مؤتة (غزوة-)
موته (غزوه)
Ghazwat Mu’ta - Ghazwat Mu’ta
مؤتة (غزوة ـ)
مؤتة Mu‘ta بلدة في منبسط خصب إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت في أراضي البلقاء (الأردن حالياً)، على مسافة ساعتين من الكرك[ر] تنسب إليها السيوف المشرفية، وبها قبر جعفر الطيار[ر]. دخلت التاريخ لغزوة استطلاعية بعث بها الرسولr في السنة الثامنة للهجرة لاختبار مدى قوة الروم والقبائل العربية الموالية لهم في بلاد الشام واستعداداتهم.
تكاد المصادر العربية الإسلامية تجمع على إيراد السبب المباشر لغزوة مؤتة، وتغفل الأسباب غير المباشرة لها. والواقع أن القبائل العربية التي تقطن أطراف بلاد الشام لم تكن قد تقبلت الدعوة إلى الإسلام بعد، وخاصة قبل فتح مكة، وكانت تخضع لنفوذ بيزنطة وتتحالف معها، وتثير القلاقل في شمالي الجزيرة العربية. وكان الروم قد أدركوا منذ بدء انتشار الدعوة مدى الخطر الذي يتهدد محمياتهم في بلاد الشام؛ لأن غالبية سكانها من العرب. فأجمعوا أمرهم على صد ذلك الخطر والتخفيف من فاعليته ما أمكن، فبثوا عملاءهم في الأرجاء يتسقطون الأخبار ويحيكون الدسائس، وشجعوا القبائل العربية على التمرد ومحاربة الدعوة بأية وسيلة، ولا سيما قبائل لخم وجذام وبلقين وبلي الموالية للغساسنة. وفي الوقت نفسه أراد الرسولr أن يرد على التحدي بتحدٍّ أكبر، وأن يختبر جدية تلك القبائل وقوتها ومدى تضامنها مع الروم، ومحاولة الاتصال بها ودعوتها إلى الإسلام، إضافة إلى اتخاذ مواقع متقدمة عند أطراف الجزيرة تصلح قواعد انطلاق لنشر الدعوة. ومن أهم الإجراءات التي اتخذها النبيr لتحقيق هذا الغرض إرسال الوفود إلى ملوك الأطراف والبلاد المجاورة، وإلى زعماء القبائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، وأرسل أربعة بعوث إلى أطراف بلاد الشام والعراق من بينها بعث مؤتة، كما قاد بنفسه غزوة خامسة إلى تبوك[ر].
أما الأسباب المباشرة لغزوة مؤتة فكانت استعراضاً للقوة، ورداً على مقتل موفد الرسول الكريم إلى ملك بصرى الشام الغساني، الذي عرض له شرحبيل بن عمر الغساني في أرض البلقاء وقتله. فلما بلغ النبأ المدينة أمر الرسول الناس أن يستعدوا للخروج من دون أن يبين وجهتهم، وعقد الراية لزيد بن حارثة، وكانت لواءً أبيض. وعين جعفرَ بن أبي طالب خلفاً لزيد إن أصابه مكروه تحسباً لكل طارئ، واختار للقيادة من بعد جعفر عبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله فليرتضي المسلمون رجلاً منهم يؤمرونه عليهم.
غادرت الحملة المدينة المنورة في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وقوامها ثلاثة آلاف مقاتل بين راجل وراكب، وسار معهم رسول الله إلى خارج المدينة، حيث أمرهم بالتوجه إلى البلقاء على تخوم الشام وتحري الوضع هناك من أجل الثأر لموفده، وأوصاهم وصية مشهورة غدت فيما بعد قانوناً في الحرب والجهاد، ثم ودعهم وانصرف. مضت الحملة حتى نزلت معان من أرض الشام. وتواترت الأنباء بأن هرقل قد نزل مؤاب (مآب) من أرض البلقاء في ألف من الروم، وانضم إليه فيها مقاتلون من قبائل بَهراء وجُذام ولَخَم وبَليّ بأعداد كبيرة لا تقل عن عشرين ألفاً (وعند ابن هشام مئة ألف) يقودهم مالك بن رافلة من بلي. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا في معان ليلتين يقلبون الأمر من وجوهه، واقترح بعضهم أن يكتبوا إلى رسول الله يطلبون مشورته والمدد من الرجال، غير أن عبد الله بن رواحة شجعهم على المضي قدماً، فقرر زيد متابعة التقدم تنفيذاً لأوامر الرسول، والتقى جمع المسلمين جموع الروم والعرب عند قرية من قرى البلقاء يقال لها مَشارِف، فلما قاربهم العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة المجاورة، ورتبوا صفوفهم في كتائب، وجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة من بني عذرة، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري، وزيد بن حارثة على القلب يحمل الراية ومعه النخبة من الرجال.
دارت عند مؤتة رحى معركة حامية الوطيس، جال فيها الطرفان وصالوا، واقتتلوا قتالاً شديداً. وفي هذه الأثناء أصيب زيد إصابة قاتلة ووقع على الأرض وتناولته الرماح، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب والتحم بالعدو، فلما تكاثروا عليه نزل عن فرسه وعقرها وظل يقاتل والراية في يمينه، فضربه رجل من المشركين فقطعها، فأخذ الراية بشماله فقطعت فاحتضن الراية بعضديه وهو واقف حتى قتل. تناول الراية من بعده عبد الله بن رواحة وتقدم بها على فرسه وظل يقاتل حتى قتل. فأخذ الراية ثابت بن أرقم من بني العجلان ونادى بالمسلمين أن اصطلحوا على رجل منكم، فاصطلحوا على خالد بن الوليد[ر]. تقدم خالد لأخذ الراية، وقد أدرك أن النصر بعيد، ولا قِبَل للمسلمين بمكاثرة الروم وحلفائهم العرب، وقد أنهكوا وأثخنوا، وسقط منهم عدد من القتلى، فدافع وناور وحاشى بالقوم حتى انحاز بهم في قتال تراجعي منظم، وقفل بهم عائداً إلى المدينة، بعد أن دفنوا قتلاهم. أما الروم فلا تذكر المصادر أو غيرها شيئاً عن خسائرهم، ولكن المرجح أن تكون كبيرة، وتفوق خسائر المسلمين؛ لإقبال المسلمين على الشهادة وتحمسهم للقتال. ومن الثابت بحسب الروايات مقتل مالك بن رافلة زعيم المستعربة على يد قطبة بن قتادة. وثمة مصدر بيزنطي، هو المؤرخ تيوفانس Theophanes (ت 818م/203هـ) يتحدث عن هذه الوقعة بشيء من المبالغة مع تشابه في الجوهر. ويقول إن المسلمين نزلوا بلدة عند مشارف مؤاب يريدون الانقضاض على سكانها العرب ليلة العيد، لكن القائد تيودوروس علم بما يخططون له فاستنفر حاميات الحصون هناك، وهاجم المسلمين في مؤتة، وهزمهم وقتل معظمهم، ويذكر مقتل القادة الثلاثة، وتولي خالد بن الوليد القيادة ونجاته، ويحمل المسلمين خسائر فادحة جداً.
لما وصل البعث قافلاً إلى المدينة جعل الناس يذمونهم ويحثون عليهم التراب، ويقولون: يا فُرّار، فررتم في سبيل الله. والرسولr ينادي بالناس قائلاً: «ليسوا بالفُرّار بل الكُرّار إن شاء الله»، وقال إن الله عوض جعفراً جناحين في الجنة، فسمي جفعر الطيار. كذلك وصف النبي خالداً بأنه سيف من سيوف الله. وقد خلد حسان ابن ثابت ذكرى هذه الغزوة في قصيدة رثى بها القتلى ومنها:
فلا يُبعدنَّ اللهُ قتلى تَتابعوا
بمؤتَةَ مِنهم ذو الجناحَين جعفرُ
وزيدٌ وعبدُ اللهِ، هُم خيرُ عُصبةٍ
تَواصَوا وأسبابُ المنيةِ تَنظُرُ
كانت تلك الغزوة التجربة الأولى التي خاضها المسلمون في مواجهة تنظيم عسكري مدرب ومجهز بعتاد كامل، وقد تعلم منها المسلمون كثيراً، واطلعوا على أساليب قتال الروم عملياً، وأفادوا منها في معاركهم التي تلت. وما تزال قبور قتلى مؤتة معروفة هناك وقد أقام المسلمون عندها مقاماً بعد فتح الشام.
محمد وليد الجلاد
مراجع للاستزادة: |
ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ (دار الكتاب العربي، بيروت 1986).
ـ عبد السلام هارون، تهذيب سيرة ابن هشام (الدار المتحدة، دمشق 1992).
ـ ياقوت الحموي، معجم البلدان (دار الكتب العلمية، بيروت 1990).
- التصنيف : التاريخ - النوع : دين - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 836 مشاركة :