المقالة (فن-)
مقاله (فن)
Essay - Essai
المقالة (فن ـ)
فنُّ المقالة في الأدب العربي القديم
رأى بعضُ الباحثين أنَّ المقالةَ ليست فنًّا حديثاً، وأنَّها ترجع إلى ما عرفه العربُ من خطبٍ ومقاماتٍ ورسائلَ، وأنَّ ظهور المقالة في العصر الحديث يُرَدُّ إلى أصولها التراثيَّة التَّليدةِ، والمدقِّقُ في آثار المترسِّلين قديماً يجدُ فروقاً كثيرةً تميزها من المقالة، وفي الإمكان القول إنَّه ما من جنسٍ نثريٍّ قديم ٍ يضارِعُ المقالةَ، اللهمَّ سوى بعضِ الرسائل القصيرة أو الَّتي تمتدُّ إلى بضع صفحاتٍ، وتنتمي إلى الرَّسائل الأدبيَّة أو الرَّسائل العلميَّة، وما سوى ذلك مفارقٌ لجنس المقالة في أمورٍ كثيرةٍ، منها ما يتعلَّق بالمضمون (الفكرة)، ومنها ما يتعلَّق بالأسلوب (البناء النَّثري وخصائصه)، فَمِمَّا يُعَدُّ مضارِعاً للمقالة إنشاءُ بعض المترسِّلين في القرنين الثَّالث والرَّابع الهجريَّين، وعلى رأس المترسِّلين الذين اقتربوا في كتاباتهم من خصائص فنِّ المقالة أبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ) وأبو حيَّان التَّوحيدي(ت نحو 400 هـ). ولعلَّ الجاحظ أوَّل من خرج على ما كان معهوداً في التَّرسـل كالرَّسائل الإخوانيَّة أو الرَّسائل الدِّيوانيَّة (الرَّسميَّة) أو الرسائل الحكميَّة الخاصَّة، فجعلها في غير هذه الموضوعات، مقارباً في ذلك فنَّ المقالة مضموناً وأسلوباً، فمن حيث الموضوعات تعرَّض لموضوعاتٍ مناسبةٍ للمقالة كالكلام على طبائع الأفراد والجماعات ووصف العادات والمذاهب والمعتقدات، وبنى في سياق كلامه موقفاً خاصًّا منها، وتناول في بعض رسائله شروحاً لمجرَّداتٍ أو لمسائلَ علميَّةٍ له فيها نظرٌ أو رأي، أمَّا من حيث الأسلوبُ فقد مال إلى عنصر الطَّرافة والتَّفكُّه واعتمد السَّلاسةَ في التَّعبير، وإنْ مالَ إلى الاستطراد الذي جَفَتْهُ المقالة في العصر الحديث. وممَّا عُدَّ قريباً من المقالة أيضاً بعضُ رسائل أبي حيَّان التَّوحيدي كرسالته في «علم الكتابة»، وهي بحث في الوِراقة والخطوط وأنواعها وما يلزمها، ورسالته في «الحياة» وسلك فيها سبيلاً فلسفيًّا صوفيًّا، ومن قبيل ذلك أيضاً فصولُه المعروفة بالمقابسات، وهي نظراتٌ فلسفيَّةٌ تأمُّليَّةٌ ومناظراتٌ جدليَّةٌ علميَّةٌ، ويمتدُّ طولُ الفصل منها بين صفحةٍ واحدة وبضع صفحات، ومثل هذا التَّرسُّل ـ ترسُّل الجاحظ وترسُّل أبي حيان التَّوحيدي ـ يضارع المقالةَ ويقترب منها من غير أن يكون معادلاً لها وفق مفهومها في العصر الحديث.
مفهوم المقالة في العصر الحديث ومَنْشَؤُها
المقالةُ كتابةٌ نثريَّةٌ تمتاز بوحدة الفكرة التي تَشْغَلُها، وباعتدال حجمها، يبرز فيها عنصرُ الاختزال في تصوير المواقف إضافةً إلى سماحة النَّظرة وبساطةِ التَّعبير فلا تميلُ إلى التَّعقيد ولا تجنحُ إلى التَّصنُّع.
نشأت المقالةُ الحديثةُ في الغرب على يد الكاتب الفرنسي مونتين Montaigne في القرن السَّادس عشر، وتابعه في ذلك الكاتب الإنكليزي بيكون Bacon في القرن السَّابع عشر، وكانت المقالة ذات طابعٍ اجتماعيٍّ إصلاحيٍّ قوامها بروز العنصر الذاتيِّ للكاتب وحريَّة التَّعبير والتَّحرر من قيود الكتابة التَّقليديَّة، وكانت انعكاساً لوجدان الكاتب، ولم تكن تَشْمَلُ حينئذٍ الموضوعاتِ العلميَّةَ أو الفلسفيَّةَ، ثمَّ تطوَّرت في أوربا حتَّى وصلت إلى أفقٍ رَحْبٍ في القرن الثَّامن عشر مُبَشِّرَةً بولادةِ فنٍّ جديدٍ يتناول فيه الكتَّابُ مظاهرَ الحياة في المجتمع بالنَّقد والتَّحليل بأسلوبٍ تَغْلِبُ عليه الفكاهةُ ويغيب عنه جانبُ الوَعْظِ والتَّوجيه المباشر، ثمَّ اتَّسعت موضوعاتُ المقالة في أوربا في القرن التَّاسع عشر لِتَشْمَلَ نواحيَ الحياة كلَّها.
انتقل هذا الفنُّ من الكتابة النَّثريَّة إلى العالم العربيِّ في منتصف القرن التَّاسع عشر، فأفاد منه الكُتَّاب العرب وارتبط نشاطُ المقالة في الأدب العربيِّ الحديث برجالاتِ النَّهضة العربيَّة حينئذٍ. فضلاً عن ذلك فقد أسهمت المطابعُ الَّتي دخلت إلى مصر والشَّام في ازدهار فنِّ المقالة، وصارت جزءاً من تاريخ الصحافة العربيَّة.
مرت المقالة في الأدب العربيِّ الحديث بثلاث مراحل رئيسةٍ في الإمكان عَرْضُها بإيجازٍ.
مرحلة النُّشوء ـ جيل الرُّواد
تبدأ هذه المرحلةُ بظهور مقالاتِ جيلِ روَّادِ المقالةِ العربيَّة، من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873) في صحيفة «الوقائع المصريَّة» وهي مقالاتٌ اجتماعيَّةٌ أدبيَّةٌ، ومقالات عبد الله أبي السُّــعود (ت 1878) في صحيفة «وداي النيل» وهو أوَّلُ صحفي سياسيٍّ في تاريخ مصر، ومقالات خليل الخوري (ت 1907) في صحيفة «حديقة الأخبار»، ثمَّ ظهر نشاطٌ ملحوظ في انتشار فنِّ المقالة مع ظهور المجلات، ويُلحظ أثرُ ذلك في مجلة «الجوائب) الَّتي أصدرها الأديبُ أحمد فارس الشِّدياق (ت 1887) في الأستانة سنة (1860) وكتب فيها مقالاته، ومجلة «الجنان» التي أصدرها الأديب بطرس البستاني (ت 1883) في بيروت سنة (1860) وضمَّنها مقالاته أيضاً، وكان روَّاد هذا الفنِّ من دعاة تطويع اللُّغة للتَّعبير وتحريرها من الصَّنعة وألاعيب الكلام لتدخلَ اللُّغةُ العربيَّةُ معركةَ الحضارة، وعلى الرَّغم من ذلك لم تخلُ بعضُ أمثلة المقالات في مرحلتها الأولى من تَصَنُّعٍ أو فجاجةٍ أو ركاكةٍ، وعلى كل حالٍ أسهم في نشاط المقالةِ العربيَّةِ في مرحلتها الأولى ظهور الأحزاب السِّياسيَّة والاتِّصال بالغرب واتِّساع الحركات الفكريَّة الإصلاحيَّة، وارتقاء الوعي لدى المثقَّفين العرب، غير أنَّ ظهور جيلٍ جديدٍ من كتَّاب المقالة في الأدب العربي الحديث فتح الباب أمام مرحلةٍ جديدةٍ.
مرحلة الارتقاء ـ جيل التَّابعين
تجسَّدت المرحلةُ الثَّانية في جيلٍ جديدٍ هُمُ التَّابعون الَّذين كان لهم الفضل في تخليص المقالة من بعض عيوبها وفضل توسيع مجالاتها ووَسْمِها بمرونة الصِّياغة وسلاسة التَّعبير، لتغدو أكثر قدرةً على مخاطبة الواقع المعيش بوضوح ودقَّة، وبأسلوب لغويٍّ أرفع درجةً وأرقى منزلةً من غير تكلُّفٍ ممجوجٍ أو تساهلٍ مُخِلٍّ، وكان من أعلام جيل التَّابعين أديب إسحاق(ت 1885) وعبد الرحمن الكواكبي (ت 1902) وإبراهيم اليازجي (ت 1906) وقاسم أمين(ت 1908) ويعقوب صروف (ت 1927) وشبلي شميِّل (ت 1917) وغيرهم، وتنوَّعت مقالاتُهم فكانت سياسيَّةً واجتماعيَّةً وعلميَّةً، وتميَّز أربابُ فنِّ المقالة من التَّابعين بقَصْدِ العبارة ومقدرةٍ عاليةٍ على استيعاب كلِّ جديدٍ في السِّياسة والفكر والعلم، ويُلاحَظ أنَّ بعض هؤلاء الأعلام أثْرَوا اللُّغةَ العربيَّة بمقالاتهم، فالقارئ في مقالات يعقوب صروف يقف على جملة ألفاظ ابتدعها أو تناولها من مظانِّها القديمةِ ليستخدمَها في الدِّلالة على ما تطرحه العلوم الغربيَّةُ من جديدٍ من خلال ما تَرْجَمَهُ عن اللُّغات الأجنبيَّة من موضوعات، حتى عُرِفَ في سياق مقالاته بمقدرةٍ عاليةٍ على التَّعريب، ومما يُنسب إليه ممَّا شاع من وضعه اللغويِّ: (لاسلكي وكهرباء ونواة وغوَّاصة ودبَّابة ورشاشة...)، وكثير من مقالاته نُشرت في «المقتطف»، ونثره من السَّلاسة والاتِّساق وجُودة المضامين في مرتبةٍ عظيمةٍ، وإذا انصرف إلى الكتابة العلميَّة عرض الحقائقَ العلميَّة عرضاً مستساغاً فيبدو المقالُ حديثاً ممتعاً لمحدِّثٍ مدركٍ فيستهوي المتلقيَ عَرضُهُ لتلك الحقائق، ومن مقالاته العلميَّة مقالة «الزُّهرة»، ومنها: «والزُّهرة فلكها داخلَ فلك الأرض كعطارد، فإذا كانت إلى الجهة الشرقيَّة من الشَّمس فهي نجمة المساء، وتغربُ بعد الشَّمس، وإذا كانت في الجهة الغربيَّة من الشَّمس فهي نجمة الصَّباح وتطلع قبلَ الشَّمس، وإذا كانت في الاقترانِ الأسفلِ فقد تُرى شامةً سوداءَ على وجه الشَّمس أو لا تُرى مطلقاً...».
وتبرز أهميَّةُ جيل التَّابعين من كتَّاب المقالة في أنَّهم مهَّدوا السَّبيل أمام جيل ثالثٍ جديدٍ كان له الفضلُ في تأسيس المقالة الفنيَّة المتكاملة في الأدب العربيِّ.
مرحلة المقالة الفنيَّة المتكاملة
غدت المقالةُ في هذه المرحلة في أبهى صورها قياساً إلى ما كانت عليه، وبرزت في هذه المرحلة العناية بالأساليب الفنيَّة من غير تكلُّفها، وقد التمس كتَّاب المقالة في هذه المرحلة منهجين رئيسين؛ المنهج العلمي و المنهج الأدبي، وتعرفوا الأدوات الفنيَّة الملائمة لكتابة كلِّ نوع من أنواع المقالات، وفي هذه المرحلة صارت المقالة أثراً فنيًّا قيِّماً حقًّا، وبرز أعلامها المبدعون، فكان أبرزهم: مصطفى لطفي المنفلوطي (ت 1924) ومصطفى صادق الرَّافعي (ت 1937) وأحمد حسن الزيَّات (ت 1968) وعبَّاس محمود العقَّاد (ت 1964) وإبراهيم عبد القادر المازني (ت 1949)، ومحمَّد كُرد علي (ت 1953)، وكان لمجلة «الرِّسالة» التي أصدرها أحمد حسن الزَّيات ولمجلة «الثَّقافة» التي أصدرتها لجنة التأليف والتَّرجمة والنَّشر في مصر برئاسة أحمد أمين أثرٌ بالغ في إذكاء معارك النَّشر بين كتَّاب المقالة حتى بلغت هاتان المجلتان من سعة الانتشار ما جعلهما مادَّةً أُولى للقراءة لدى كثير من المثقَّفين المهتمِّين بفنِّ المقالة، وجديرٌ بالذِّكر أنَّ كثيراً من الكتب التي صنَّفها كتَّاب المقالة من المذكورين آنفاً وغيرهم كانت في أصل مادَّتها مقالاتٍ منشورةً في مجلات، ومن ذلك على سبيل المثال كتاب «حديث الأربعاء» لطه حسين، ومجلَّدات «وحي القلم» للرَّافعي، و«الفصول ومطالعات وساعات بين الكتب « للعقَّاد، و«صندوق الدنيا» للمازني، و«فيض الخاطر» لأحمد أمين، وهنا يبرز أثر المقالة في نشاط حركة تصنيف الكتب أيضاً، من حيث إنَّ الكتبَ السَّابقة كلَّها ما هي في أصلها إلا مقالات كانت قد نُشرت في مجلات.
لعلَّ أبرز ما يميِّز مرحلة المقالة الفنية المتكاملة مزيَّتان ؛ الأولى تطوُّر الأدوات الفنيَّة لكتابة المقالة على نحو يقصرها على نوعها، والثانية بروز العناية بالأساليب من غير تفرطٍ أو إفراطٍ.
أمَّا العنايةُ بالمضامين وتنوُّعُها واستقصاؤها لجوانب الحياة الفكريَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والأدبيَّة والعلميَّة فسماتٌ ملحوظة في المقالة منذ نشوئها حتَّى مرحلة نضجها الفنيّ، ومَرَدُّ رسوخ هذا الأثرِ التَّليد في المقالة يعودُ إلى رجال النَّهضة العربيَّةِ في مطلع القرن التَّاسع عشر.
ومهما تعدَّدت أنواعُ المقالة وتنوَّعت في العصر الحديث (سياسيَّة، اجتماعيَّة، علميَّة، أدبيَّة، فلسفيَّة، ذاتيَّة..) ففي الإمكان ردُّها إلى أحد نوعين رئيسين: ذاتيَّة وموضوعيَّة، ولكلِّ نوعٍ منهما خصائصُ فنيَّة ينبغي توافرها في نصِّ المقالة وأدوات معرفيَّة ينبغي توافرها في كاتب المقالة بحسب كلِّ نوعٍ منها.
المقالةُ الذاتيَّةُ انعكاسٌ لوجدان الكاتب، يبرز فيها العنصرُ الذاتيُّ الَّذي يغيب في المقالة الموضوعيَّة، والمقالة الذاتيَّة الَّتي يغلب عليها عنصر الانكفاء على ذات الكاتب لا يضيرها الخروج على ذلك أحياناً إلى التَّأمُّل في الثَّابت والمتغيِّر في جوانب الحياة العامَّة،على أن يبقى الوجدان طاغياً والذَّاتُ ماثلةً في مساحة المقالة.
أبرز مَنْ أحدثَ ثورةً فنيَّةً في كتابة المقالة الذاتيَّة الأديب مصطفى صادق الرَّافعي الَّذي بنى مقالاته الذاتيَّة بناءً أسلوبيًّا ظلَّ نهجاً لكتَّاب هذا النَّوع من المقالات من بعده، والنُّضوج الفنيُّ في صناعة المقالة بارزٌ لدى الرَّافعيِّ، وقد أخذ على كثير من كتابات السَّابقين له غياب العناية بالجانب الفنِّي حتى كادت المقالة تفقد بهجةَ ما تقدِّمه من أُنس لقارئها، و رأى أنَّ كثيراً من مقالات السَّابقين تفتقر إلى ما كانوا أطلقوا عليه (جودة التَّأليف) ووَسَمُوه بأنَّه مذهبٌ جديدٌ في كتابة المقالة وتحلَّلوا به من عقال قيود الكتابة التَّقليديَّة المتصنعة ليقعوا في كتابةٍ لا حياة فيها ولا روح، تفتقر إلى العنصر الجماليِّ في الأسلوب، وليس فيها من النَّفحة الأدبيَّة شيءٌ.
في مقالاتِ الرَّافعي ذوقٌ لغويٌّ عالٍ تأتي فيه الألفاظُ في مواطنها المناسبةِ من غير تكلُّفٍ، وتأخذ فيه الجملُ بأعناق الجمل في اتِّساقٍ يُسَهِّل على القارئ الانتقالَ من عبارة إلى أخرى مع الاستمتاعِ بجمال ذلك الانتقال، والقارئ ُلمقالاته في «رسائل الأحزان» و«أوراق الورد» و«وحي القلم» يقفُ بوضوحٍ على نُضْجِ الجانب الفنيِّ لديه مع حرصه على الارتقاء بالمضامين.
ويُعَدُّ جبران خليل جبران (ت1931) أقربَ مَنْ وافقَ مذهبَ الرَّافعيَّ في كتابة المقالة، وقد شبَّت على يديه روحُ التَّجديد في كتابة المقالة في المهجر.
وإذا كانت المقالة الذاتية تُعلي شأنَ الذَّات والوجدان فإنَّ المقالة الموضوعيَّة تُعلي شأنَ الموضوعيَّةِ بوصفه مفهوماً يعني التجرُّدَ من الأحكام الذاتيَّة وإعلاء شأن العقل والعلم، وأبرز أدواتها المعرفيَّة في الكتابة: النزَّعة العقليَّة والدِّقة اللُّغويَّة والأمانة العلميَّة والنَّتائج المبنية على مُقدِّمات مُحمكة.
مادَّة المقالة الموضوعيَّة كلُّ ما تطرحه الحياة الإنسانيَّة من جديد في الفكر والعلم والسِّياسة والفنون والآداب والعلوم الاجتماعيَّة والفلسفيَّة، وهذا يعني أنَّ كاتب هذا النَّوع من المقالة أمامَه حدٌّ لا ينتهي من مصادر الإلهام، غير أنَّه على الكاتب مراعاة الجوانب الفنيَّة في الصِّياغة الأسلوبيَّة، ويبرز عمله في الأخذ بيد المتلقي إلى عالمٍ من المعرفة بأسلوبٍ شائقٍ ممتعٍ، ويبرز هنا الجانبُ الشخصيُّ في المقالة الموضوعيَّة بوصفه أسلوب الكاتب في عرض مادَّة مقاله، ولا يُراد من ذلك أن يقرعَ سمعَ المتلقي بألفاظ فارغةٍ، أو عباراتٍ معقَّدة، أو أساليب جافَّة، إنَّ كاتب المقالة الموضوعيَّة أشبه ما يكون بمدرِّس ناجحٍ لمادَّة علميَّةٍ ثقيلةٍ جافَّة ينفر منها بعض طلابها، فيلقي عليها من خفَّة ظلِّه مع وقار العالِم وسكينته ما يجعلها شراباً مستساغاً، من دون تزويقٍ بألوان الكلام المتكلَّف، أداتُه في ذلك طرائفُ التَّصوير التي تثير فضول المتلقي ممزوجةً بلطف الأداء ومتعة الفكر؛ ممَّا يخفِّف حِدَّةَ سطوةِ جفاف الكتابة العلميَّة في متونها المعهودة. وسواءٌ أكان الموضوع المطروق تحليلاً فكريًّا لموقف أم نقداً لعادة اجتماعيَّة أم عرضاً لحقيقة علميَّة على الكاتب أن يوجه القارئ إلى الموضوع توجيهاً لطيفاً، فلا يُخْرِجُ قلمُهُ من ينبوعِ المعرفةِ إلا عذباً زُلالاً يروي ظمأ معرفة المتلقي، مع الموازنة بين العقل وخفة الروح في العرض والتحليل، والقارئُ لمقالات العقَّاد المبثوثة في كتبه بعد أن كانت منشورةً في مجلات يَلْمَسُ أثرَ الرُّوح العلميَّة في المقالة العربيَّة في القرن العشرين، ومثل ذلك يُلحظ في مقالات محمد كرد علي مؤسِّس المجمع العلميِّ العربيِّ بدمشـق الذي أسَّس منهج كتابة المقالة الموضوعيَّة في سـوريا، وقد أسَّـس مجلـة «المقتبس» وبثَّ فيها كثيراً من مقالاته.
أسـامة اختيار
مراجع للاستزادة: |
ـ أنيس المقدسي، الفنون الأدبيَّة وأعلامها في النهضة العربية الحديثة (دار الكاتب العربي، بيروت 1963).
ـ عبد اللطيف حمزة، أدب المقالة الصحفية (دار الفكر العربي، القاهرة 1968).
ـ محمد عوض محمد، محاضرات في المقالة الأدبيَّة (القاهرة 1951).
ـ محمد يوسف نجم، فن المقالة (دار الثقافة، بيروت 1966).
- التصنيف : اللغة العربية والأدب العربي - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 247 مشاركة :