مواليد وفيات
Births and mortality - Naissances et la mortalités

المواليد والوفيات

 

تؤدي المواليد والوفيات births and mortality وظيفتين حيويتين أساسيتين بالنسبة إلى المجتمع، فيضيع بالموت في كل حين قسم من عناصره، ويعتاض عنه بوساطة الولادة بعناصر جديدة. ويشبه في هذا التجدد الجسم الحي الذي يضيع بعض من خلاياه ويستبدل بها خلايا حديثة، وبذلك فإن عناصر التجدد والتغير الطبيعي للسكان تكمن في العلاقة بين هاتين العمليتين، على أساس أن الزيادة الطبيعية للسكان هي ناتج الفرق بين عدد المواليد وعدد الوفيات.

وبفرض أن الأعداد المطلقة للمواليد والوفيات تمكن من معرفة مقدار الزيادة أو النقص في أعداد السكان، إلا أن تلك الأعداد لا تعطي مؤشراً قوياً ودقيقاً، عند المقارنة بين مجتمعين، لمعرفة أي منهما أكثر قدرة على التجدد والنمو، وأيهما أقل سرعة في نموه، الأمر الذي يدعو إلى الاعتماد على مقاييس ديموغرافية لكل منهما تعطي الصورة الحقيقية عن واقع المجتمع واتجاه نموه المستقبلي بعد توقع اتجاهات التغير المستقبلية في المواليد والوفيات.

بالنسبة إلى المواليد فان المقياس الأكثر استخداماً هو ما يسمى معدل المواليد الذي يحسب بقسمة عدد المواليد الأحياء في سنة تقويمية معينة على عدد السكان في منتصف تلك السنة مضروباً الناتج بألف، لكن ومع أهمية هذا المعدل في بيان زيادة عدد السكان عموماً، وفي تصنيف البلدان بحسب مولوديتها إلى مرتفعة ومتوسطة ومنخفضة، فإنه لا يكفي الاعتماد عليه للتدقيق في المواليد والمقارنة بين الشعوب، ولهذا تُؤخذ في الحسبان المقاييس الأخرى التي توضح مدى الإقبال على الإنجاب أو الإحجام عنه، ومن هذه المقاييس معدل الخصب العام الذي يُحسب بقسمة عدد المواليد الأحياء في غضون سنة تقويمية على عدد النساء في فترة الخصوبة (من سن الخامسة عشرة حتى سن التاسعة والأربعين) مضروباً الناتج بألف، ومعدل الخصوبة الكلية للمرأة الواحدة الذي يشير إلى متوسط ما تنجبه المرأة الواحدة من أطفال في أثناء فترة خصوبتها.

وبالنظر إلى تباين هذه المعدلات بين المجتمعات المتعددة في الوقت الواحد واختلافها في المجتمع الواحد بين أوقات عدّة، فقد باتت نسب المواليد والوفيات واحدة من السمات التي تميز المجتمعات من بعضها تبعاً لاختلاف العوامل والمحددات التي تؤطرها في المجتمع، فالمواليد - على الرغم من كونها عملية بيولوجية - ليست ميلاً غريزياً للتكاثر يخضع لقوانين عامة ثابتة، كما هو الحال عند الكائنات الحية، بل هي سلوك اجتماعي تحدده وتؤطر له مجموعة كبيرة من العوامل ذات الطابع الاجتماعي، مثل طبيعة علاقات الإنتاج السائدة، وطبيعة النظم الاجتماعية المكونة للبناء الاجتماعي، كالعادات والتقاليد والقيم والدين والسياسة والأخلاق والقانون. إذ تتفاعل كل هذه المحددات بعضها مع بعض لتؤثر في السلوك الديموغرافي للسكان. ولذلك تلحظ الاختلافات في مستويات المواليد تبعاً لاختلاف هذه العوامل. فحيث تسود علاقات الإنتاج الزراعي مثلاً، يزداد الإقبال على الإنجاب وترتفع معدلات المواليد لاستفادة الأسرة من كثرة الأطفال، وذلك بسرعة تحولهم إلى قوى عاملة منتجة في العمليات الزراعية، ولسيادة نظم القيم والعادات التي تحبذ الأسر ذات الأعداد الكبيرة. أما في المجتمعات الصناعية وبيئاتها، حيث تتضاءل الحاجة إلى الأطفال، وتزول المنفعة من وراء كثرتهم، ويتحول هؤلاء إلى عبء على الأسرة، تنتشر قيم عدم الإقبال على الإنجاب المتعدد، وتنخفض معدلات المواليد بوضوح ملحوظ. لكن ومع هذا الدور لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة، فإن ذلك لا يعني أن المواليد هي نتيجة حتمية أو تلقائية لنمط إنتاجي معين، بل توجد مجموعة من العوامل الاجتماعية الأخرى التي لا تقل في أهميتها وتأثيرها عن ذلك، وتأتي في مقدمتها: العادات والأعراف والقيم السائدة في المجتمع والمتعلقة خاصة بأنظمة الزواج وتكوين الأسرة، الأمر الذي قد يترتب عليه التبكير في الزواج أو التأخر فيه، وتعدد الزوجات أو عدمه والإصرار على إنجاب الذكور؛ إذ تؤثر مثل هذه العوامل في معدلات المواليد والإنجاب. وما ينطبق على العادات والقيم وطبيعة علاقات الإنتاج، يسري على جميع العوامل الاجتماعية الأخرى؛ كالمعتقدات الدينية والنظام التربوي والتشريعات والسياسة والتعليم والعمل وإلى ما هنالك من عوامل تترابط وتتشابك فيما بينها وتؤدي إلى وجود مستويات للمواليد تتباين بتباين هذه العوامل.

وبالنسبة إلى الوفيات فإن الوضع لا يختلف عن سابقه، من حيث إنها أيضاً ليست فقط عملية بيولوجية، بل تتوقف على مجموعة العوامل الاجتماعية المرتبطة بدرجة التطور الاجتماعي الذي بلغه هذا المجتمع أو ذاك. هذا ما يبدو واضحاً من استعراض بعض مؤشرات الوفيات في دول مختلفة من العالم، ففي حين بلغ معدل وفيات الرضع عام 2003 في كل من اليمن والسودان 71 - 77 حالة وفاة بين كل 1000 مولود حي، بلغ هذا المعدل للعام نفسه في كل من اليابان وفنلندا 3 - 4 حالات وفاة بين كل 1000 مولود حي، وفي حين كانت نسبة وفيات النفاس في هذين البلدين 2 - 5 حالات وفاة لكل 10000 مولود، بلغت هذه النسبة في كل من اليمن والسودان 352- 488 حالة، وفي حين بلغ متوسط العمر المتوقع على صعيد أوروبا لكل من الذكور والإناث 70.1- 78.2 سنة، كان في إفريقيا للعام نفسه 47.9 - 50 سنة. ولعل المفارقة ستكون أكبر لو تم استعراض مقاييس الوفيات الأخرى مثل معدل الوفيات الخام، ومعدل الوفيات حسب العمر أو حسب المهنة أو حسب النوع أو غيرها. ويحسب معدل وفيات الرضع بقسمة عدد وفيات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن السنة على عدد المواليد الأحياء في السنة مضروباً الناتج بألف، ويشير متوسط العمر المتوقع إلى ما ينوب الفرد من العمر لو وزّع بالتساوي عدد السنين التي سيعيشها مع أقرانه من الجيل نفسه، ويحسب بقسمة مجموع السنوات التي عاشها المتوفون في سنة من السنوات على عددهم، أما معدل الوفيات الخام فيحسب بقسمة عدد الوفيات الحاصلة في سنة تقويمية معينة على عدد السكان في السنة نفسها مضروباً الناتج بألف، ويحسب معدل وفيات النفاس بقسمة عدد وفيات الأمهات (لأسباب تتعلق بالحمل والولادة) الحاصلة في سنة تقويمية معينة على عدد المواليد في السنة نفسها مضروبا الناتج بعشرة آلاف أو مئة ألف.

 وبالعودة إلى المسألة الرئيسة المتعلقة بسبب هذا التفاوت في مستويات الوفيات بين بلدان العالم، يلحظ المرء أن مستوى التطور الاجتماعي المتمثل بالإنجازات المحققة على صعيد الصحة والتعليم والغذاء وشروط العمل ووضعية المرأة وخدمات الصحة الإنجابية. هي المحددات الأساسية لمستوى الوفيات، فمع زيادة التقدم الطبي مثلاً، وزيادة الإمكانية في الإنفاق على الصحة وتوفير مستلزماتها من أدوية ولقاحات وأطباء ومشافي وغذاء وغيرها، فمن المتوقع أن تضعف العوامل المسببة للوفيات وستنخفض معدلاتها بوضوح، وكيف لا وقد أقفلت كثير من دول العالم الأقسام الخاصة بمعالجة بعض الأمراض السارية كالسل والكوليرا، في الوقت الذي تحصد فيه هذه الأمراض أعداداً هائلة من السكان في كثير من دول العالم. إن ما ينطبق على الصحة والتقدم الطبي يسري على جميع الجوانب الأخرى للتطور الاجتماعي، وفي ذلك ما يفسر الاختلافات البينة في مستويات الوفيات بين دول العالم المختلفة.

إن المحصلة النهائية للعلاقات القائمة بين معدل المواليد ومعدل الوفيات هي التي تحدد حركة النمو السكاني في أي مجتمع من المجتمعات (مع إهمال عامل الهجرة)، وهذا ما يبدو واضحاً من استعراض تاريخ الحركات السكانية العالمية المتمثلة بأربع مراحل أساسية هي مرحلة التوازن السلبي، ومرحلة النمو الانفجاري، ومرحلة التوازن الإيجابي، ومرحلة النقص النسبي في السكان.

تميزت المرحلة الأولى من النمو السكاني بارتفاع واضح في معدل المواليد ومعدل الوفيات مع معدل نمو سكاني منخفض وشبه مستقر، وذلك للتوازن الحاصل بين طرفي معادلة النمو السكاني الطبيعي. امتدت هذه المرحلة في أوربا حتى منتصف القرن الثامن عشر، وفي البلاد العربية حتى منتصف القرن العشرين، أما المرحلة الثانية فقد تميزت بالاختلال الجوهري الذي هزّ العلاقة المستقرة التي كانت قائمة بين المعدل العالي للمواليد والمعدل العالي للوفيات، إذ انخفضت معدلات الوفيات كثيراً من دون أن يواكب ذلك الانخفاض انخفاض مماثل في معدلات المواليد، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كبير في معدلات النمو السكاني بحيث وصلت إلى مستويات لم تبلغها في تاريخ السكان (يبلغ اليوم معدل النمو السكاني في كثير من دول العالم النامية أكثر من 4% مثل اليمن والصومال وأفغانستان والعديد من الدول الإفريقية)، وقد امتدت هذه المرحلة في أوربا حتى العقد الثامن من القرن التاسع عشر، وفي البلدان النامية ومنها البلاد العربية بدأت هذه المرحلة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتميزت هذه المرحلة في البلدان النامية خاصة بذلك الضغط الهائل الذي زاولته وتزاوله الأعداد المتنامية للسكان على وسائل الإنتاج والدخل القومي وفرص التوظيف والمواد الغذائية وعلى المساكن والمواصلات وإمكانات التعليم والصحة. ولذلك تفاقمت الأزمات في كل هذه الجوانب لعدم كفاية التغيرات الاقتصادية المطلوبة لتطوير قوى الإنتاج وزيادة حجم الدخول وخلق فرص كافية لتوظيف هذه الأعداد المتزايدة للسكان، أما المرحلة الثالثة (مرحلة التوازن الإيجابي) فقد تميزت بالانخفاض الواضح في معدل المواليد ليصل تقريباً إلى مستويات الوفيات؛ ولذلك عاد الاستقرار النسبي في النمو السكاني، وقد امتدت هذه المرحلة في أوربا حتى منتصف القرن العشرين، في حين بدأت في بعض البلدان النامية اعتباراً من نهاية القرن العشرين بالدخول في هذه المرحلة. أما المرحلة الرابعة (مرحلة النقص النسبي) فقد تميزت بمواصلة انخفاض معدل المواليد مع الصعوبة في تخفيض معدلات الوفيات (لأنها بلغت حدوداً منخفضة) ولذلك صارت تسجل معدلات النمو السكاني قيماً سالبة في كثير من الدول المتقدمة؛ ففي أوربا بلغ معدل النمو السنوي 0.1% في الفترة 2000- 2005، وفي بلغاريا وأوكرانيا 0.8%، وفي أستراليا 1.1%، وفي إيطاليا 0.1%، وفي لاتفيا 0.9%، وبذلك فإن الخلل في العلاقة بين المواليد والوفيات سيؤدي إلى وجود مشكلة سكانية تعبر عن نفسها بالنقص السكاني في حالة انخفاض معدل المواليد عن مستوى معدل الوفيات، كما هي الحال في الدول السابقة الذكر، وفي حال يكون الفرق كبيراً بين معدلات المواليد المرتفعة ومعدلات الوفيات المنخفضة، فإن المشكلة السكانية تعبر عن نفسها بالنمو السريع للسكان، الأمر الذي يعني زيادة كبيرة في نسبة صغار السن وانخفاض في نسبة القوة البشرية وقوة العمل، ومن ثمّ ارتفاع في معدلات الإعالة إضافة إلى الانخفاض في حصة الفرد من الأراضي الزراعية وزيادة استهلاك المدخرات وزيادة في الاستثمار الديموغرافي (الاستثمار في السلع وتقديم الخدمات)، مما يعني زيادة في حدة العوامل التي تقف حائلاً دون تحقيق تقدم في معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي؛ وتفاقماً في أزمات هذه البلدان ومشكلاتها.

عزت شاهين

 

 الموضوعات ذات الصلة:

 

علم السكان.

 

 مراجع للاسـتزادة:

 

ـ رمزي زكي، «المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة»، سلسلة عالم المعرفة، العدد 84، سنة 1984.

ـ عبد الكريم اليافي، علم السكان (جامعة دمشق، 1991).

ـ عبد الهادي يموت، النمو السكاني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية (معهد الإنماء العربي، بيروت 1988).


- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 819 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة