الربط ودور المتصوفة
ربط ودور متصوفه
Al-Rubut - Al-Rubut
الرُّبُط ودور المتصوفة
الرباط، في اللغة، كالمرابطة بمعنى: ملازمة الثغور (حدود الدولة الإسلامية) أمام العدو لحمايتها وصدّ الأعداء عنها، مع المواظبة على الشعائر الدينية فيها. ومنه قوله تعالى: )وأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّة وَمِنْ ربَاطِ الخَيْلِ( ( الأنفال: 60) وقولـه أيضاً في آخـر سـورة آل عمران: )يَا أَيُها الَّذِينَ آَمَنَوا اصْبِروا وصَابِرُوا ورَابِطُوا واتَّقُوا اللهَ لَعَلكُم تُفْلِحُون(.
ومن هذا ما روي أن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز كان يرابط كل عام مع الجند في ثغر قنسرين، قرب حلب.
ثم تطور مفهوم (الرباط) قليلاً، مع كثرة الفتوح وانتشارها في البلاد، وأصبح هذا الاسم مصطلحاً يطلق على نوع من المباني العسكرية أو الدور الواسعة الحصينة التي جعلت مقراً للمقاتلين، ومركزاً للجهاد والعبادة معاً، وممراً للبريد، ومأوى للقوافل، ومعنى ذلك أن هذا البناء العسكري الديني يجمع صفتين: الأولى حربية والثانية دينية، وهو خاص بالمجاهدين المتعبدين. وجمعوه على رُبُطٍ ورباطات.
ومن هذا يُعلم أن الأسباب التي دعت إلى إقامة هذه الرُّبط في بلاد العرب والإسلام هي أن يحمي المسلمون أنفسهم من غارات الروم البيزنطيين على تخوم دولتهم من شتى الجهات، ولاسيما حدود سورية الشمالية المقابلة لآسيا الصغرى والمعرّضة للخطر مثل طرَسوس وأَذَنة والمَصيصة ومَرْعَش ومَلَطْية وغيرها في المشرق، وكذلك الأمر في الشمال الإفريقي من المغرب، بعد أن انتشر الإسلام واتصلت حدوده بدول معادية قوية.ومن ثم عُزّزت الثغور بالرباطات التي كان يقيم فيها المجاهدون لدفع الغارات، أو للوثوب على الأعداء.
وعُرفت هذه الرّبُط منذ الفتوح الإسلامية في القرن الهجري الأول. وكانت في أول أمرها بسيطة البناء، عسكرية الطابع، مناسبة لمجاهدين متعبدين، حيث يتألف الرّباط من غرف للسكنى، ومخازن للمؤن والعتاد الحربي. ولكنها ما لبثت على مرّ العصور أن اتسع شأنها وعمرانها باتّساع الفتوح والحروب، ومُنح الجند فيها - إضافة إلى رواتبهم - أراضي قاموا بتعميرها وزراعتها هم وأفراد أُسرهم، كما أصبحت هذه الثغور المحصنة مراكز للعلماء والشعراء، يتفرّغون فيها للبحث والدرس، ومقصداً لغزاة المسلمين من أنحاء الدولة الإسلامية حيث يرابطون فيها،وتكثر لديهم الصلات والأموال، ويغزون صيفاً وشتاء (الصوائف والشواتي) لأنهم كانوا يعدّون ذلك نوعاً من الجهاد في سبيل الله، سواء أكان ذلك في مشرق البلاد، أم في مغربها وأندلسها.
وقد بدأ انتشار الرُّبط في شمالي إفريقية ولاسيما المغرب العربي عند الثغور المتاخمة للأعداء حين توالت المعارك بين المسلمين وبين الإسبان والبرتغال، ثم اتسعت في سائر البلاد العربية والإسلامية حتى بلغ عددها آلافاً منذ القرن السادس للهجرة أيام الدولتين النورية والصلاحية وما بعدهما، وبقيت تحمل طابعيها الحربي والجهادي وهذا ما أدى إلى أن تصبح الرُّبط - في أرقى أحوالها - مباني محصنةً ذات تخطيط مستطيل، ومزودةً بأبراج في أركانها، ويتوسطها فناءٌ في الداخل تحفّ به حجرات منفردة صغيرة بلا نوافذ، ويُلحق به مسجد مناسب لعدد المقيمين في الرباط، ومئذنة عالية تصلح لمراقبة السواحل والطرق من غدر الأعداء، وقد يكون في الرباط الكبير أيضاً مستشفى صغير للمرضى يعالجهم فيه المرابطون والمرابطات مجاناً، والرباط كذلك دار للمسافرين مرحلةً بعد مرحلة، ومدرسة يقيم فيها المرابطون احتساباً للعلم. وهو دار استنساخ للمصاحف وكتب الفقه والحديث والتفسير، وفيه مكتبة جدارية تضم النسخ الأمهات من تلك الكتب، وهذا ما أدى ببعض الرُبط إلى أن تصبح مدناً كبيرةً فيما بعد، ومنها مدينة «الرِّباط» العاصمة السياسية اليوم للمملكة المغربية، وكانت تعرف قديماً بـ«رباط الفتح» وراؤها مكسورة، خلافاً لما شاع من فتحها.
ومع استقرار العلاقات السياسية في العصور المتأخرة، اتخذت الرّبط في البلاد العربية والإسلامية طابعاً دينياً صرفاً. وأصبح الرباط مكاناً مخصصاً للعبادة والعزلة عن الناس داخل العواصم والمدن الكبرى، بعد أن كان بناء عسكرياً دينياً يقام عند تخوم الدولة وحدودها مع الأعداء للجهاد والعبادة معاً، وآل أمره إلى مأوى للطرق الصوفية، يتولى تقديم الطعام والمبيت للمريدين والمعتكفين رجالاً ونساءً، وينظم علاقتهم بشيخهم، كما أصبح مأوى للمتعيّشين وأبناء السبيل. لذلك كله شبهه بعض المستشرقين بالدّير عند النصارى قديماً. وبذلك أصبح الرّباط في المدن من جملة المشروعات الخيرية الاجتماعية، ويلحق به أحياناً أجنحة للأيتام والأرامل والمكفوفين وأصحاب الأمراض المزمنة. وهذا ما جعل أفراداً من المحسنين الميسورين يقومون ببناء رباطات صغيرة على نفقتهم الخاصة، تؤدي بعض الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية للناس، وربما أطلق على الرباط الصغير اسم «التكيّة» أو «الزاوية» أو «الخانقاه» ومن ثم كثرت التكايا والزوايا والخانقاهات، إلى جانب الرباطات، أيام العثمانيين، واختلطت مدلولاتها جميعاً، لاشتراكها في معظم الخصائص والصفات، بلا فوارق واضحة أو دقيقة، وكثر عددها جداً في مختلف المدن والعواصم العربية والإسلامية.
ومن أشهر هذه الربط : «الرباط الخسروي» بحلب قُبالة القلعة، وبناؤه ملحق بمسجد عظيم يضم مدرسة ورباطاً ومطبخاً. وقد بناه خسرو باشا سنة 951هـ في أيام الدولة العثمانية. ولم يبق اليوم سوى المسجد والمدرسة معاً، وتلاشى أمر الرباط الذي يسمى أحياناً «التكية».
ومثل ذلك الرباط الذي شيده في مدينة «بروسة» التركيـة المولى إسماعيل الحقي، المتصوف المفسّر (1127هـ/1715م ) وجعله مسجداً ورباطاً لأغراض دينية وصوفية.
وفي حلب «رباط إبراهيم باشا» الذي كان يعرف قديماً بالرباط العسكري، وقد شيده إبراهيم باشا بن محمد علي باشا المصري سنة 1248هـ على الجبل الأحمر بعد استيلائه على حلب، ويعدّ من أجل الآثار العمرانية الحصينة التي شيدت في العهد العثماني، ولا نظير له من حيث موقعه واتساعه وكثرة حجراته. وكان فيه مختلف مرافق الحياة من فرن ورحى ومكان لنسج الأقمشة وعمل الأحذية، وقد رُمّم وجُدّد غير مرة، وأصبح في آخر أمره ثكنة عسكرية للجيش العثماني تعرف بثكنة «الشيخ يبرق» المدفون فيه.
على أن معظم الرُّبط العسكرية والدينية قد خرب واندثر، والباقي منها أبنية أثرية إما مهجورة، وإما مستخدمة لأغراض مختلفة كمستودعات للبضائع التجارية، أو مراكز تسوّق، أو كتاتيب للتعليم أو تتخذ للعبادة والاعتكاف وإقامة الصلوات والذكْر وإطعام الفقراء وما إلى ذلك.
محمود فاخوري
مراجع للاستزادة: |
ـ محمد أسعد طلس، الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب (دمشق 1956م).
ـ حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي (القاهرة 1967م).
ـ محمد كرد علي، خطط الشام (بيروت 1969 ـ 1971م).
ـ عمر رضا كحالة، دراسات اجتماعية في العصور الإسلامية (دمشق 1973م).
- التصنيف : التاريخ - النوع : دين - المجلد : المجلد التاسع - رقم الصفحة ضمن المجلد : 773 مشاركة :