتمكن البوذية من ترسيخ أقدامها.

كانت تسود في هضبة الدكن سلالة أندرا Andhra (أو ستاكاني) الدرافيدية منذ القرن الأول قبل الميلاد فأقامت مملكة كبيرة امتدت سيطرتها التجارية في القرن الثاني الميلادي من بحر عمان إلى خليج البنغال، ثم بدأت تضعف وانقسمت إلى عدة أسر حاكمة.

وفي القرن الرابع نهضت أسرة بالاڤا Pallava وجعلت مدينة كانتشي Kanchi مركزاً لمملكة واسعة استمرت مئات السنين ورعت طبقة البراهمة، وظهر في مجال الفن والعمارة نمط هندوسي درافيدي متميز بلغ ذروته في المعابد الضخمة والرسوم الصخرية. وقد أسهمت هذه الأسرة في نشر الحضارة الهندية في جنوب شرقي آسيا.

أما عن صلات الهند مع الغرب فكانت تتم خاصة عن طريق الشواطئ الجنوبية الغربية وعلى رأسها ميناء موزيريس Moziris. وتتحدث الروايات عن وصول بعثة هندية إلى سورية لمقابلة الامبراطور الروماني اغسطس عام 20ق.م، وبعد اكتشاف مواعيد هبوب الرياح الموسمية انتظمت الصلات البحرية بين المشرق العربي والهند وتوطدت حتى إنه كانت تبحر كل سنة 120 سفينة من موانئ مصر والبحر الأحمر متوجهة إلى الهند وهي تحمل المنسوجات والزجاج والمعادن والخمور وغيرها وتعود محملة بالعطور والتوابل والجواهر والعاج والحرير الصيني. وقد عثر في جنوبي الهند على شواهد مختلفة ومنها كنوز من النقود الذهبية والفضية الرومانية تدل على عظم التجارة الهندية مع الغرب وأقطار المشرق العربي.

محمد الزين

 

 

 

 


- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - النوع : سياحة - المجلد : المجلد الواحد والعشرون مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة