التنوير (عصر-)
تنوير (عصر)
Age of Enlightenment - Siècle des Lumières
التنوير (عصر ـ)
التنويرenlightment اتجاه ثقافي ساد أوربة الغربية في القرن الثامن عشر بتأثير طبقة من المثقفين والمفكرين، عُرفوا باسم الفلاسفة philosophers، وكانوا صحفيين وكتاباً ونقاداً ورواد صالونات أدبية أمثال فولتير، ديدرو، كوندورسيه، هولباخ، بيكاريه، ولكن هؤلاء المفكرين أخذوا عن الفلاسفة العقليين ديكارت واسبينوزا وليبتنز ولوك الذين طبعوا القرنين السابع عشر والثامن عشر بطابعهم الثقافي حتى أُطلق على هذه الفترة عصر العقل age of reason، وكان التنوير نتاجه.
يُقرن عصر التنوير بالتاريخ الفكري ـ الاجتماعي لكل من إنكلترة وفرنسة وألمانية وإسبانية وإيطالية، الممتد بين تاريخ إعلان الملكية الدستورية في إنكلترة (1688) والثورة الفرنسية (1789)، مع اختلاف في تحديد المرحلة الزمنية لشيوعه في كل بلد.
تتوزع أفكار عصر التنوير على ثلاثة محاور: العقل والطبيعة والتقدم، وتكون في مجموعها الفلسفة الطبيعية والأخلاق الطبيعية، وأساسها العلم، وكان شعاره العلم للجميع. وهذا العصر يشكل بداية مرحلة جديدة في تاريخ أوربة، لما تمّ فيه من تغيير جذري في الحياة الاجتماعية والمادية والسياسية والفكرية نتيجة انهيار أسس المجتمع الأوربي القديم وقيمه وظهور تحولات جديدة في الإنتاج والاقتصاد وفي الحقوق وشؤون الدولة وفي العلوم والفنون والعادات والأخلاق والدين.
الشروط الموضوعية لعصر التنوير
مهدت لهذا العصر أحداث وتطورات، أهمها النهضة الأوربية[ر] والإصلاح الديني[ر]، وتقويض أسس الحكم الملكي ـ الإقطاعي، وما رافق ذلك من صعود البرجوازية، ومن حروب وفتن وتوسعات اقتصادية وتجارية واختراعات علمية ومذاهب فلسفية جديدة.
1ـ الأحداث والتطورات التاريخية ـ السياسية: شهدت أوربة في القرن الثامن عشر نزاعات وحروباً كثيرة بين مختلف دول القارة، وداخل كل بلد، إضافة إلى مواجهات عسكرية مع الخارج كالحروب الأوربية ـ العثمانية والثورات التي غذتها النزعات القومية والدينية المتصارعة، وتلك التي جاءت نتيجة التوسع الاستعماري، خاصة في القارة الأمريكية الشمالية، وبعض مناطق آسيا وإفريقية، وقد رافق هذا التوسع نقل الخصومات القائمة في أوربة إلى المستعمرات، مما أدى في المنظور التاريخي ـ السياسي إلى نشوء وعي مناهض كان أساساً لاستقلال أمريكة الشمالية ولمقاومة الهند وبلدان جنوب شرقي آسيا والوطن العربي للهيمنة الأوربية.
وقد أعد السبيل لهذه التطورات خاصة في إنكلترة، منشأ عصر التنوير، أمر مهم أصبح مثلاً تقتدي به القوى المؤثرة في البلدان الأوربية الأخرى، هو الأحداث التي جرت في إنكلترة بين العامين 1688-1689، وأدى نجاحها إلى قلب موازين القوى بين الأرستقراطية والبرجوازية، وقيام الملكية الدستورية، وإنجاز مكاسب سياسية مهمة، فقد نقلت السلطة من يد الملك إلى البرلمان واتسع حق الانتخاب وحرية الصحافة، ورُفعت الرقابة على الفكر، كما عمَّ التسامح الأقليات الدينية، وتحددت مكانة الجيش في السياسة، وضُبطت حقوق المُلكية المطلقة وواجباتها، وتم إلغاء قصر ملكية الأراضي على الإقطاعي لتصبح حرية ملكية الأرض للجميع.
2ـ التحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية: شهدت أوربة بدءاً من الثورة الصناعية[ر] التي انطلقت من شمالي إنكلترة وجنوبي اسكتلندة، تغيرات مهمة بدلت أسس القاعدة الاقتصادية للمجتمعات الأوربية، وأحدثت هذه الثورة انهياراً في البنية الإقطاعية ـ الأرستقراطية، وأدت إلى نزاعات وثورات وإصلاحات جذرية. ومن بين العوامل الرئيسية لهذه التحولات، كان الغزو الاستعماري الأوربي ونشاط التجارة الدولية والتراكم المالي، ورافق هذا كله صعود البرجوازية وتوطيد الرأسمالية والتمايز الطبقي.
3ـ على صعيد العلم والفلسفة: في أعقاب إضعاف الحكم الاستبدادي والحد من سيطرة الكنيسة على جوانب الحياة الفكرية، تم للبرجوازية الأوربية أن ترسم صورتها للطبيعة والمجتمع والإنسان في صيغ فلسفية وأدبية وفنية جديدة، وهيأ لهذا التصور الجديد للعالم مذاهب فكرية وعلمية تمثلت في أعلام ورواد هذا العصر، مثل روجر بيكون[ر] R.Bacon وتوماس هوبس[ر] Th.Hobbes والفلسفة المادية والتجريبية[ر] وفلسفة القرن السابع عشر المتمثلة بديكارت[ر] واسبينوزا[ر] إلى جانب عمالقة في العلم مثل كيبلر[ر] وغاليلو[ر] وكذلك ممثلي العقلانية والليبرالية.
ويكمن وراء إيمان هذا العصر بأن «العلم سلطة» وليس غاية بذاته، وأنه وسيلة للتحكم في الطبيعة لا في إخضاعها قسراً بل الكشف عن قوانينها والعمل بموجب هذه القوانين، فهماً جديداً لوظيفة العلم والعلماء ومكانتهما، وتسخير المناهج العلمية الملائمة لبلوغ الهدف، والابتعاد عن أفكار الميتافيزيقة والدين.
عصر التنوير في إنكلترة
قاد عصر التنوير في إنكلترة الفيلسوف جون لوك[ر]، مؤسس التجريبية في المعرفة التي صارت أساساً لدى معظم المستنيرين، فرفضوا الأفكار الفطرية وقالوا إن المعرفة تُكتسب بسلسلة من العمليات الثابتة، تبدأ بالإحساس ثم الملاحظة والتجربة والاختبار لتنتهي إلى نشوء الأفكار في عقل الإنسان فيعلم ويعمل بها، مما أدى إلى رفض مفكري هذا القرن اللجوء إلى الحق الإلهي كقاعدة تبنى عليها علاقات تنظيم المجتمعات، فالحق هو حق طبيعي، والدولة لا تقوم إلا من أجل الحفاظ على الحقوق الطبيعية، أما أصل هذه الحقوق فهو في عقد يتم بين الشعب والحاكم ويأخذ شكلاً في الدولة تعلم الناس بالتجربة أنه الشكل الذي يتوافق مع حاجاتهم على أحسن وجه.
وقد تبع لوك في نظريته المادية التجريبية[ر] كل من دافيد هارتلي (1705-1757)D.Hartley وجوزيف بريستلي (1733-1804)J.Pristley وجون تولاند (1670-1722)J.Toland، كما تبعه مفكرون من اتجاه آخر يقول بمذهب التأليه deism، وآخرون من المفكرين الليبراليين مثل أنطوني كولينز (1676-1729)A.Collins وماثيوس تندال (1656-1725)M.Tindal وتوماس شوب (1679-1747)Th.Chubb واللورد بولينغبروك (1678-1751)L.Bolingbroke ووليم كوارد (1656-1725)W.Coward وهنري دودول (1641-1711)H.Dodwell وأندرو باكستر (1686-1750)A.Baxter.
وتحتل فلسفة الأخلاق في التنوير الإنكليزي مكانة أساسية لتمحورها حول أسس الأخلاق والمعضلات الناجمة عن التطور في الحياة. وتشمل الفلسفة الأخلاقية منظومة فكرية متكاملة حول الإنسان، فيها المعرفة والسياسة والفن والشعور والأخلاق بالمعنى الحصري والاقتصاد والدين. وقد اتخذت الأخلاق أساسها من العقل والطبيعة الإنسانية فنبذت الميتافيزيقة. وأشهر من مثل هذا الاتجاه برنارد دي مانديفيل (1670-1733)B.De Mandeville وكونت شافتسبري الثالث(1671-1713)Earl of Shaftesbury، ويرى ماندفيل في كتابه «أسطورة النحل» (1714) أن الدافع إلى التقدم والرقي ليس الفضيلة، بل هو المصلحة وحب التملك والكذب والخداع، أما شافتسبري فيوجه النقد اللاذع إلى الأخلاق المعتمدة على المادية، لأن الأخلاق من معطيات الفطرة في الإنسان وباتباعها تتحقق شخصيته ويقوم المجتمع الإنساني الصالح. وقد نهج خطا شافتسبري جوزيف بتلر (1692-1752)J.Butler وفرانسيس هتشسون(1694-1746)F.Hutcheson.
أما بركلي[ر] G.Berkeley فقد رفض المنطلق المادي في المعرفة والأخلاق وخالف سابقيه، وردّ التجربة في كتابه «مبادئ المعرفة الإنسانية» (1710) إلى نطاق التجربة الداخلية، وشكك بوجود عالم خارجي موضوعي.
ومثّل التصور الكلاسيكي في إنكلترة دافيد هيوم[ر] D.Hume، فأعماله في الفلسفة والأخلاق والسياسة وأبحاثه في التاريخ والدين تنم على موقف لا أدري يترجح بين المذهب المادي والمذهب المثالي الذاتي subjectivis، وتكمن أهمية هيوم في أنه عاد بالفلسفة، أمام تقدم العلوم الأخرى والاهتمام المتزايد بالتاريخ والمجتمع، إلى مرتكز أساسي في مهماتها، ووصل إلى موقف مشكك بأسس المعرفة التجريبية، فأحدث تحولاً في تاريخ الفلسفة حين وجد أن موضوعها هو علم الأسس والمبادئ منطلقاً من أن الإنسان هو حقيقة الكون المركزية وركيزة كل علم ومعرفة، وبهذا عزز هيوم العلاقة السببية بين التجربة والفكر.
ومع آدم سميث[ر] A.Smith صاحب كتاب «ثروة الأمم» ودافيد ريكاردو[ر] D.Ricardo وصلت المعرفة العلمية في حقل العلاقات الاقتصادية إلى أوجها كاشفة عن قوانين الحياة الاقتصادية ومقدِّمة أول أشكال التحليل العلمي لبنية المجتمع البرجوازي.
عصر التنوير في فرنسة
وهو «عصر الفلاسفة» أيضاً، وقال عنه فولتير[ر] إنه «فجر العقل، لأن النور والظلام يتصارعان فيه، ولأن الفكر والعلم ينشران البقع المضيئة على أرض الواقع دون أن تكون مسقطة عليه من عل»، وخلافاً للتنوير الإنكليزي، اتّسم عمل المتنورين الفرنسيين بالاتساق الفكري والشمولية.
ففي المرحلة الأولى من التنوير، اتجه المفكرون والعلماء نحو نظرية لوك (بدلاً من عقلانية ديكارت)، وتجاوزوا كل ميتافيزيقة تقليدية، فأعلنوا الحرب على النظام السياسي القائم وعلى هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على المجتمع والفكر.
فبرز بيير بيل[ر] P.Bayle الذي أعلن الحرب على الميتافيزيقة وقال بمجتمع ملحد، في كتابه «القاموس التاريخي والنقدي» الذي نُشر في أمستردام عام 1697، وأقر حق الإنسان ونادى بالتسامح الديني والفكري والسياسي، وانضم إلى بيل برنار دي فونتنيل[ر]B.De Fontenelle، أحد رواد فلسفة التاريخ، وتبعه جان ميزلييه (1664- 1729)J.Meslier.
وبرز فولتير الأديب والمفكر والمؤرخ لعصر التنوير، الذي دعا لقيام إصلاحات ترافق متطلبات التطور الاجتماعي البرجوازي. فشدد على دور البنية الاجتماعية في تكوين الوعي والمعرفة، ورأى أن التاريخ هو نتاج جميع الشعوب الذي تمثله إنجازاتها الثقافية والحضارية.
وأدخل مونتسيكيو[ر] الرؤية الفلسفية والعلمية الجديدة وطبقها على التاريخ وسير المؤسسات السياسية. فأظهر في كتابه «روح القوانين» (1748) أن الشرائع الحقوقية ليست أساس المجتمع بل هناك عوامل طبيعية وديمغرافية واقتصادية وغيرها تقوم بتحديد العلاقات الضرورية الناجمة عن طبيعة الأشياء والمعبرة عن «روح شعب ما». وارتبطت باسم مونتسيكيو نظرية الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية التي عرفت لها رواجاً في التصور الليبرالي للدولة في الأزمنة اللاحقة، وفي ثلاثينات ذلك القرن بدأت حركة التنوير تخرج إلى العلانية بصيغتها الجماعية، حين أخذ المفكرون المهاجرون يعودون إلى فرنسة، وانتشرت فيها أعمالهم المطبوعة في الخارج.
أما في المرحلة الثانية للتنوير، ظهر تأثير لوك ونيوتن وتقدم العلوم الطبيعية على الفكر بصيغة منظومة فلسفية شبه متكاملة. فقد دعا دولامتري[ر] J.de la Mettrie في كتابه «الإنسان الآلة» (1747) إلى اتباع «الحيوان ـ الآلة» الديكارتي، وقال ديدرو[ر] بأزلية المادة وصاغ بدايات الفكر الجدلي في فهمه لأصل الأنواع والأدب وعلم الجمال، وغلبت مع دولباخ[ر] نظرية حركة المادة بقدرتها الذاتية وتفاعل مكوناتها والصعود من الأدنى إلى الأعلى. أما بوفون فحاول بناء فلسفة طبيعية مؤسسة على القول إن المادة أوجدت نفسها، وإنها ليست بحاجة إلى فاعل خارج عنها ليوجدها، وقد تحققت فيها صفة الحياة والحركة بفعل ظروف مناخية وعضوية. وجهد كوندياك (1715-1780) E.Condillac في هذا الإطار أن يكون مادياً، فترجم نظرية لوك وطبقها وهاجم الفلسفات السابقة، وأكد أن النفس والأفكار والحواس هي نتاج التجربة والعادات، إلا أنه بقي يقول مع هذا كله إن الجسد لايمكن أن يكون سوى فاعل عرضي في نظرية الإحساس والمعرفة.
ومع إلفسيوس (1715-1770) C.A.Helvetius اتجهت المادية الفرنسية نحو فهم مادي للمجتمع والحياة فيه، كما ظهر ذلك في كتابه «حول الإنسان» (1773). وقد سعى هؤلاء المفكرون ومعهم عدد كبير من الأدباء والعلماء إلى توحيد جهودهم والعمل على تأليف الموسوعة الفرنسية، فعُرفوا باسم الموسوعيين، وقد ظهرت في 35مجلداً بين عامي (1751-1772) بإشراف ديدرو. ومع الموسوعة توحدت النظرة إلى وظيفة العلم في المجتمع مع الخلافات في الآراء حول كل موضوع بحث فيها. إن وحدة المعارف العلمية والأساليب التقنية والخبرات الإنتاجية التي تحققت في الموسوعة لم تعد تابعة لنظرية فلسفية، وقد رُفض فيها عد العلم غاية في ذاته، كونه قوة توضع في خدمة التنوير والإصلاح وتعطى وظيفة اجتماعية جديدة.
وظهر في هذه المرحلة أهم شخصية في عصر التنوير الفرنسي جان جاك روسو[ر]، الذي أراد تحقيق التنوير بالقلب والعاطفة، والعودة إلى الطبيعة، طبيعة الإنسان السعيدة البريئة، والقضاء على مجتمع المراتب والطبقات الذي أفسدته أشكال الحكم والدين والمؤسسات المختلفة. وربط تحقيق الحرية والمساواة بسيادة الشعب والديمقراطية المباشرة القائمة على عقد اجتماعي مؤسس على إرادة مواطنين أحرار متساوين وصالحين، ليست إرادة أكثرية بل جماعية.
وتلتصق المرحلة الثالثة للتنوير بالثورة الفرنسية، فقد أخفقت محاولات الإصلاح الاقتصادي والسياسي، واشتد تأثير حروب الاستقلال في أمريكة الشمالية وتوطيد الجمهورية هناك، ورافق ذلك انتشار الأفكار التنويرية وصقلها بصيغ أكثر جذرية، فتسبب ذلك في نقلة نوعية كانت إحدى دعائم الثورة، ويظهر هذا التأثير في أعمال كل من جان بول مارا (1743-1793)J.P.Marat وجان بيير بريسو (1754-1793)J.P.Brissot وأنطوان دي كوندورسيه (1743-1794)A.De Condorcet والكاهن إيمانويل سييس (1748-1836)E.Sieyès.
عصر التنوير في إسبانية
يعد التنوير الإسباني عمل مجموعات صغيرة وبعض الأفراد من النبلاء ورجال الدين والأطباء والمحامين الذي لم يمثلوا قوة اجتماعية جديدة، بل حققوا بإصرارهم على الإصلاح الاجتماعي والسياسي استتباب الليبرالية الوطنية في بداية القرن التاسع عشر (دستور قادش عام 1812).
وارتكز عمل دعاة الاتجاه المستنير على عداء للتعاليم المدرسية (سكولاستيكية) والأرسطية منادين بفلسفة جديدة تعتمد على التجربة وعلى آراء غاليلو ونيوتن وديكارت وبيير غاسندي[ر] (1592-1655)P.Gassendi، كما يظهر ذلك في أول كتاب فلسفي كُتب باللغة الإسبانية بعنوان «حوارات فلسفية للدفاع عن المذهب الذري» (1716) ومؤلفات أخرى في العلوم الطبيعية والفلسفية أهمها «انحطاط الصور الأرسطية» (1745) لدييغو ماتيو زاباتا D.M.Zapata،و«الفلسفة العقلانية والطبيعية» و«الميتافيزيقة والأخلاق» (1736) لخوان باتيستا بيرني J.B.Berni، و«فلسفة الشك» (1730) لمارتين مارتينيز M.Martinez.
واتجه المتنورون الإسبان نحو التاريخ والأدب الإسبانيين بتأثير من نظرة بعض الكتاب الفرنسيين الفوقية إلى هذين المجالين. فالكتابة حول تاريخ إسبانية وحضارتها كانت في أولويات اهتمام المؤسسات العلمية، خاصة بعد أن أُنشئت عام 1714 أكاديمية اللغة الملكية وتبعتها عام 1838 أكاديمية التاريخ الملكية، واتجهت الأبحاث في كل منها نحو إيجاد وعي وطني فخور بالذات والحضارة الخاصة. فألف غريغوريو مايان إيسيسكار (1699-1781)G.Mayan Isiscar في اللغة، وتوماس أنطونيو سانشيز (1725-1802)T.A.Sanchez في تاريخ الأدب وإنريكه فلوريس (1702-1773)E.Flores في تاريخ الكنيسة. كما ذهب آخرون إلى البحث في الحياة الاجتماعية من أمثال البندكتي بينيتو خيرونيمو فيخو إي مونتينيغرو (1676-1764)B.J.Feijóo في أشهر كتبه «المسرح العالمي النقدي» (1726-1741) المتأثر فيه بفونتينيل وبيل، والذي يكشف فيه سوء العادات والتقاليد وتحجر فكر الطبقات في المجتمع الإسباني. ويشارك فيخو في ذلك بندكتي آخر هو مارتين سارمينتو (1695-1772)M.Sarmiento الذي وضع الأسس النقدية لتاريخ الأدب الإسباني، ويذهب هؤلاء وراء الكشف عن أسباب الانحطاط والتقهقر وعلاقته بالتاريخ السابق، لكنهم يحجمون عن المطالبة بانقلاب جذري للأوضاع، بحجة أن التجديد renovacin كاف للنهوض بإسبانية والعودة بها إلى الازدهار والرقي.
ومع المركنتيلية شاعت في إسبانية الأدبيات الاقتصادية التابعة لآراء الفيزيوقراطيين الفرنسيين، ولاسيما تلك التي تناولت الإصلاح الزراعي والتجارة البرية والبحرية، وقد اشتُهر في هذه الدراسات فرانثيسكو كاباروس (1752-1810)F.Cabarrús وعمل المتنورون من جميع الاتجاهات على تثقيف العامة من الناس في العلوم الطبيعية والرياضيات ونشرها باللغة الإسبانية.
ومع طرد الرهبانية اليسوعية من إسبانية عام 1767 على يد السياسي أراندا (1618-1799)Aranda صديق ديدرو، قامت محاولات جادة لتقليص سلطة محاكم التفتيش والحد من نفوذها في الحياة الفكرية والاجتماعية، خاصة بعدما أراد الملك كارلوس الثالث (1759-1788) إنشاء كنيسة وطنية مستقلة، وأُسست في هذه الحقبة الجمعيات الاقتصادية لأصدقاء الوطن، وانتشرت في طول البلاد وعرضها، وتمركزت فيها القوى المستنيرة تنشر روح التنوير في التربية والأخلاق، فكسبت أعداداً كبيرة من الفلاحين والمتسولين وبعض فئات النبلاء غير المنتجين.
عصر التنوير في ألمانية
اتسم الفكر الألماني في القرن الثامن عشر بخلوه من التناقض، كان يترجح بين فلسفة مسيحية ومسيحية فلسفية، وتغلب عليه نزعة تأملية حافظت على المنطق والميتافيزيقة إطاراً لها. ثم إن معظم المفكرين الألمان كانوا من أساتذة الجامعات أو قساوسة الكنيسة أو الموظفين، وهذا ما يشرح جانباً من الطابع المحافظ للفكر الألماني في عصر التنوير، وبعد النبلاء والبرجوازية عن مجال الفكر. وساد في منتصف القرن الثامن عشر المذهب العقلاني في الفلسفة، وانتشر الفكر التنويري، وتحركت بعض القوى الاجتماعية لمحاربة الإقطاع والدغمائية الكنسية. ولاشك في أن ليبنتز[ر] وكريستيان توماسيوس (1655-1728)Chr.Thomasius هما أهم المعدين لهذا التغيير. ومع الانشقاق داخل الكنيسة البروتستنتية بين «الأتقياء» pietisten واللوثرية الأرثوذكسية المتحالفة مع الملكية والإقطاع هبت ريح الإصلاح والتجديد في مختلف جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية.
انطلقت حركة «الأتقياء» من جامعة هالّة وانتشرت في شمالي ألمانية وارتفع صوتها مع غوتفريد أرنولد (1666-1717)G.Arnold متهمة الكنيسة بالعداء لحرية الفكر والإنسان، إلا أن التأثير الأكبر كان لفلسفة توماسيوس وذلك لتناولها الموضوعات «الإنسانية» كالمطالبة بالتسامح الديني وحرية الرأي ومقاومة التحيز المسبق والسلطة وإلغاء التعذيب ووقف مطاردة السحرة. واتجه توماسيوس نحو إرضاء الفكر الشعبي بنزعة عملية تكثر فيها الإرشادات التربوية والنفسية والسلوكية، وانضم إلى «الأتقياء» منكراً قدرة العقل ومنادياً بصوفية روحانية، لكنه عاد فارتد عنهم كما يُفهم من كتابه «القانون الطبيعي» (1705)، وأعلن أن الحقوق والأخلاق مستقلة عن علوم الدين، وأن النور الطبيعي هو أساس كل معرفة وإدراك.
وأسهمت فلسفة كريستيان فولف(1679-1754)Chr.Wolf في تكوين التنوير الألماني، ففلسفته العقلانية المبنية على فلسفة ليبنتيز تفصل الأخلاق عن اللاهوت، وتوفق بين اللاهوت العقلاني واللاهوت الموحى به، وتنشد فلسفة على غرار الرياضيات، رافضة المبادئ الأرسطية و«الأتقياء» السطحية. ويتخذ فولف من التجربة والإحساس أساساً للمعرفة، ولهذا طُرد من جامعة هالة فلجأ إلى جامعة ماربورغ، لكن فريدريك الثاني أعاده إلى هالة، ووالى الفيلسوف في فلسفته الدولة الملكية المطلقة المستنيرة.
وانتشرت الفولفية في معظم جامعات ألمانية، ودخلت مع أتباعها إلى صفوف أكاديمية العلوم الملكية في برلين، وكان لمؤسسها الفضل في إثبات المصطلحات الفلسفية باللغة الألمانية، ومقاومة المادية والسكولاستيكية على حد سواء.
وفي منتصف القرن الثامن عشر تفرع أتباع فولف إلى ثلاثة تيارات: أَدخل التيار الأول، بزعامة هرمان سامويل ريماروس (1694-1768)H.S.Reimarus الأستاذ في هامبورغ، آراء المفكرين الإنكليز والفرنسيين وتعاليمهم إلى ألمانية، وتمسك التيار الثاني بالدين الطبيعي والعقلاني مع المحافظة على الإيمان، مقرراً أن ما يخالف العقل في الدين هو من وضع رجال الدين والمغرضين. واشتهر في هذا التيار أوغست فريدريخ وليم ساك (1703-1786)A.F.W.Sack، أما التيار الثالث فبقي متمسكاً بتعاليم الكنيسة اللوثرية مع الدفاع عن حرية الإنسان، وقد اشتهر منهم ياكوب باومغارتن (1706-1757)J.Baumgarten ويوهان دافيد ميخائيليس (1707-1791)J.D.Michaelis .
كما ظهر في ألمانية في عصر التنوير «فلسفة شعبية» في الصالونات ومنتديات الجمعيات العلمية والدينية، رفضت المنظومات الشاملة والمدرسية واللغة المعقدة، وعملت على نشر الفكر في الأوساط الشعبية وتربية حس شعبي يتذوق الأدب والجمال، وغلبت على الفكر بالتدريج تأثيرات البرجوازية الناشئة بعيداً عن تأثير العلوم الطبيعية، وتتمحور حول الإنسان وسعادته، وقد شاع من وراء ذلك الاهتمام بإنسانية الإنسان وتهذيب أخلاقه وخلجاته النفسية وتربيته. وتبنى هذه الفلسفة رجال المهن الحرة وموظفون مالبثوا أن غلب عليهم طابع التطور اللاحق، ومن بينهم رجال الأعمال موسيس مندلسون (1729-1786)M.Mendelsohn وفريدريخ نيكولاي (1733-1811)Fr.Nicolai الناشر والصحفي، وغوتهولد لسينغ (1729-1781)G.E.Lessing أكبر مسرحي في هذه الحقبة، وفريدريخ غوتليب كلوبشتوك (1724-1803)F.G.Klopstock الشاعر والناقد، وحاول هؤلاء مع كثيرين غيرهم التوحيد بين الفكر الفلسفي الجامعي والفكر الشعبي، والعمل على رفع هذا الأخير بوساطة النوع الأدبي والروح الجمالي إلى مستوى التوافق مع الأفكار الفلسفية والدينية والأخلاقية.
وفي عام 1770 بدأت مرحلة «العاصفة والاندفاع» Sturm und Drang وهي الحركة الأدبية التي أحدثت قطيعة في التنوير الألماني، وذلك بدعوتها إلى تحالف المثقفين البرجوازيين والفلاحين والعامة. وقد عبرت عن هذا الاتجاه أعمال أدبية شهيرة لغوته[ر] ولينز[ر] وشيلر[ر]، وهذا الأخير هو الذي طرح كلمة الجمهورية الألمانية في تاريخ ألمانية، فصارت موضوع جدال ونقاش عمّ مختلف الأوساط، إلا أن الأعمال الفكرية والأدبية في هذه الحقبة كانت سابقة للوضع المادي والاجتماعي فلم تأت بأكثر من حماس إيديولوجي. ومع الأثر الواضح الذي كان للمتنورين الفرنسيين والإنكليز على الفكر الفلسفي والسياسي والتاريخي في ألمانية لم يبق عصر التنوير فيها إلا بعض البصمات على الأدب والتربية، فمع المثالية الألمانية اتجه الفكر في منحى مغاير لما أدى إليه التنوير في بلاد أخرى.
عصر التنوير في إيطالية
إن معظم موضوعات عصر التنوير حاضرة في الفكر والعلم في إيطالية منذ عصر النهضة[ر]، وأول هذه الموضوعات علاقة الإنسان بالطبيعة والدور الذي لها في حياته وفكره، فقد وضعت العلوم والفلسفة والفن الإنسان (العالم الصغير) القادر على تحقيق حريته في مركز اهتماماتها، وكان من ثم على الفكر والعلم أن يكشفا عن طرق إخضاع الطبيعة (العالم الكبير) للإنسان، وكان في هذا المنطلق شؤون عدة واجهت منها النهضة ومن بعدها التنوير في إيطالية، سيادة تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، وتصورات أخلاقية وجمالية وميتافيزيقية. وقد ذهب ضحية الصراع رجال كبار في الفكر والعلم في تاريخ الإنسانية، في حين تمكن آخرون من الحفاظ على قناعاتهم ومقاومة السلطات القائمة. وقد غذت إيطالية البلدان الأوربية الأخرى بكثير من الأفكار والاختراعات، وفُتِحَت أمام تنويرها آفاق واسعة.
فقد عرف علم القانون في القرن الثامن عشر ازدهاراً يمكن تلمس آثاره في مدرسة ميلانو الحقوقية مع تشيزاره بكّاريا (1738-1794)C.Baccaria، الذي دافع عن المفهوم القانوني للجريمة والعقاب، وقال إن العقوبة لا يمكن أن تكون سوى وسيلة إعادة توازن اختل في خرق عقد ينظم الحياة في المجتمع، أما الحكم بالإعدام فلا يعتبره بكاريا وسيلة لإعادة التوازن الاجتماعي، لذا يجب إلغاؤه في كل بلد متمدّن.
وأسهمت الفلسفة الإيطالية في فهم المعضلات الفكرية والعلمية التي تداولتها أوساط الفلاسفة والعلماء في أوربة القرن الثامن عشر وفي حلها، وذلك على يد ثلاثة مفكرين هم لودوفيكو أنطونيو موراتوري(1672-1750)L.A.Muratori وجامباتيستا فيكو (1668-1744)G.Vico وبيترو جانّونه (1676-1748)P.Giannone، وكان اهتمامهم المشترك البعد عن النظريات والالتفات إلى المجتمع والحياة كموضوع للمعرفة والعلم، فوجدوا أن التاريخ هو ميدان البحث الحقيقي للمفكر، فجعل موراتوري الحس السليم ومنهج المعرفة الحسية حكماً على الفكر التاريخي، وذلك في كتابه «خطرات حول الحس السليم في العلوم والفنون» (1780)، فابتعد عن العقائد وكل ما يمت إلى الدين والتعصب بصلة، وطالب بأن تكون العقلانية أساساً للعلاقات بين الناس، في حين هاجم جانونه تجاوزات الكنيسة ودافع عن حقوق الدولة. أما فيكو[ر]، أشهر مفكري عصر التنوير في إيطالية، فقد ناصر رأي غاليلو وهوبس في أن الإنسان لا يعرف سوى ما أنتجه هو بنفسه. ووجد فيكو أن ما يصنعه الإنسان هو في الحقيقة التاريخ، فعلم التاريخ هو وحده العلم الحقيقي لا علم الطبيعة ولا الميتافيزيقة. وعنده أن تاريخ الإنسانية يقسم إلى ثلاثة أدوار: دور إلهي وشعري وبربري ساد فيه الورع والقانون الديني والسلطة الثيوقراطية، ويليه دور البطولة الذي تهيمن فيه القوة والشرف وتحكمه سلطة أرستقراطية، ودور بشري يهتدي بالعقل المتطور، ويتمسك بفكرة الواجب، وترعى شؤونه سلطة ديمقراطية دستورية. وبتأثير من هيمنة الكنيسة لم يكن لهؤلاء المفكرين ولا لأمثالهم حظ في صنع حركة تنويرية واسعة في المدن والمقاطعات والدويلات الإيطالية، بل بقيت هذه الحركة على هامش الحياة الفكرية والاجتماعية.
نقل عصر التنوير العلوم الطبيعية وعلم الإنسان والمجتمع إلى مقدمة اهتمام المفكر والسياسي، وجرّد الفكر من أسر الدين والميتافيزيقة، وظهرت أول مرة بوضوح في الإنتاج الفكري التناقضات الناجمة عن التطور المادي الاقتصادي ـ العلمي، تناقض بين المعرفة والإيمان نشأ معه العلم الجديد أداة لإخضاع الطبيعة وتحول في ممارسة الإنسان لحياته، تناقض بين الحق الطبيعي والمؤسسات المستتبة والمقدسة التي عمل عصر التنوير على دك أسسها، وتناقض من نوع جديد بين المصلحة الفردية والجماعية في إقامة نظام اجتماعي. وأضحى هذا التناقض محور الفكر الاجتماعي والتاريخي الذي طالب بحق الإنسان على نظام عادل يشبع حاجاته ويوفر له فرص ممارسة حريته وتحقيق الذات، كما تجاوز عصر التنوير هنا وهناك النظرة الفردية فأحله في قلب مجتمعه وتاريخه، وانتشر مع المنظومات الفكرية والعلمية الجديدة تصور عن المجتمع والدولة جعل منهما ظاهرة تاريخية خاضعة أيضاً لقوانين التطور والتغيير. ومع انتشار التأثير الأوربي في الوطن العربي عن طريق التجارة والحروب ثم الاستعمار وعن طريق الطباعة والاحتكاك والترجمة، كان لعصر التنوير تأثير على مفكري عصر النهضة العربية[ر] ماتزال آثاره ظاهرة في الأعمال الفكرية والأدبية والعلمية لا بل وفي أشكال تفتق التحولات الاجتماعية وتصور كثير من المفكرين والقائمين على شؤون الثقافة والحياة الاجتماعية والسياسية حتى اليوم.
غانم هنا
|
- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - المجلد : المجلد السابع - رقم الصفحة ضمن المجلد : 51 مشاركة :