ديارات
Monasteries - Monasteries

الدَّيَارات

 

الديارات: جمع دير. والدير بناء معدّ لسكنى الرهبان أو الراهبات من النصارى يتعبدون فيه، وقد وهبوا أنفسهم للنسك والزهد. وصاحب الدير الذي يسكنه أو يقيم فيه،يسمى الدَّيرانيّ، وهي نسبة على غير قياس.

وللدير جموع تكسير كثيرة، أوصلها بعضهم إلى نحو عشرين جمعاً، وربّما تداخل بعضها مع جموع كلمة «الدار» أيضاً. قال ياقوت الحموي، بعد أن نقل جموع «الدير»: «وهذا يشعر بأن الدير من اللغات في الدار، ولعله بعد تسمية الدار به خصص الموضع - الذي تسكنه الرهبان - به. وصارعلماً له».

وهذه الجموع للدير بعضها شائع معروف مثل: الأديرة، والأديار، والديارات وبعضها أقل شهرة وذيوعاً مثل: الدِّيَرة، والدِّيران، والأدْوُر..

يعود بناء الديارات إلى عصور قديمة، بدءاً من القرن الرابع أو الخامس للميلاد وما بعدهما. حين بدأت الرهبنة تنتشر، وراح الكثيرون يعيشون عيشة التوحد والعزلة فيما يشبه الصوامع للعبادة. ثم أخذوا يتجمعون حول بعض النساك المشهورين، ويقيمون الأديرة ليعيشوا بها آمنين. وهكذا تزايد عددها، واستمر بناؤها حتى القرن التاسع عشر وصارت تعد بالمئات، لكن معظمها انقرض واندثر، أو بقي منه بعض الأطلال، لأسباب كثيرة. وبعضها الآخر لا يزال قائماً ولكنه مهجور. وقلّة من تلك الأديرة رُممت وأصلحت على مر العصور، وتقام فيها الصلوات وهي آهلة بالرهبان أو بالراهبات، أو بهؤلاء وأولئك جميعاً.

وكانت هذه الديارات تُبنى في بادئ الأمر خارج المدن الكبرى كالقاهرة وبغداد ودمشق، أو تقام في الصحارى ورؤوس الجبال، وعلى ضفاف الأنهار. ويقوم ببنائها طوائف دينية مختلفة، أو أباطرة، أو أفراد من التجار الأغنياء، يشترون الدير لسكنى رهبانهم أو بعض قديسيهم.

ثم اتّسع بناء الديارات فشمل المدن الصغرى بل القرى أيضاً، وأصبح اسم الدير يوصف بلون معين تبعاً لحجارته وطرز بنائه، أو يضاف إلى اسم بانيه أو مشتريه أو صاحبه الذي بُني الدير على اسمه، أو يضاف إلى اسم المكان الذي أقيم فيه. وربما انقلب الدير نفسه فيما بعد إلى قرية أو بلدة صغيرة بعد أن انتشر بناء هذه الأديرة في مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة.

ففي مصر توزعت الأديار في مختلف الأنحاء، ما بين سيناء والبحر الأحمر ووادي عربة ووادي النّطرون ومناطق القاهرة وسوهاج وأسوان والصعيد، مثل: دير السّريان، ودير كاترين، ودير أبْشيا، ودير مار جرجس والدير الأحمر.

ومن أديرة بلاد الشام، دير أبان في غوطة دمشق، ودير إسحاق (بين حمص وسلمية) ودير الباعِقَى (جنوب بصرى من أرض حوران، وهو دير الراهب بَحِيرى صاحب الخبر مع رسول الله r)، ودير زكَّى (بنواحي الرقة قرب الفرات)، ودير سمعان (جنوب غربي حلب، وآخر بنواحي دمشق)، ودير صيدنايا شمالي دمشق، ودير البلح (وباسمه سميت البلدة الساحلية في فلسطين بين رفح وغزّة).

ومن ديارات العراق: دير الجاثَلِيق (جنوب بغداد على الضفة الغربية لدجلة)، ودير الأعلى (في الموصل، على جبل مطل على نهر دجلة)، ودير العاقول (وبه سميت قرية من أعمال بغداد).

وفي الجزيرة: دير الأكْمُن (على رأس جبل بالقرب من الجوديّ)، ودير الزعفران (قرب جزيرة ابن عمر).

وكانت هذه الأديار موضع عناية واهتمام، من حيث فخامة البناء واتساع الرقعة، ولاسيما القريبة من المدن أو على ضفاف الأنهار، وفي كل دير كنيسة وعدة صوامع للرهبان، وتحيط به البساتين والكروم في كثير من الأحيان، ويكون له سور قويّ يحصّنه من الغارات ويقيه شر هجمات البدو وغائلة المعتدين. ولذلك كانت الديارات تبنى غالباً في أحسن المواضع وأنزهها، وإذا بَعُد الدير عن مصادر المياه، لجأ أصحابه إلى استنباط الماء من الآبار داخل الدير، أو نقْر الصهاريج في جوف الصخر ليجتمع فيه ماء المطر، ولا تقوم للدير قائمة بفقدان الماء.

ومن الطبيعي أن يكون لكل دير حاجات تماثل حاجات سائر الأديرة الأخرى، أو تخالفها من بعض الوجوه، وقد تصنع في الدير خمور جيدة تُحمل إلى ما حوله من المناطق. وإلى جانب ذلك كان الدير الكبير يضم مجموعات من الأيقونات والمخطوطات الثمينة. واستدعى ذلك وجود خزانة كتب في كل دير يرجع إليها الرهبان للمطالعة والتأليف والبحث في موضوعات دينية وعلمية وأدبية، وهذه الخزانة تضم عادة نسخاً من الكتاب المقدس، وكتباً في الفلسفة واللاهوت وسِير القديسين والطقوس الدينية وحياة النسك والتعبد، وأخرى في الأدب والشعر وغير ذلك.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الأديرة كانت تجهز بمختلف مرافق الحياة والخدمات من حمامات ومطابخ وغرف للإقامة ومخازن وبيوت للطعام وتخزين الخمور والنبيذ. ولا تخلو أيضاً، ولاسيما الكبيرة منها، من غرف خاصة للضيافة ينزلها زوار الدير أو المارّون به، حيث يجدون ما يطيب لهم من ألوان الطعام والشراب.

ولهذا كله كانت الأديرة عامةً مقصداً للزوار والمسافرين من أهل القصف واللهو، ولاسيما الشعراء في العصر العباسي من أمثال أبي حية النميري وأبي نواس ووالبة بن الحُباب، وأبي العَيْناء والحسين بن الضحاك وغيرهم ممن يجدون في هذه الأديرة حول بغداد وغيرها ملاذاً آمناً وبعيداً عن أعين الرقباء ورجال الدولة، فيمكثون أياماً تطول أو تقصر، يمضونها في تناول الطعام والشراب وتناشد الأشعار، ومطارحة الأخبار والطرائف، وربما كتبوا على الجدران بعض الأبيات والحكم أو علّقوا على ما وجدوه مكتوباً منها على تلك الجدران، وقد يقصدها الرجل أو الشاعر بمفرده فيمضي يومه هناك ثم يعود أدراجه من حيث أتى.

ومن هذا كله يتبين أن تلك الديارات في جملتها كانت لها أهمية خاصة في التاريخ وعلى مر العصور. فإلى جانب دورها الديني البارز في مجال الرهبنة والحث على الزهد، والترغيب في العبادة والنسك، كان لها دور آخر اجتماعي، تجلى في حياة سكان الأديرة، ولقائهم للناس من الزوار والمسافرين، وتبادل التأثر والتأثير في كثير من العادات وقواعد السلوك والأخلاق، وأساليب المعيشة واللباس والأطعمة والأشربة وما إلى ذلك.

يضاف إلى ذلك أن لتلك الديارات جانباً ثقافياً وأدبياً وفنياً يقوم على وجود نخبة مثقفة من الرهبان يمارسون القراءة والبحث والتأليف، ويتأثرون يمن يفد عليهم من الشعراء والأدباء والندماء، بحيث تصبح الديارات أشبه بندوات ثقافية وأدبية تُطرح فيها مختلف القضايا والآراء والطرائف في أجواء يهيمن عليها الجد تارة،والهزل والمجون تارات أخرى، مما تنشرح به النفوس، ومما يمكن أن يسمى «أدب الديارات».

محمود فاخوري 

مراجع للاستزادة:

ـ محمد بن علي الخطيب الدمشقي،البدور المُسفرة في نعت الأديرة (بغداد 1975م).

ـ ياقوت الحموي، الخَزَل والدَّأَل بين الدور والدارات والدِّيَرة (دمشق 1998م).

ـ الديارات، أبو الحسن الشابُشْتي (بيروت 1986م).

ـ ياقوت الحموي، معجم البلدان (بيروت 1955م).

 


- التصنيف : التاريخ - المجلد : المجلد التاسع - رقم الصفحة ضمن المجلد : 493 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة