وحدة الوجود
وحده وجود
Pantheism - Panthéisme
وحدة الوجود
وحدة الوجود pantheism or panentheism مذهب في الوجود يوحد الله والعالم، ويزعم أن كل شيء هو الله، أو أن الله هو كل شيء. بمعنى أن الله مبدأ لا شخصي، متوحد مع الطبيعة، وحال فيها؛ وأن الله ليس مستقلاً عن العالم، وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية، وليس له وجود في ذاته، لأنه يصدر عن الله بالتجلي أو يفيض عنه كما يفيض النور عن الشمس.
اتخذ مذهب وحدة الوجود صوراً عديدة، وبقيت مقولته واحدة، تفسر الوجود أحادياً: فترى أن الوجود كله (الله والعالم والإنسان) هو إما واحد في جوهره، وإما كل متوحد من حيث أصله ومرجعه ووجوده، فتردُّ مظاهر الوجود المتنوعة كلها إلى مبدأ واحد وجوهر واحد؛ فالله والعالم والإنسان أعمدة ثلاثة تتقاسم كل تفسير فلسفي للوجود. وعليه تقلَّب مذهب وحدة الوجود منذ نشأته بصياغات مختلفة بدءاً من كتابات الهند القديمة وصولاً إلى الفكر العربي الإسلامي، وتولَّد عنه مدارس فكرية متنوعة في التاريخ الفلسفي للبشرية، يمكن حصرها في تيارات كبرى ثلاثة:
الأول: تيار حلولي يجعل الله مجموعَ العالم الموجود، فيرى أن الله يحل في كل شيء، وكل شيء يتحد بالله لأنه جزء منه، وتظهر هذه الوحدة الحلولية في صورتين: الأولى: ما ورائية روحية، تجلت في مذاهب الهند (وحدة البراهمية)، التي تردُّ كل شيء إلى الله، وتعتقد أن براهمان هو الحقيقة الكلية ونفس العالم، وأن جميع الأشياء الأخرى ليست سوى أعراض ومظاهر لهذه الحقيقة؛ والثانية: مادية أو طبيعية توحدُ الله والطبيعة، وتمثلت أيضاً في صورتين فلسفيتين: صورة قديمة ألغت الوجود الإلهي وقالت بالوجود الطبيعي فقط، وادعت أن عالم الألوهية نفسه نتاج إنساني، كما في الوحدة البوذية والوحدة اليونانية، في بحثها عن وحدة العنصر المكِّون للوجود الموجود. فالعالم وحده هو الحقيقي، وكل شيء يُردُّ إلى المادة الحية بذاتها، والتي عنها نشأت الكائنات جميعها، وما الله إلا مجموع كل ما هو موجود في العالم. وهذه الصورة ظهرت حديثاً في مذهب ديدرو[ر] Diderot وهولباخ[ر] Holbach واليسارية الهيغلية[ر. هيغل]. وصورة الوحدة الفلسفية الفكرية المثالية التي تتمثل في الوحدة السبينوزية[ر. اسبينوزا]، وفي الوحدة المثالية الهيغلية، حيث الله هو الجوهر المطلق، وهو الموجود الحق.
الثاني: تيار وحـدة وجـود فيضية أو صدورية (كوحـدة أفلوطين [ر])، وترى أن الله واحد وأن العالم يفيض عنه بتراتب وجودي؛ وهذا العالم ـ أي كل شيء ـ يصبو إلى الاتحاد بالله الذي هو مصدر وجوده وجوهره، ليشكل معه موجوداً واحداً.
الثالث: تيار صوفي إسلامي، يمثله ثلاث فـرق، فرقـة تقول بوحـدة وجـود عقائدية، وترى أن الوجـود واحـد لا يتجزأ، فما ثمة إلا وجـود واحـد، والموجودات هي صور قائمة بالوجـود الواحـد. وهذه الوحـدة قالها ابن عـربي [ر] (561ـ638هـ/1165ـ1240م)، ومدرسته من بعده، وعبد الكريم الجيلي (767ـ828هـ/1365ـ1424م)، والمدرسة الشاذلية. وفرقة تقول بوحدة وجود مطلقة، وترى أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله. فالله هو الحق، وليس هناك إلا موجود واحد، وهو الموجود المطلق. وهذه الوحدة نادى بها ابن سبعين (510ـ569هـ/1216ـ1270م) ومدرسته. وفرقة ثالثة تقول بوحدة وجود نورانية، وترى أن الوجود كله نور، كوحدة السهروردي (550ـ587هـ/1155ـ1191م).
ترجع جذور هذا المذهب تاريخياً إلى أصول هندية، فقد انطوت كتب الهند المقدسة «الڤيدا»[ر] Veda، ولاسيما أشعار «ريغڤيدا» على مؤشرات عقيدة وحدة الوجود التي اكتملت معالمها في المناهج الهندوسية[ر] Hinduism الستة المستمدة من تعاليم الأوبانيشاد بأركانه الثلاثة (خاصة الڤيدانتا): الأتمان، البراهمان، الخلاص. حيث يتم الخلاص بمعرفة الإنسان لبراهمان جوهراً أبدياً أزلياً، جوهرَ الوجود الموجود، وعليه تجري صور الموجودات، فهو في كل شيء، وكل شيء في براهمان. وهو تعبير عن وحدة الكون الموجود.
وتظهر ملامح وحدة الوجود الطبيعية في طاوية[ر] Taoism الصين في كتابهم الرئيس «طريق العقل والفضيلة» الذي يؤكد أن جميع الحقائق الوجودية الظاهرة تتولد من تعارض عنصرين أساسيين في الكون واتحادهما اليانغ yang والينغ ying، واللذين يشكلان وحدة كونية عظيمة.أما طاوية لاو تزو Lao Tzu فأكدت وحدة وجود مسارها نشاط الطبيعة. فالطاو Tao هو المطلق، ومبدأ جميع الأشياء في العالم، وجماع كل ما هو موجود، وفيه تتوحد جميع القوانين، ويتجلى نظام الطبيعة. ونادت طاوية «تشوانغ تزو» Tchuang Tzu بوحدة الكون الحيوية، بوصف الطاو الوحدة العالمية التي تصهر كل المتناقضات.
وترى بوذية زن [ر] Zen Buddhism في اليابان والصين أن طبيعة بوذا تكمن في جميع الكائنات البشرية بسبب الاتحاد المطلق مع جوهره الحقيقي، الذي يسمو على جميع فوارق المادة. فالإنسان والطبيعة واحد في مجرى الحياة ووحدتها.
أما على صعيد الفكر الفلسفي اليوناني فقد فارق مذهب وحدة الوجود منشأه الديني، والمعقول الإيماني الشعبي في الشرق الأقصى؛ ليدخل عالم الفلسفة الإنسانية، والمعقول العقلي في البحث في أصل الكون وجوهر الأشياء. فردّ فلاسفة الطبيعة الوجود إلى أصل واحد ومبدأ أولي للكون؛ حدده طاليس[ر] Thales بالماء، وإليه أرجع جميع الظواهر الكونية. وسماه أنكسيمندر Anaximander اللامتناهي Apeiron وعده المبدأ الحاوي لكل شيء ومنه تكوَّن كل شيء. ودعاه أنكسيمانس[ر] Anaximenes الهواء، ورأى فيه الجوهر الأوحد لكل الأشياء الذي يحفظ تماسك الكون بما فيه الإنسان، ومنه نشأت الأشياء كلها حتى الآلهة. وعبر عنه هيراقليطس[ر] Heraclitus بالنار الإلهية، فأرجع الموجودات كلها إلى تحولات دائمة مستمرة للنار الإلهية، «فالعالم قديم لم يخلقه إله، فقد كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد ناراً حية لا تخمد».
وذهب كل من زينوفان[ر] Xenophanes وبارمِنيدس[ر] Parmenides إلى أن الله هو عقل العالم ويكوِّنان وحدة ساكنة. بمعنى أن العقل والكون شيء واحد، وهذا الوجود الواحد ساكن سكوناً سرمدياً لا يتحلل ولا يتحرك، وهو وجود متجانس لا يتبدل ولا ينقسم. وهذا الكون هو الإله الواحد.
وأقام فلاسفة الرواقية[ر] Stoicism خاصة زينون الأكتيومي Zenoت(335ـ263ق.م) وحدة الكون على وجود قوة موحدة للجوهر الجسمي، فأكدوا أن العالم هو الله، والعالم بكليته كائن عاقل وحكيم، والكون الذي يظهر بوصفه مادياً تسري فيه قوة موحدة بمنزلة النفس، فالله والعالم يشكلان وحدة مادية، الله هو النفس، والعالم هو الجسم. والله حاضر في كل جزء من أجزاء الكون.
وصهرت وحدة أفلوطين[ر] Plotinus الوجودية الفكر اليوناني والفكر الشرقي الهندي في نظرية الفيض[ر] emanation بإظهار العلاقة الوجودية بين النفس الإنسانية بأعلى مراتبها وبين الواحد، بردّ الكثرة إلى الواحد، والقول بتراتبية بين الأقانيم الثلاثة (الواحد والعقل الكلي والنفس الكلية) تشكل وحدة وجودية حقيقية يمثل فيها الواحدُ الجوهر المطلق لكل موجود، ويمثل العالمُ ظلاً لهذه الوحدة الحقيقة.
ومع الفلسفة الحديثة ترسخت وحدة وجود فلسفية مثالية تسربت إلى العقول الغربية، فوجد اسبينوزا[ر] Spinoza أن الله هو الجوهر السرمدي المطلق، والوحيد الموجود بذاته. أما سائر الموجودات الأخرى فهي أعراض له. إن الله والطبيعة أو الكون شيء واحد أو وجهان لشيء واحد، فالله هو الطبيعة الطابعة، والكون هو الطبيعة المطبوعة، في حين رد هيغل [ر] Hegel العالم بأسره إلى الفكرة أو الروح المطلق، بوصفه الوجود الحقيقي، أما الفكر والطبيعة فهما حالان من أحوال المطلق. فوحدة الوجود المثالية تقرر أن الله هو الروح الكلي الكامن في الأرواح الجزئية.
وفي العالم الإسلامي: مغربه ومشرقه ظهرت مقدمات مذهب وحدة وجود صوفية. وأخذت هذه المقدمات منطلقاًًًًً ومساراً ووجهاً مختلفاً في المغرب عنها في المشرق؛ فتجلّت صوفية المغرب في صور فلسفة إشراقية، باطنية، على حين بدأت وحدة الوجود في دائرة صوفية المشرق مع الفناء الصوفي بحاليه: الفناء عشقاً والفناء توحيداً، وكان لهذا دور فعال في تكوين ثقافة محيي الدين بن عربي[ر]، مؤسس مذهب الوجود الواحد.
فظهرت بدايات الحب الإلهي مع رابعة العدوية (95ـ185هـ/713ـ801م)، ثم طور ذو النون أبو الفيض ثوبان المصري (توفي 245هـ) مفهوم الحب، فتجاوز جميع الأحوال، طالباً الله فقط، كما فعل الحلاج[ر] فيما بعد، متجاوزاً دواعي الحق إلى الحق. ثم عمق عبد الرحمن بن محمد البسطامي[ر] مفهوم الفناء الصوفي في التوحيد، إيماناً منه بقول الله تعالى ]إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المْؤمِنِينَ أَنفُسَهُمْ[ (التوبة 111). وانسجم العشق الإلهي مع التعبير الشعري، واتسق التوحيد الصوفي مع نثر وجداني توحد فيه المحب والمحبوب، فظهر عند الحلاج وابن الفارض[ر] وفريد الدين العطار[ر] وجلال الدين الرومي[ر]، وغيرهم من الشعراء الفرس المتأثرين بابن عربي. وظهر أقوى تعبير شعري في التصوف الإسلامي في ديوان الحلاج (قتل 309هـ). فأسهمت أشعاره في تحريك الوجدان الصوفي، باتجاه رؤية وحدوية للوجود، رؤية تلغي الإنسان ليتجلى الوجود الإلهي ساحقاً كل الهويّات، فقال بحلول الله في الإنسان:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وتكاتفت كل الأفكار السابقة في الميدان الفلسفي والكلامي والصوفي، لتُحضِّر المناخ الفكري الملائم لولادة نظريات تجمع الأشكال المتعددة للوجود، أهمها ثلاث، وحدة وجود نورانية: السهروردي[ر]؛ وحدة وجود مطلقة: ابن سبعين[ر]؛ وحدة وجود عقائدية: ابن عربي.
تظهر وحدة وجود السهروردي في قوله: «إن النور هو أصل الوجود، وإن العالم كله إشراق نوراني, هو فعل إشراق، يتجدد باستمرار في تدفق وحركية». فالوجود نور يتنزل من مرتبة نور الأنوار، أي الله، باتجاه مرتبة الظلمة، أي العالم المادي. وقد انتشر هذا التراث الإشراقي سريعاً في الشرق الفارسي، وتوالت الشروحات على مؤلفات السهروردي، فبرز قطب الدين الشيرازي، ثم نصير الدين الطوسي[ر] (598ـ673هـ/1201ـ1274م)، ثم أحيت مدرسة أصفهان دراسة الفلسفة والحكمة، فأسس ميرداماد (1040هـ) مدرسة سيناوية ذات طابع سهروردي، وترأسها فيما بعد تلميذه ملا صدر الشيرازي (توفي 1050هـ)، الذي دمج عقائد السهروردي مع تعاليم ابن عربي في قالب من التعاليم الشيعية وخاصة العناصر الإلهية الواردة في «نهج البلاغة». وقد استمرت العقائد الإشراقية تدرس في إيران وشبه القارة الهندية قروناً طويلة.
ودعا ابن سبعين مذهبه في تفسير الوجود بالوحدة المطلقة، أو الوحدة الخالصة، أو الإحاطة التي تنكر كل النسب والإضافات والأسماء. فرأى أن الله هو الوجود وهو الجوهر الثابت، في حين أن كل المراتب الوجودية المختلفة هي أعراض لهذا الوجود الواحد؛ وعليه فهي زائلة باطلة هالكة وهمية، والله فقط هو حقيقة الأشياء كلها. ولم تحظ مقولة ابن سبعين في الوحدة المطلقة: «الله هو كل موجود» بقبول العالم الإسلامي لتنافيها مع صورة الله المتعالي المنزه في الإسلام، فلم تحرك كتاباته عقول المفكرين بل انتقلت بحذر عبر الأفراد فقط.
وتمثلت في ابن عربي الروح الإسلامية بكل ألوانها ودرجات ترقيها: اعتقاداً ومسلكاً، فتحلى طرحه لمذهب وحدة الوجود بالإحاطة والشمول، ورأى أن الوجود هو عين الذات الإلهية، وأن الكثرة موجودة مشهودة، فجمع المقولتين في فعل صوفي واحد هو شهود وحدة الوجود. فالله وحده هو الوجود، والكائنات جميعها ثابتة في العدم؛ فالعدم خاصة المخلوقات، والوجود خاصة الخالق. وشبه ابن عربي علاقة الحق بالخلق كالشمس ونورها: «فالموجودات كلها نور من أنوار شمس القدرة، فليس لنور الشمس مع الشمس رتبة المعيّة، بل رتبة الشمعية»، فالنورـ أي الوجود واحد ـ تتعدد ظلاله بتعدد الأشياء التي امتد إليها. «فالحق والخلق وجهان لحقيقة واحدة». والحقيقة الوجودية واحدة في جوهرها وذاتها، متكثرة بصفاتها وأسمائها لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والإضافات، إذا نظر إليها من حيث ذاتها فهي الحق، وإذا نظر إليها من حيث صفاتها فهي الخلق.
وتداخل أثر ابن عربي في المغرب العربي مع أثر أبي الحسن الشاذلي[ر]، ومع ابن عطاء الله السكندري[ر] الذي أقام مذهبه على الذوق الصوفي المعبرعنه «بشهود الأحدية»، ومؤداه أن الله تعالى هو الوجود الحقيقي باعتبار جميع مراتب الوجود, وما سواه من الأكوان لا يثبت له رتبة الوجود الحقيقي، وإنما وجوده الظاهري المحسوس ليس حقيقياً بل متوهماً. وتسلل مذهب ابن عربي إلى كل الأذهان، فحظي بحضور لا نظير له، وشغل المغرب العربي والمشرق الفارسي، وقسم المفكرين ما بين معارض (ابن تيمية[ر] وابن خلدون[ر]) ومؤيد (السهروردي وفخر الدين الرازي[ر]). ولم يمنع هجوم ابن تيمية من ظهور أنصار لابن عربي أمثال عبد الكريم الجيلي[ر]، الذي حافظ على تماسك مذهب وحدة الوجود بالصيغة التي أقرها ابن عربي تماسكاً منهجياًً قرَّبها من الكتابات الفلسفية الصرفة. كما أنه لم يبق أثره حصراً على العالم الإسلامي، بل تخطاه إلى آفاق غربية، وأثر بالشاعر الشهير دانتي[ر] Dante Alighieriت(1265ـ1321) في مؤلفه «الكوميديا الإلهية».
وعلى الرغم من تصدي الكثير من العلماء لمذهب وحدة الوجود، ظل حياً مستمراً باقياً في الوسط الإشراقي والفلسفي والصوفي والأدبي، فأحرز أهمية في تكوين الوعي الفلسفي المعاصر وخاصة في رؤيته لله والإنسان والمصير الإنساني.
هيفرو ديركي
الموضوعات ذات الصلة: |
بوذا ـ التصوف.
مراجع للاستزادة: |
ـ هيفرو ديركي، المعرفة وحدودها عند ابن عربي (دار التكوين، دمشق 2006).
ـ محمد الراشد، مسارات وحدة الوجود في التصوف الإسلامي (دار الأوائل، دمشق 2004).
ـ لاوتزو، كتاب الطاو، ترجمة: فراس سواح (دار نشر علاء الدين، دمشق 1988).
ـ وولتز ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد (دار الثقافة، القاهرة 1984).
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد الثاني والعشرون - رقم الصفحة ضمن المجلد : 158 مشاركة :