فرنسا في عصر حديث
France - France

 

 

فرنسا في العصر الحديث

بدأت مظاهر العصور الوسطى تتلاشى في أوربا بدءاً من منتصف القرن السابع عشر، لتأخذ مكانها ملامح العصر الحديث بفعل المنجزات العلمية الجديدة التي تناولت نقد المؤسسات والمعتقدات والمفاهيم، لتنقل بلدان القارة على مختلف المستويات إلى مايعرف بعصر التنوير. ففي عام 1661 ارتقى سدة الحكم في فرنسا سليل أسرة البوربون Bourbons لويس الرابع عشر Louis XIV ليستمر على العرش أربعة وخمسين عاماً، شكلت الحروب التي خاضها معظم أحداثها، وكانت هذه السنوات في بدايتها مليئة بالأمجاد والانتصارات التي حققتها فرنسا على الساحة الأوربية. ولكن منذ عام 1684 حتى وفاة هذا الملك سنة 1715 أخذت هذه الانتصارات تفقد بريقها في أعقاب حرب الوراثة الإسبانية التي ترافقت مع قيام ثورات داخلية، بسبب المجاعة والكوارث والأوبئة التي تعرضت لها فرنسا وأجبرت الملك على توقيع معاهدة أوترخت Utrecht  عام (1713) ليسود السلام بعدها في أوربا نحو ربع قرن. أما حفيده لويس الخامس عشر Louis XV الذي تولى مكانه، فإنه أخفق في بناء إدارة حازمة، على الرغم من طول مدة بقائه على العرش، وعانت فرنسا في عهده كثيراً من المصاعب والأزمات، غير أن الخطر الأبرز نتج من غياب العدالة والمساواة بين طبقات المجتمع إلى جانب فرض الضرائب الباهظة من أجل تغطية نفقات الملك وحاشيته، مما أدى إلى انتشار الرشوة والمفاسد الخُلقية التي عمت المجتمع الفرنسي بأكمله.

في هذا الجو العاصف توفي لويس الخامس عشر، وأصبحت فرنسا مهيأة في عهد حفيده وخليفته لويس السادس عشر Louis XVI، للتغيير الكبير المتمثل بالثورة التي أطاحت برأسي الملك وزوجته سنة 1789. وسادت البلاد أجواء مرعبة في ظل حكومة المؤتمر التي أسست للجمهورية الأولى سنة 1793. ولكن نابليون بونابرت N.Bonaparte تمكن في عام 1799 من الاستيلاء على السلطة بعد عودته من مصر، ومع أنه قام ببعض الإصلاحات وحقق كثيراً من الأمجاد العسكرية بعد أن نصب نفسه امبراطوراً على البلاد، لكنه ما لبث أن تراجع أمام أعدائه الكثر في معركة واترلو Waterloo سنة 1815، ليغادر باريس إلى منفاه في جزيرة سانت هيلين Ste.Hélène، وعاد لويس الثامن عشر Louis XVIII حفيد لويس الخامس عشر إلى العرش ليحكم فرنسا حتى وفاته سنة 1824. وفي عهد أخيه شارل العاشر Charles X الذي اتصف بالتزمت، احتلت فرنسا الجزائر وحصل تراجع في نهج الإصلاحات التي كان أخوه قد شرع في تطبيقها، الأمر الذي مهد لقيام ثورة 1830 بزعامة الماركيز ماري جوزيف لافاييت[ر] M.J.Lafayette الذي تبنى شعار (عقد قران جمهورية فاضلة على ملك دستوري) ومهّد لوصول لويس فيليب Louis-Philippe إلى سدة الحكم حتى قيام الجمهورية الثانية سنة 1848. وفي تلك المدة ظهرت تيارات سياسية مختلفة تمثلت بأنصار الملك شارل العاشر والبونابرتيين وأنصار الجمهورية، إلى جانب دعاة الفكر الاشتراكي المثالي، أسهمت جميعها في تكوين حركة ليبرالية أعلنت عبرها الجمهورية حتى عام 1851، وتولى الحكومة فيها نخبة من المفكرين والمثقفين الكبار من أمثال لامارتين[ر] Lamartine ولوي بلان[ر] L.Blanc الذين قاموا ببعض الإصلاحات. غير أن لويس بونابرت L.Bonaparte ابن شقيق نابليون انقلب على مبادئه ونصب نفسه امبراطوراً على فرنسا تحت اسم «نابليون الثالث»، واستمر في الحكم حتى هزيمته في الحرب أمام ألمانيا سنة 1870، حين أُعلن عن قيام الجمهورية الثالثة التي تولى أنصارها تشكيل حكومة وقعت مع الألمان معاهدة سلام، تنازلت بمقتضاها فرنسا عن الألزاس وجزء من اللورين وأسند منصب رئاسة الجمهورية لتيير Thiers حتى عام 1873، ثبَّت في أثنائها دعائم الحكم الجمهوري الذي استمر حتى عام 1945.

بعد إقالة تيير أُسند منصب رئاسة الجمهورية لجول غريفي Grévy الذي عُدَّ عهده نقطة البداية لظهور الاستعمار الفرنسي في إفريقيا والهند الصينية، وفي أيامه بدأت تنتعش الحركة العمالية داخل المجتمع الفرنسي، ولكن غريفي تعرض للحَرَج بسبب فضيحة زوج ابنته دانييل ويلسون D.Wilson الذي أُشيع أنه كان يتاجر في أوسمة الجيش، ومع أن غريفي لم يكن متورطاً في هذه الفضيحة، إلا أنه أرغم على الاستقالة وخلفه في سدة الرئاسة ماري فرنسوا سادي كارنو M.F.Sadi Carnot الذي شهد عهده نمو الحركة القومية والحركة الاشتراكية والراديكالية إلى جانب ظهور التيار الكاثوليكي المحافظ، لكن الحكومة في عهد كارنو أخفقت في تسريع عملية التنمية وتطوير عمل المؤسسات، مما أدى إلى وقوع مصادمات بين العمال ورجال الحكومة، وازداد نشاط العناصر المتطرفة وانتهى الأمر باغتيال كارنو في مدينة ليون سنة 1894 على يد أحد الفوضويين، وأصبح فليكس فور F.Faure رئيساً للجمهورية حتى وفاته سنة 1899. ولعل الحادث الأبرز في عهد فور قضية الضابط اليهودي ألفِرد دريفوس Alfred Dreyfus ووقائع محاكمته وما تركته من تداعيات لم تنته إلا في عام 1906. وفي عهد إميل لوبيه E.Loubet الذي أصبح رئيساً لفرنسا من بعد فليكس، اتجهت الجمهورية نحو النظام العلماني وتمَّ الفصل ما بين الكنيسة والدولة، وصدر ما يعرف بقانون الهيئات الخاص بالهيئات الدينية الذي ألقى بظلاله على العلاقة مع بابا الفاتيكان، وفي عهد لوبيه أيضاً نشأت أزمة حادة بين فرنسا وألمانيا بسبب المشكلة المراكشية.

في عام 1906، انتخب الرئيس أرماند فاليير A.Fallières رئيساً للجمهورية لتكتمل في عهده ملامح النهضة القومية الفرنسية المعاصرة بتأثير من بعض المثقفين الكبار من أمثال شارل مورا Charles Maurras وليون دوديه L.Daudet وموريس باريس B.Barrés الذين كانوا وراء دعوة تطوير قوة فرنسا. ومن أبرز الشخصيات التي تولت رئاسة الحكومة في عهده جورج كليمنصو G.Clémenceau الذي قاد فرنسا إلى النصر أواخر الحرب العالمية الأولى.

فرنسا المعاصرة

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهرت قضايا مهمة أججت الصراع الدولي في أوربا، ومع أن الفترة ما بين 1870 و1914 لم تشهد أي حرب دولية، إلا أنها عرفت بعصر السلم المسلح بسبب تنافس دول القارة فيما بينها للسيطرة على أسواق التجارة العالمية واقتسام مناطق النفوذ، وكانت النتيجة أن انقسمت أوربا إلى معسكرين متقابلين، تكوَّن الأول من ألمانيا والنمسا وبلغاريا، وانضمت إليه الدولة العثمانية. في حين تكوَّن الثاني من بريطانيا وفرنسا وروسيا، وانضم إليها وقت الحرب دول أخرى بلغ عددها 23 دولة، وكيفما كان فقد خاضت فرنسا الحرب العالمية الأولى وعلى رأسها ريمون بوانكاريه R.Poincaré وخرجت منها منتصرة سنة 1918، غير أن اقتصادها الذي كان على حافة الانهيار سبب أزمات داخلية معقدة استمرت فترة طويلة، وزاد من مشكلاتها خسائرها البشرية التي قدرت بنحو 1350000 من القتلى، إلى جانب 3440000 من الجرحى، و446000 من الأسرى، أدخلت البلاد في أزمة خانقة استمرت إلى ما بعد عام 1929 فانتهز اليسار الفرنسي هذه المسألة في الانتخابات العامة وتمكن من تشكيل حكومة راديكالية برئاسة إدوار هيريو E.Herriot، أخفقت بدورها في تجاوز تلك الأزمة، فشكلت حكومة وحدة وطنية سنة 1934 ضمت عناصر من أقصى اليمين وأخرى من أقصى اليسار برئاسة دوميرغ Doumergue مهدت لحكومة ليون بلوم Leon Blum التي سقطت عام 1938 بسبب موقفها المتخاذل من الحرب الأهلية الأسبانية التي أعادت النظام الملكي إلى إسبانيا.

دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا وعلى رأس حكومتها إدوار دالادييه E.Daladier، غير أن قواتها التي اكتفت بتحصينات ماجينو Maginot، لم تصمد أمام الهجوم الألماني، إذ سرعان ما دخلت القوات الألمانية إلى باريس ووقعت مع حكومتها اتفاقاً لوقف إطلاق النار سنة 1940 كان من نتائجه أن انقسم الفرنسيون بين مؤيد ومعارض، ففي حين شكَّل الجنرال بيتان Pétain حكومة فيشي الموالية لألمانيا، غادر دوغول De Gaulle إلى لندن، ومن هناك وجه نداءه الشهير إلى الفرنسيين يدعوهم فيه إلى متابعة القتال ضد القوات الألمانية، وقام بتشكيل لجنة وطنية كانت نواة الحكومة المؤقتة التي تابعت أعمال المقاومة المسلحة ضد الجيش الألماني، وفي عام 1944 تمكنت قوات ديغول ومعها قوات بريطانية وأمريكية من طرد الألمان من الأراضي الفرنسية.

بعد نهاية الحرب صوت الفرنسيون لمصلحة حكومة برلمانية فاز فيها تحالف اليسار وحركة الجمهوريين، لتبدأ الجمهورية الرابعة عهدها برئاسة فانسان أوريول V.Auriol. استمرت الجمهورية الرابعة ما بين سنة 1945 وسنة 1958 تعرضت فيها السياسة الفرنسية لمتغيرات وانقسامات أدت إلى ظهور قوى جديدة مثل القوة العمالية، والتجمع من أجل الجمهورية في الوقت الذي كانت تواجه فيه الحكومة تحديات صعبة تمثلت بالوضع الاقتصادي شبه المنهار، إلى جانب ثورات التحرر التي اشتعلت في المناطق التي كانت تسيطر عليها فرنسا كثورتي المغرب وتونس (1952)، والجزائر (1954)، وثورات الهند الصينية التي أجبرت الرئيس منديس فرانس M.France على توقيع اتفاق جنيف القاضي بانسحاب الجيش الفرنسي من ڤييتنام في أعقاب هزيمته في معركة ديان بيان فو Dien Bien Phu، ولهذه الأسباب وغيرها حل البرلمان الفرنسي وتشكلت حكومة جديدة ترأسها السياسي الاستعماري المعروف غي موليه Guy Mollet الذي كان من نتائج سياسته الرعناء، ولاسيما تورطه في حرب السويس، أن مهد لعودة دوغول إلى السلطة بمساعدة بعض الضباط سنة 1958 ليضع هذا الأخير أساس الجمهورية الخامسة، ويؤسس لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة (الدوغوليين) الذي سيطر العديد من أفراده على مجمل الحياة السياسية عن طريق الاستفتاء الشعبي، وأقر ديغول باستقلال الجزائر على الرغم من وجود تيار معارض بين صفوف أتباعه حاولوا التمرد عليه بل واغتياله عبر ما يعرف بمنظمة الجيش السري، إلا أن ديغول استمر في تطبيق نهجه السياسي المستقل عن سياسة الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي، متحرراً من العقدة الاستعمارية، وموثقا علاقاته بدول العالم الثالث، وفي عهده اعترفت فرنسا بالصين الشعبية وعارضت سياسة الولايات المتحدة في ڤييتنام، وعملت جاهدة على منع دخول بريطانيا إلى السوق الأوربية المشتركة لكونها رأس الجسر الذي يمكن أن تعبر منه الولايات المتحدة إلى القارة الأوربية. وقد استمر ديغول على النهج نفسه إلى أن استقال من منصبه سنة 1969 في أعقاب ثورة طلابية قادتها بعض العناصر من الأوساط اليسارية، مدعومة بعناصر عمالية، لكن تياره استمر بالحكم عبر فوزه بالانتخابات البرلمانية وأوصل جورج بومبيدو G.Pompidou إلى سدة الرئاسة. ومن أجل التخفيف من حدة المواجهة مع الخصوم السياسيين أدخل بومبيدو بعض الإصلاحات على نهج سلفه، ولكن بعد وفاته بدأ الضعف يدب في أوصال التيار الديغولي وتمكن الجمهوريون المستقلون المنشقون عن ذلك التيار بزعامة فاليري جيسكار ديستان V.Giscard D’Estaing من الفوز بانتخابات الرئاسة، وصار ديستان رئيساً للجمهورية وجاك شيراك J.Chirac المتحالف معه رئيساً للوزارة، بيد أن الرئيس المنتخب دخل في خلافات مع رئيس حكومته أسفرت عن استقالة الأخير من منصبه مما زاد في حدة الأزمة السياسية والاقتصادية، والتي استغلها مرشح اليسار فرانسوا ميتران F.Mitterrand فمهدت لوصوله إلى رئاسة الجمهورية عام 1981. ومع أن ميتران قام ببعض التحسينات والإصلاحات وتوسيع قاعدة تمثيل العمال، غير أنه لم يتمكن من حلَّ مشكلة البطالة المتفاقمة على مدى فترتين من رئاسته، الأمر الذي أثر في شعبية التيار اليساري، فأخذ يسجل تراجعاً في الأوساط السياسية خاصة بعد انحيازه الواضح لسياسة الولايات المتحدة والتعاطف الملحوظ مع دولة إسرائيل، في حين تميزت علاقته مع الاتحاد السوڤييتي آنذاك بالانكماش والبرود، وللخروج من هذا المأزق عاد شيراك إلى رئاسة الوزارة مرة ثانية لتحكم فرنسا من قِبَل رئيسين، فيما عرف بتجربة التعايش (رئيس جمهورية يساري، ورئيس حكومة يميني) ومع ذلك استمرت الأزمة، وزادت نسبة البطالة على 3 ملايين عاطل عن العمل حتى نهاية عهد ميتران. ففقد اليساريون أملهم في انتخابات 1995، وعاد الديغوليون إلى السلطة من جديد بزعامة جاك شيراك الذي بدأ مشروعه السياسي بالبحث عن موقع دولي يليق بفرنسا في محاولة للتخلص من هيمنة القطب الواحد، ويبدو أن هذه المحاولة تضاءلت في الفترة الأخيرة بعدما أقنعت حكومة الولايات المتحدة باريس بأن انقسام الغرب في مواجهة الشرق لم يعد ممكناً بعد اليوم، وأن صدام المواقف لن يكون في مصلحة مواءمة المصالح فتراجعت حكومة شيراك عن بعض الثوابت على النحو الذي بات معروفاً عند الجميع.

مصطفى الخطيب

 

- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - النوع : سياحة - المجلد : المجلد الرابع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 447 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة