إثيوبية (التاريخ)
اثيوبيه (تاريخ)
Ethiopia - Ethiopie
تاريخ إثيوبية وحضارتها
إثيوبية كلمة يونانية الأصل ومعناها بلاد الوجوه المحروقة، وقد ذكرها هوميروس في الأوديسة وفي الإلياذة،،وهيرودوت في تاريخه، واسترابو في جغرافيته، وديودوروس الصقلي في مؤلَّفه «مكتبة التاريخ»، وبلينيوس Pliny في موسوعته «التاريخ الطبيعي». ولكن أياً من هؤلاء لم يكن يعني إثيوبية الحالية، بل بلاداً - قد تكون قريبة منها أو بعيدة عنها - يسكنها أقوام ذوو بشرة داكنة. وأشار الإنجيل (أعمال الرسل 8/27) إلى أن وزير ملكة إثيوبية «كندالة» اعتنق المسيحية. غير أن المراد هنا مملكة تعاقب على حكمها بضع ملكات حملن هذا اللقب وكانت حاضرتها «مروى» على النيل شمال الخرطوم الحالية. أما وصف بعض الباحثين الأسرة الخامسة والعشرين (730- 665 ق,م) في مصر الفرعونية بأنها إثيوبية فلايعني سوى أنها نوبية أو سودانية.
ويرى بعض المؤلفين أن إثيوبية حملت أيضاً اسم «كوش» عند القدماء غير أن الراجح أنه ورد ذكر بلاد كوش في الكتابات المصرية القديمة منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة (1575- 1308 ق.م) ثم في تاريخ وقائع الملك الآشوري آشور بانيبال (668- 626ق.م) أما في العهد القديم فيرد اسم كوش علماً على أحد أبناء حام الأربعة أو اسماً لبلاد لم تحدد تحديداً دقيقاً وإن كان الغالب أن المراد بها النوبة والسودان. وتمثل رسوم على جدران معبد الملكة حتشبسوت (1490- 1468ق.م) - الأسرة الثامنة عشرة - في الدير البحري بطيبة الغربية بعثة بحرية أوفدتها الملكة إلى بلاد بونت Pont للحصول على أشجار الكندر والأبنوس والبخور والمرّ والعاج وسواها، وقد قيل إن تلك البلاد هي إثيوبية، بيد أن آراء الباحثين تذهب في تحديد موقعها مذاهب شتى حتى يجعلها بعضهم في الصومال بل في موريتانية.
أما الاسم الآخر لإثيوبية وهو «الحبشة» فقد ورد، أول ما ورد، في النقوش اليمنية القديمة بدءاً من أواخر القرن الثاني الميلادي إشارة إلى «أكسوم» أقدم دولة قامت هناك.
التاريخ القديم
ما قبل أكسوم: إن ما يتوافر من معلومات مستقاة من مصادر قديمة ومن الكشوف الأثرية لايعود بنا إلى تلك الحقبة البعيدة، ذلك أن نتائج دراسة المواقع الأثرية في شمالي إثيوبية ترجح عبور جماعات يمنية البحر الأحمر في النصف الثاني من الألف الأول ق.م، حيث استقرت أول الأمر في المنطقة الساحلية ثم توسعت إلى الداخل لتقيم حضارة شبيهة بتلك المعروفة في اليمن القديم، وتقدم الدليل على ذلك النقوش المكشوفة في المنطقتين المذكورتين من حيث لغتها وخطها ومضمونها، وكذلك الطراز المعماري وأسلوب النحت، فقد عثر على مجموعة من النقوش المكتوبة بالخط العربي الجنوبي «المُسند» أو بخط قريب منه - ولغتها سبئية أو وثيقة الصلة بها - تتضمن أسماء لآلهة وأشخاص وأمكنة وردت في النقوش اليمنية القديمة. وثمة شبه واضح بين تصميم واجهة معبد يحا Yeha - على بعد 50 كم من الشرق من أكسوم - وقاعدته المدرجة والمباني المماثلة له - ولاسيما المعبد الكبير - في مأرب، كما يلاحظ هذا الشبه في المباخر والمذابح الحجرية وكذلك في أسلوب المنحوتات البارزة وفي أشكال التماثيل ومنصات القرابين وفي استخدام الرموز المقدسة كالهلال مثلاً.
وكان الباحثون حتى عهد قريب يرون أن حضارة هذه الحقبة من صنع المهاجرين الذين عبروا البحر الأحمر وحدهم، غير أن الرأي السائد الآن يذهب إلى مشاركة السكان المحليين في ذلك ويقسمها إلى مرحلتين: أولاهما مرحلة سبئية - إثيوبية مشتركة تمتد من عام 500 ق.م إلى عام 300 ق.م، والثانية مرحلة يظهر فيها تأثير قادم من مملكة مروى في الشمال ممثلاً في الأدوات البرونزية والحديدية والفخارية وفي الحلي الذهبية، وكذلك من مصر الهلينية ممثلاً في الأساليب الفنية في النحت. ولكن هذا الأمر لايعني زوال تأثير اليمن القديم، إذ كشفت قطع برونزية مثقوبة على شكل بطاقات مزينة برسوم حيوانات تتضمن نقوشاً عربية جنوبية قصيرة يبدو فيها - وفي نقوش أخرى - تطور في الخط واللغة على السواء. أضف إلى ذلك استمرار ورود أسماء الآلهة وأسماء الأعلام المعروفة في النقوش اليمنية القديمة، وختام هذه المرحلة هو نهاية القرن الأول الميلادي.
مملكة أكسوم: ورد ذكر أكسوم أول مرة في كتاب «الإبحار في البحر الأحمر» أي في المحيط الهندي Periplus of the Erythraean Sea وهو دليل ملاحي ألّفه باليونانية رحالة مصري مجهول في مطلع القرن الثاني الميلادي ووصف ملكها زوسكالس Zoscales بأنه كان بخيلاً جشعاً عارفاً بلغة الإغريق وآدابهم، كما وصف ميناء عدولي Adulis جنوب مصوّع بأنه كان سوقاً للعاج. وأشار بلينيوس إلى هذا الميناء على أنه واحد من أهم موانئ البحر الأحمر آنذاك، وورد ذكر الأكسوميين لدى الجغرافي كلاوديوس بطليموس Claudius Ptolemaeus في القرن الثاني الميلادي. وجعل ماني Mani (216- 274م) مؤسس المانوية في كتاب «العقائد» Kephalaia مملكتهم إحدى الممالك الأربع في العالم. وتدل النقوش المكتوبة باللغتين الجعزية واليونانية - وكذلك النقوش السبئية المعاصرة لها المكشوفة في اليمن - على نشوء هذه المملكة في القرن الثاني الميلادي وعلى عبور الأكسوميين البحر الأحمر إلى الجنوب العربي في الربع الأخير من ذلك القرن.
وفي مجموعة من النقوش تنسب إلى الملك عيزانا Ezana ذكر لآلهتهم الكبرى مَحْرم Mahrem وبحر Beher ومدر Medr، ووصفاً لتوسعه هو وحلفاؤه شمالاً حتى مروى وجنوباً حتى بحيرة تانا. ومما يشير إلى هذا التوسع الألقاب التي اتخذها هؤلاء الملوك، مثل ملك أكسوم وحمير وكاسو وسبأ وحبشة وريدان وسلحين وسيدامو وبُجّة. ويرى الباحثون استناداً إلى استهلال أحد نقوش عيزانا بعبارة «بعون إله السماء والأرض» أن المملكة تحولت في عهده - أي في منتصف القرن الرابع أو الخامس - إلى المسيحية. ويرجع ازدهار هذه المملكة في المقام الأول إلى مواردها الوافرة من التجارتين البرية والبحرية بالسلع الرائجة آنذاك كالعاج والبخور والعطور والرقيق والذهب والفيلة. وقد أورد كوزماس أنديكوبلويستس Cosmas Indicopleustes وصفاً مستفيضاً لذلك في كتابه «الطبوغرافية المسيحية» الذي يرجع تأليفه إلى منتصف القرن السادس. وقد اشتملت الكشوف الأثرية على أدوات ومصنوعات فخارية وزجاجية من حوض المتوسط ومروى والهند. ويؤكد ذلك أيضاً المسكوكات الذهبية والفضية والنحاسية التي سكها ملوك أكسوم فحملت أسماء نحو عشرين منهم وإن كنا لانعرف عن معظمهم شيئاً. وكان لهذه الصلات التجارية الواسعة أثر واضح في الحضارة الأكسومية، فقد أصبحت الإغريقية - بعد أن تحولت إلى المسيحية - لغة البلاط حتى اتخذ الملوك أسماء يونانية نحو، زوسكاليس وأفيلاس Aphilas وأوساناس Ousanas وانديبيس Endybis وسمبروتس Semburthes، وأطلقت نقوشهم الإغريقية على الإله القومي محرم اسم أريس Ares إله الحرب الإغريقي.
ووفد على البلاد رهبان بيزنطيون يعرفون الإغريقية والسريانية، وأنشئت الكنائس والأديرة وأقيمت المسلات وشيّدت القصور. غير أن كثيراً منها لحقه الخراب والتدمير، فلم يبق من قصور أكسوم الثلاثة «اندا سمعون» و«إند ميكائيل» و«تعخا مريم» سوى قواعدها. على أن كوزماس يقول: إنه رأى في إثيوبية قصراً ملكياً يتألف من أربعة أبراج، مما يذكّرنا بالطراز المعماري الذي لايزال قائماً في اليمن حتى اليوم.
أما المسلات العملاقة فقد تهشمت خمس منها وبقيت اثنتان، أخذت إحداهما إلى رومة عام 1937، وظلت الثانية وارتفاعها 33 متراً في مكانها وقد حفر على أحد جوانبها رسم يمثل مبنى مؤلفاً من تسع طبقات. ويجد المرء قبالة هذه المسلات ألواحاً حجرية ضخمة يبلغ طول أحدها 17 متراً وعرضه 6 أمتار وسماكته متراً. أما العروش والتماثيل الضخمة التي ورد ذكرها في النقوش، أو وصفها كوزماس، فلم يبق منها سوى المصاطب والقواعد التي كانت تحملها. ومازالت أكسوم تعد حتى اليوم المدينة المقدسة عند نصارى إثيوبية جميعهم، ولم يبق في المراكز العمرانية الأكسومية الأخرى وأهمها عدولى - المهجورة الآن - ومطرا Matra عل بعد 135 كم إلى الجنوب من أسمرة وقوحايتو Kohayto - قرب مطرا - سوى أطلال كنائس وقصور وبيوت وقبور. غير أن أعمال التنقيب الأثري مستمرة في هذه المواقع وسواها في منطقة تبلغ مساحتها زهاء 50 ألف كم2 في أريترية وتغرين قلب المملكة الأكسومية آنذاك.
وتتحدث مصادر متعددة منها رسالة أزقير Azqir الإثيوبية وكتاب كوزماس وكتاب بروكوبيوس (وهو مؤرخ بيزنطي من القرن السادس) عن تاريخ الحروب، ومصادر أخرى عربية وغير عربية عن تدخل ملك «أكسوم إلاَّ - أصبحا» الملقب بـ «كالب» Kalib، الذي يرد في اليونانية في صيغة Ellesbaas على الأرجح بمساعدة الأسطول البيزنطي في اليمن، انتقاماً لنصارى نجران الذين اضطهدهم في أوائل القرن السادس يوسف ذو نواس، وإن كان المرء لايستطيع أن ينظر إلى هذا الأمر بمعزل عن الصراع الدائر آنذاك بين الامبراطوريتين الكبريين الفارسية والبيزنطية.
فلما حلّ القرن السابع بدأ ذكر مملكة أكسوم يضمحل شيئاً فشيئاً، إذ لايتجاوز ما يُعرف عنها آنذاك هجرة المسلمين إلى الحبشة وأسماء تسعة من ملوكها على مسكوكات تحمل إشارة الصليب، ويبدو أن اضمحلال دورها يعود إلى أمور ثلاثة: أحدها قيام الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وفارس ومصر مما أدى إلى إضعاف أكسوم سياسياً بإبعاد حليفتها بيزنطة من الشرق كله، واقتصادياً بإنهاء دورها التجاري براً وبحراً ولاسيما بعد فتح الأمويين جزائر دهلك في خليج مُصوّع وسيطرتهم على الطرق التجارية في البحر الأحمر. وثانيهما نشوء إمارات مسيحية منافسة في الشمال الغربي من المملكة وأهمها علوة ومُقُرَّة والنوبة. وثالثها زحف قبائل البجَّة من الشمال مما اضطر الأكسوميين إلى الابتعاد نحو الجنوب ليستبدلوا بأكسوم حاضرة جديدة هي الناصرة Nazaret . ولانكاد نعرف عن تاريخ الأكسوميين في القرن الثامن والتاسع شيئاً يستحق الذكر ما خلا حديث اليعقوبي ثم المسعودي عن حاضرة مزعومة للحبشة تدعى «كعبر» لم يتمكن أحد حتى اليوم من معرفة موقعها.ولعلّ هذا ما يجعل الباحثين - في تاريخهم لأكسوم - يقفون عند القرن السابع ولايجاوزونه.
الأسرة الزغوية: تصوّر المصادر الإثيوبية - ويجاريها في هذا الباحثون الغربيون - الصراع بين المملكة المسيحية الإثيوبية - بعد زوال مملكة أكسوم في القرن الثامن أو التاسع الميلادي - وجيرانها من المسلمين والوثنيين حتى القرن السادس عشر على أنه صراع بين نظام شرعي وعصاة متمردين. بيد أن الحقائق التاريخية تثبت أن هذه المملكة كانت طوال الحقبة المذكورة إحدى دول المنطقة، تتحالف معها مرة وتقاتلها مرات. وكانت حدودها تضيق أو تتسع من عهد إلى عهد. ولم يصل إلينا من أخبار هذه المملكة حتى منتصف القرن الثالث عشر سوى نتف متفرقة لاتكفي لتأليف صور واضحة عن تلك الحقبة فقد ذكر ابن حوقل المتوفى عام 977م في كتابه «صورة الأرض» أن المملكة المسيحية في زمانه كانت تحكمها منذ ثلاثين سنة - امرأة ثارت على ملكها المعروف باسم «الحضاني» وقتلته. وتؤكد المصادر الإثيوبية ذلك ولكنها لاتحددّ هوية المرأة بل تصفها بأبشع الأوصاف. ثم وصل إلى السلطة في ظروف غامضة أمراء منطقة لاستا في شمالي ولاية وَلّو Wallo الحالية. وترى المؤلفات الكنسية المتأخرة أن هذه الأسرة التي تسمى الأسرة الزغوية لم تكن ذات حق مشروع في الملك. بيد أن عهد سابع ملوكها - الذي يقال إن عددهم بلغ اثني عشر - المدعو «لاليبلا» Lalibala شهد بناء مدينة مقدسة مازالت تحمل اسمه حتى الآن في أحد جبال الإقليم المذكور تشمل إحدى عشر كنيسة منحوتة في الصخر صنعها - أو شارك في صنعها - بنّاؤون قدموا من الخارج، مما جعل الكنيسة الإثيوبية - فيما بعد - تعدّه قديساً.
العصر الوسيط
الإمارات الإسلامية: لقد قامت في الشرق والجنوب الشرقي عدة إمارات إسلامية عرفت باسم «إمارات الطراز الإسلامي» نشأت نتيجة الهجرة التدريجية من الجزيرة العربية إلى هذه المنطقة منذ القرن السابع الميلادي. وجعلها موقعها متحكمة في الطريق التي تصل إلى البحر الأحمر وخليج عدن بداخل الحبشة. هذه الإمارات كان يحكمها سلاطينها المسلمون الذين اتخذوا مظاهر الملك المختلفة على الرغم من التبعية السياسية لملوك إثيوبية. وكان ينظر إلى إمارة أوفات [ر] على أنها أقوى هذه الإمارات الإسلامية السبع. وقد سعت أسرتها العربية الحاكمة إلى التحرر من التبعية الإثيوبية ونشر الدين الإسلامي والتوسع في المناطق المجاورة فبسطت سيطرتها على مرفأ زيلع المهم، وهكذا تزعمت أوفات حركة الجهاد الإسلامي في الحبشة. ولكن منذ وصول الأسرة السليمانية إلى الحكم في إثيوبية حاول السليمانيون تدعيم سلطتهم والتوسع على حساب الإمارات الإسلامية.
لقد ابتدأ الصراع بين أوفات والحبشة في أواخر القرن الثالث الميلادي ولم يهدأ طوال قرن من الزمن وكان أبرز مراحله تلك الحرب التي قامت بين نجاشي الحبشة المسمى «عمدة صهيون» (1313- 1344) وسلطان أوفات «حق الدين الأول» ومن بعده أخويه صبر الدين وجلال الدين بالتحالف مع الإمارات الإسلامية وانتهت هذه الحرب بفوز النجاشي الذي نهب المدن الإسلامية وأحرق المساجد. وثار سلطان أوفات «حق الدين الثاني» مرة أخرى وتحالفت معه الإمارات الإسلامية فهزموا جيوش الملك «سيف أرعد» (1344- 1372). وبعد استشهاد حق الدين تابع أخوه سعد الدين أبو البركات خطة أسلافه في الجهاد وألحق الهزيمة بالملك الأثيوبي، ولكن هذا عاد فحاصر مدينة زيلع وتمكن من الاستيلاء عليها وتدميرها، واستشهد سعد الدين سنة 1415م، وكان ذلك نهاية سلطنة أوفات.
ولكن أولاد سعد الدين أسسوا إمارة جديدة إلى الجنوب الشرقي من هرر، وسموا أنفسهم «ملوك عَدَلْ»، وبدأت صفحة جديدة من الكفاح، الذي استمر طوال القرن الخامس عشر، عندما تسلم القيادة أحمد غران (1506- 1543) الذي لقب «إمام عَدَلْ»، واتخذ من هرر عاصمة له وخاض حروباً مظفرة كادت تقضي على المملكة الإثيوبية لولا النجدة البرتغالية بالجند والأسلحة التي أنقذتها وساعدت في التغلب عليه فسقط شهيداً عام 1543م. وبذلك طويت صفحة مهمة من تاريخ «إمارات الطراز الإسلامي» في إثيوبية.
الأسرة السليمانية: استطاع يكونو أملاك Yakunno Amlak حاكم أمهرة انتزاع السلطة من الأسرة الزغوية عام 1270م إثر تحالفه مع الإمارات الإسلامية التي كانت تمتد من ميناء زيلع حتى منطقة باله Bale شاملة قسماً كبيراً من الهضبة الإثيوبية. فقد ذكر الملك في رسالة بعث بها إلى الظاهر بيبرس في مصر أن جيشه كان يضم مئة ألف فارس مسلم. وبدأ بذلك عصر جديد سيطر فيه الأمهريون على الحكم - باستثناء مدد قصيرة - سيطرة مطلقة حتى خلع هيلاسلاسي. وحظي الحكام الجدد بتأييد الكنيسة، فوضعت كتاب «جلال الملوك»، كما سبق، معلنة أنهم الورثة الشرعيون لملوك أكسوم المنحدرين من نسل سليمان الحكيم. غير أن هذه الأسرة السليمانية - التي أصبح مقرّها إقليم شوا Shoa - وجدت نفسها طوال القرون الثلاثة التالية مهددّة من خصمين قويين أحدهما: على ساحل البحر الأحمر وفي الشرق ممثلاً بالمسلمين، والآخر في الجنوب والغرب حيث كانت الجماعات الوثنية تزحف بأعداد ضخمة باتجاه الهضبة رويداً رويداً، والتفت العثمانيون بعد استيلائهم على سورية ومصر عام 1516 - 1517 إلى توسيع سلطانهم على جزيرة العرب، ثم أرادوا إحكام سيطرتهم على الساحل الغربي للبحر الأحمر، فاستولوا على مينائي سواكن وزيلع وقدّموا العون إلى الإمام أحمد بن إبراهيم الذي اشتهر باسم أحمد غران [ر] Gran (أي الأعسر) صاحب الإمارة الإسلامية الكبرى في هرر، فشن، بدءاً من عام 1523، حرباَ ضروساً على الملك لبنا دنغل Lebna Dengal (1508- 1540م) وهوم جيوشه واحداً تلو الآخر حتى أوشكت البلاد كلها أن تدين له، فاستغاث الملك المهزوم بملك البرتغال الذي أغاثه بقوة مدججة بالأسلحة الحديثة ساعدت على هزيمة الإمام أحمد وقتله عام 1543في عهد الملك كلاوديوس Claudius (1540- 1559م)، غير أن المعارك - التي سقط كلاوديوس نفسه في إحداها - استمرت بعد ذلك قرناً أو يزيد حتى استقر الأمر أخيراً للمملكة المسيحية.
العصر الغوندري: أراد البرتغاليون - نظير مساعدتهم - أن تتحول إثيوبية إلى المذهب الكاثوليكي وتقطع صلتها بالكنيسة القبطية المصرية مرسلين بعثات تبشيرية لتحقيق هذا الهدف، فلما اعتلى سوسنيوس Susenyos (1607- 1632م) العرش رأى أن الأخذ بهذا المذهب سينهي عزلة بلاده ويقيها خطر المسلمين وحلفائهم العثمانيين فضلاً عما يقدمه ذلك من فوائد اقتصادية، وثقافية، فأعلن تحول مذهب بلاده رسمياً إلى الكاثوليكية عام 1626، بيد أن رجال الكنيسة أثاروا الناس ودعوهم إلى الرفض، فاستعرت حرب أهلية انتهت بعودة الملك عن قراره وتنحيّه عن العرش ليخلفه ابنه باسيلدِس Basilide (1632- 1667م)، وبدأ عصر جديد يسمى العصر الغوندري إذ أسس الملك عاصمة جديدة هي غوندر Gondar شمال بحيرة تانا وطرد المبشرين الكاثوليك، وأرسل إلى والي مصر العثماني يرجوه تعيين مطران جديد، واتصل بحكام اليمن بعد خروج العثمانيين منه فأرسل رسلاً محملين بالهدايا إلى الإمام المؤيد بالله ثم إلى أخيه الإمام المتوكل على الله طالباً إليه أن يرسل رجلاً من خاصته. ومع أن المصادر الإثيوبية لاتشير إلى تلك البعثة، فهناك عرض وافٍ لهذه السفارة كتبه الرسول نفسه وهو القاضي الحسن بن أحمد الحيمي وصف فيه لقاءه الملك ورحلته في الذهاب والإياب وصفاً مفصلاً. وأغلب الظن أن الهدف من هذه الاتصالات كان الوصول إلى شكل من أشكال التحالف أو التعاون بين الدولتين اليمنية المسلمة والإثيوبية المسيحية ضد العثمانيين عدوّهما المشترك، غير أن الأمر لم يتجاوز تبادل الرسل والهدايا.
ثم أخذت سلطة الملوك تضعف شيئاً فشيئاً واستفحلت في هذه الأثناء مشكلة هيمنة قبائل الأورومو Oromo أو الغالا Galla الوثنية - التي انتشر فيها الإسلام سريعاً على أقاليم الجنوب، فتزوج الملك إياسو الثاني Iyasu II (1730- 1755) ابنة أحد زعمائها ليتودد إليها، غير أن الأمر ازداد سوءاً في عهد خليفته إيواس Iyoas (1755- 1769) إذ تدخل حكام إقليم تغري فغدا الملوك المتعاقبون، بعدئذ، ألعوبة في أيدي زعماء الأورومو وتغري من دون أن يكون لهم حول ولاقوة حتى إن أربعة منهم - وأحدهم إيواس المذكور - سُمّموا أو اغتيلوا. وقد تحدث الاسكتلندي بروس J.Bruce الذي وصل إلى إثيوبية عام 1760 وقضى فيها ثلاث سنوات بحثاً عن منابع النيل، عن أهوال تلك الحقبة في كتاب وصف فيه رحلته. فلما انتصف القرن التاسع عشر كانت البلاد مفككة الأوصال يتنازع الحكم فيها حكام أقاليم شوا وأمهرة وتغري. فاستغل قائد طموح يدعى كاسا Kassa هذا الوضع المضطرب وحارب الحكام المتنافسين واحداً واحداً وقضى عليهم والتفت إلى قبائل الأورومو فأخضعها، ثم أعلن نفسه عام 1855 ملكاً باسم ثيودور الثاني (1855- 1868) لُينهي بذلك العصر الغوندري الذي تسمى الحقبة الأخيرة منه أي بدءاً من عام 1769 «عصر الأمراء» للدلالة على ما اتسم به من صراع وضعف واضطراب.
العصر الحديث
التوسع الإثيوبي والاستعمار الغربي: بدأت في عهد ثيودور الثاني حقبة توسيع رقعة المملكة الإثيوبية، وأعلنت الدول الاستعمارية الكبرى تأييدها ودعمها لهذا الاتجاه نظير تحقيق مصالحها في القرن الإفريقي عامة والمناطق الساحلية خاصة. بيد أن تلكؤ الملكة فكتوريا في الرد على رسالة سلمها ثيودور إلى القنصل البريطاني تعبر عن رغبته في التعاون بين المملكتين المسيحيتين أدى إلى اعتقاله عدداً من الرعايا البريطانيين. فأرسلت بريطانية لإطلاق سراحهم، حملة عسكرية بقيادة اللورد نابير Napier قدم لها خلفاء محمد علي باشا المؤن والمساعدات عند رسوها قرب مصوع الخاضعة آنذاك للحكم المصري، فطاردت الملك الإثيوبي حتى اضطر إلى الانتحار عام 1868 بعد أن حوصر في قلعة مجدلة Magdala إلى الجنوب الشرقي من لاليبلا وكانت أشبه بعاصمة له، وانتهى الأمر بانسحاب الحملة بعد أن جهز البريطانيون حليفهم كاساي حاكم إقليم تغري بالسلاح والمال، فرجحت كفته على منافسيه، وتولى السلطة عام 1872 باسم الملك يوحنا الرابع. وقد شهد عهده القضاء على حملتين مصريتين أرسلتا عامي 1875 و1876، أعقبهما عقد صلح مع إسماعيل خديوي مصر عام 1879، ثم خاض معارك متتالية مع جماعة المهدي وخليفته التعايشي الذين يسمون «الدراويش» إذ استطاع هؤلاء اجتياح غوندَر عام 1888 فاتجه الملك غرباً للانتقام منهم والتقى بهم في معركة دامية في القلاّبات عام 1889 انتهت بهزيمته ومصرعه.
وخلفه في العام نفسه حاكم شوا باسم منليك الثاني (1889- 1913) الذي يعد المؤسس الحقيقي للامبراطورية الإثيوبية الحالية. فقد بنى العاصمة الجديدة أديس أبابا، وتوسع شرقاً وجنوباً وغرباً فضم إلى دولته مساحات شاسعة لم تكن أجزاء من إثيوبية من قبل، وحاول استغلال التنافس بين الدول الاستعمارية الثلاث: بريطانية وفرنسة وإيطالية لتحقيق ما يريد، فاعترفت ثلاثتها بالحدود الجديدة لمملكته مقابل موافقته على مقاسمتها المناطق الساحلية أريترية وجيبوتي والصومال، وإن كان هدفه النهائي، وفقاً لرسالة وجهها عام 1891 إلى الدول الثلاث وإلى ألمانية وروسية، استعادة السيطرة على المناطق الساحلية وكذلك على المنطقة الشمالية الغربية حتى الخرطوم والجنوبية حتى بحيرة فيكتوريا لأنها، كما زعم، كانت في الماضي جزءاً من إثيوبية وهو زعم لاسند له في التاريخ. بيد أن الدول الاستعمارية كانت أكثر دهاء وأشد بأساً من منليك، فمضت في تنفيذ خططها في استعمار القرن الإفريقي بالقوة تارة وبالدبلوماسية تارة أخرى، فقد استولت إيطالية على ميناء عصب عام 1882، ثم شجعتها بريطانية على الاستيلاء على مصوع عام 1885 لتحقيق هدفين اثنين: أحدهما أن تقدم إيطالية المساعدة في القضاء على الحركة المهدية، وثانيهما: أن تمنع فرنسة، التي كانت قد حصلت على موطئ قدم لها في جيبوتي عام 1862 من التوسع. غير أن فرنسة أقنعت منليك بالقيام بعمل مشترك يصد الخطر البريطاني الزاحف من الشمال، بعد أن احتلت بريطانية مصر ثم السودان إثر إخماد الحركة المهدية، ومن الجنوب حيث كانت لها السيادة على ميناءي زيلع وبربرة في المنطقة التي سميت فيما بعد «الصومال البريطاني». واتفقت الدولتان على إرسال حملتين عسكريتين إثيوبية وفرنسية تلتقيان في فاشودة عام 1897، ولكن الخطة انتهت بالإخفاق وانسحاب الحملتين كلتيهما.
وأقنعت فرنسة عام 1892 ملك إثيوبية بالموافقة على مد خط للسكة الحديدية يربط عاصمته الجديدة أديس أبابا بميناء جيبوتي، وكان هدفها الحقيقي من ذلك أن يمتد هذا الخط فيما بعد غرباً ليصلها بمستعمرتها الكونغو - برازافيل. ولم تقنع إيطالية بحصتها من الغنيمة - وهي أريترية، وعلى الرغم من اعتراف إثيوبية في معاهدة أوشيالي Uccialli أو Wuchali عام 1889 بالسيادة الإيطالية هناك زحفت جيوش إيطالية نحو الداخل، فتصدّى لها الملك وخاض معارك كثيرة حتى ألحق بها هزيمة ساحقة في عدوة Adawa عام 1896، وقد قدم الفريق صادق المؤيد العظم الذي زار إثيوبية عام 1904 لينقل رسالة ودية من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إلى منليك - في كتاب وضعه عن مهمته هناك - عرضاً وافياً لهذه المعارك جميعها. على أن منليك عاد فأبرم معاهدة مع الدول الاستعمارية الثلاث تمنحها امتيازات كثيرة بينها استمرار السيادة الإيطالية على أريترية، فلمّا توفي عام 1913 - بعد مرض عضال دام سبع سنوات - خلفه ولي عهده ليج اياسو Lij Iyasu وكان عمره ستة عشر عاماً. وتودد الحاكم الجد إلى مسلمي إثيوبية - وأعلن إسلامه - فقام ضده تحالف مؤلف من الكنيسة وزعماء الأقاليم والدول الاستعمارية تمكن من خلعه عام 1916 قبل أن يجري تتويجه، فخلفته زوديتو Zauditu ابنة منليك على أن يكون الأمير الشاب تفاري Tafari - الذي كان أبوه ابن عم لمنليك - وصياً على العرش وولياً للعهد.
عهد هيلاسلاسي: ما لبث تفاري أن قضى سريعاً على منافسيه فقد أصبح صاحب اليد العليا في المملكة بل إنه أجبر الامبراطورة على الاعتراف به ملكاً على إقليم شوا عام 1928 فصارت منذ ذلك الحين تملك ولاتحكم، ولما توفيت عام 1930 توّج تفاري امبراطوراً باسم هيلاسلاسي الأول، وشرع بإحكام قبضته على البلاد بتقييد نفوذ الكنيسة وإضعاف سلطة الحكام في الأقاليم. غير أن إيطالية غزت إثيوبية عام 1936 - على الرغم من معاهدة الصداقة التي عقدها البلدان عام 1928 - منطلقة من مستعمرتيها في أريترية والصومال الإيطالي لتؤلف ما سمّته: «إفريقية الشرقية الإيطالية». ولجأ الامبراطور إلى بريطانية ولم يستطع العودة إلى عاصمته عام 1941، إلا بعد أن طردت القوات البريطانية الإيطاليين منها، وعقدت بريطانية وإثيوبية معاهدات ضمنت للبريطانيين التحكم في شؤون البلاد السياسية والعسكرية والمالية عقداً كاملاً، ثم حل محلها معاهدات مماثلة مع الولايات المتحدة. وقد ساعد الحلفاء المنتصرون - نظير تحقيق مصالحهم - نظام هيلاسلاسي على البقاء ولو إلى حين، كما باركوا ضمّه أوغادين عام 1950 ثم أريترية عام 1962 إلى إثيوبية فبلغت أقصى اتساع جغرافي لها في تاريخها كله.
إلغاء النظام الملكي: عمل الإيطاليون في مرحلة استعمارهم لإثيوبية على شق الطرق وإقامة الجسور ومد شبكات الكهرباء والهاتف وتأسيس المستشفيات وتنفيذ المشروعات العمرانية لأهداف عسكرية بالدرجة الأولى وتدفق الآلاف منهم - آنذاك - على إثيوبية فعملوا فيها واختلطوا بأهلها، مما أدى إلى نشر الثقافة الأوربية بين كثير من الناس، وحمل العائدون إلى البلاد ممن هربوا من الاحتلال أو من الطلاب والعسكريين والفنيين الذين درسوا في الخارج رياح التغيير معهم. وكان هيلاسلاسي يواجه المعارضة المتزايدة - ولاسيما لدى القوميات غير الأمهرية - بالمراوغة والمماطلة وبذل الوعود. فكرّت السنون تلو السنين والحال هي الحال، وعلى الرغم من وقوع محاولة انقلاب بقيادة قائد الحرس الامبراطوري ومدير المخابرات عام 1960 - كادت أن تعصف به - فإن نهجه لم يتبدّل، ولما وقعت المجاعة التي قضت على أكثر من 300 ألف نسمة في ولايتي ولّو وتغري عامي 1972 - 1973 ثم تبعتها هزيمة الجيش الإثيوبي المنكرة في أريترية مطلع عام 1974 دُق الإسفين الأخير في نعش النظام الملكي، فخرج الجيش من ثكناته، وتسلم مجلس عسكري الحكم، وأعلن خلع الامبراطور في أيلول من العام نفسه ثم ألغي النظام الملكي الامبراطوري العام التالي (1975م).
التركيب العرقي
سمّى الباحث الإيطالي كونتي روسيني Conti -Rossini إثيوبية «متحف الشعوب» لكثرة ما فيها من عروق وقوميات، غير أن أهم الجماعات، من حيث عددها أو هيمنتها على شؤون البلاد، خمس.
الأمهريون: كانت بداية ظهورهم الأسرة الحاكمة المسماة «السليمانية» في الثلث الأخير من القرن 13 وقد هيمنوا منذ ذلك الحين على جميع القوميات الأخرى وجعلوا لغتهم لغة البلاد الرسمية، ويقدر عددهم اليوم بنحو 25٪ من عدد السكان يتوزعون في ثلاثة ولايات هي شوا، وولو، وبغمدير Begemdir وسيمن Simen.
التغريون: موطنهم ولاية تغري التي تقع فيها المدن الثلاث أكسوم ولاليبلا وغوندر، وعددهم أقل من عدد الأمهريين، ويقدّر بـ 12٪ من السكان. وقد استعاد الأمهريون السلطة منهم بوصول منليك الثاني إلى الحكم عام 1889 ولكنهم قاوموا الهيمنة الأمهرية السياسية والثقافية بعد انتهاء الاستعمار الإيطالي حتى إنهم استطاعوا عام 1943 تحرير عاصمتهم مكله Mekele من القوات الحكومية، ففرض عليهم هيلاسلاسي بعد إخماد ثورتهم، بمعونة عسكرية بريطانية، قوانين تعسفية.
الصوماليون: وهم سكان منطقة أوغادين التي خضعت لسيطرة إثيوبية في عهد منليك الثاني بعد أن تخلت عنها الدول الاستعمارية لفقرها. وتوحّد روابط اللغة والإسلام والثقافة بينهم وبين إخوانهم في الصومال، وقد تزعّم محمد عبد الله حسن حركة مقاومة مسلحة منذ بداية القرن العشرين حتى موته عام 1920. ثم أعلن ثوار أوغادين - التي يقدر عدد سكانها اليوم بمليون نسمة - الحرب على الحكومة الإثيوبية في العقد السابع بدعم من حكومة الصومال.
الغوراجيون Gurages: وهم خليط من المسلمين والمسيحيين والوثنيين يمارسون الزراعة البدائية والرعي ويتحدثون لغة سامية ذات لهجات متعددة، وموطنهم غرب بحيرة زوي Zwai إلى الجنوب من أديس أبابا وعددهم يقارب مليون نسمة.
الأورومو Oromo: (أو الغالا Galla باسم لغتهم وهي لغة حاميّة) أكثر القوميات في إثيوبية عدداً، إذ يؤلفون وحدهم ما يقرب من نصف سكان البلاد كلها، وقد ضمّ منليك الثاني المناطق التي كانوا يسكنونها في الجنوب إلى امبرطوريته، وأدّت وسائل الترغيب والترهيب إلى تنصير قسم منهم وتخليهم عن هويتهم وثقافتهم، غير أن قسماً آخر تحول إلى الإسلام، ومازال قسم ثالث باقياً على الوثنية.
الديانات
قُدّر عدد سكان إثيوبية عام 1976 بتسعة وعشرين مليوناً وبلغ عام 1997 نحو 57.171.662 يختلف الباحثون في توزيعهم بحسب عقائدهم. فيرى بعضهم أنهم موزعون ثلاثة أثلاث بين الإسلام والمسيحية والوثنية، على حين يذهب آخرون إلى أن المسيحيين وحدهم يؤلفون نحو 40٪ وأن المسلمين يؤلفون 45.5٪ (1997) منهم أما الباقون فهم وثنيون.
الإسلام: بدأت صلات إثيوبية بالإسلام مع هجرة المسلمين إلى الحبشة هرباً من اضطهاد المشركين وذلك في السنة الخامسة من بداية الدعوة الإسلامية أي في عام 614م. قيل إن الخليفة عمر بن الخطاب أنفذ سنة 641م حملة بحرية صغيرة إلى ساحل الحبشة. وفي العصر الأموي سيطر الأمويون على جزائر دهلك في خليج مُصَوَّع، ثم قامت فيها سلطنة إسلامية في القرن العاشر، وقد عثر هنالك على كتابات عربية كثيرة مؤرخة يعود أقدمها إلى مطلع القرن المذكور. وعبر التجار والمهاجرون المسلمون في هذه الحقبة نفسها من الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى الجزء الجنوبي من ساحله الغربي فانتشر الإسلام على أيديهم سلماً على طول الساحل أول الأمر ثم انتقل إلى الداخل، وكانت سلطنة داموت Damot في المنطقة الواقعة غرب أديس أبابا اليوم - فيما يبدو - أول كيان إسلامي في الداخل، وتبعتها سلطنتا شوا، في الولاية المعروفة بهذا الاسم حتى اليوم، وإيفات Ifat إلى الشرق منها. وما لبثت سلطنتان أخريان أن نشأتا إحداهما عدل Adal إلى الشرق من إيفات والأخرى هديا Hadya في ولاية سيدامو Sidamo الحالية في الجنوب. ولكن المملكة الإثيوبية المسيحية قضت عليها واحدة تلو الأخرى.
غير أن أعظم الإمارات الإسلامية شأناً وأطولها عمراً وأشدها بأساً هي تلك التي ظهرت في هرر في القرن الخامس عشر، وكادت في القرن الذي تلاه أن تقضي على المملكة المسيحية قضاء مبرماً كما سبق. ويبدو أن الصراع الدامي بين الإسلام والمسيحية آنذاك لم يكن محلياً صرفاً، فقد شعرت أوربة المسيحية بالخطر إثر استيلاء العثمانيين على القسطنطينية ثم على البلقان فأرادت ضربهم من الخلف، ولعلها ظنت أن المملكة الإثيوبية المسيحية تستطيع الزحف شمالاً وإخراج العثمانيين من مصر. غير أن هذه المملكة شغلت حتى أواخر القرن التاسع عشر بمقارعة خصومها المحيطين بها. وقد أخذ الحكام بعد منتصف القرن التاسع عشر بسياسة تنصير السكان بالإكراه إذ أعلن ثيودور الثاني أن كلمتي إثيوبية والمسيحية ينبغي أن تصبحا مترادفتين، كما عقد خلفه يوحنا الرابع مجلساً كنسياً عام 1878 قرّر إعطاء المسلمين ثلاث سنوات والوثنيين خمساً ليظهروا تنصرهم علانية، وألزم المسلمين ببناء الكنائس في مناطق سكناهم. ويعدّ ميخائيل والد ليج إياسو الذي خلعه هيلاسلاسي ومناصروه عام 1916 كما سبق، أحد الذين أُجبروا على الارتداد عن الإسلام وكان اسمه قبل التنصر محمد علي.
المسيحية: تنسب المصادر الإثيوبية المترجمة من اليونانية دخول المسيحية إلى مملكة أكسوم إلى غلام يدعى فرومنتيوس استطاع بعد أن تقلد منصب «راعي القانون وكاتب أكسوم» تنصير الملك «عيزانا» الذي حكم في القرن الرابع - وقيل الخامس - ثم ارتحل إلى مصر فعيّنه بطريرك الأقباط أول مطران لإثيوبية، وأخذت الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة القبطية مذهب الطبيعة الواحدة وظل رأسها مطراناً مصرياً يسميه الإثيوبيون «أبونا» حتى منتصف القرن العشرين. بيد أننا لانعرف شيئاً عن مدى انتشار المسيحية بين سكان إثيوبيا ولا عن ديانة حكامها في أواخر العهد الأكسومي وماتلاه ما عدا «لاليبلا» باني الكنائس المنحوتة في المدينة التي نسبت إليه. حتى إذ جاء القرن الثالث عشر بدأت الكنيسة تقدم السند الشرعي للحكام الجدد من الأسرة السليمانية فقابل الحكام، هذا الصنيع بمثله وأقطعوا الكنيسة مساحات واسعة من الأراضي وأذنوا لها بجباية ضرائب خاصة بها، فبنت بأموالها الطائلة عدداً كبيراً من الكنائس والأديرة تجاوزت في نهاية عهد هيلاسلاسي 16 ألفاً، وبنت كذلك المدارس الدينية التي لم يكن في البلاد حتى نهاية القرن الماضي سواها، وهيمنت الكنيسة بذلك على حياة عامة الناس هيمنة تكاد أن تكون مطلقة بحيث لم يكن أحد يقدم على عمل إلا بعد مباركة القس وتقبيل يديه.
اليهودية: يسمي اليهود أنفسهم كيلا Kayla أو بيت إسرائيل Betaisrael ويسميهم الإثيوبيون فلاشة Falasha أي المنفيون أو المهاجرون.
والآراء في أصلهم مختلفة وموطنهم اليوم منطقة سيمن الجبلية شمال بحيرة تانا ولايعرف عددهم على وجه اليقين، والأغلب أنهم لايتجاوزون 30 ألفاً هُجّر منهم أكثر من أربعة عشر ألفاً عامي 1984 و1985 إلى فلسطين المحتلة طبقاً لاتفاق عقد بين الإسرائيليين والحكومة الإثيوبية. ومذهبهم توراتي خالص، أي أنهم يعترفون بأسفار موسى الخمسة وحدها المترجمة إلى الجعزية وهي لغتهم الدينية وبها وضعوا مؤلفاتهم، ولكن لغة الحديث عندهم هي الأمهرية أو التغرينية، أما العبرية فيجهلونها جهلاً تاماً.
نظام الحكم
لم تكن سلطة حكام إثيوبية منذ تسلم الأسرة السليمانية الحكم حتى بداية عهد منليك الثاني تتجاوز الهضبة الإثيوبية، فقد تعاقب على حكم المنطقة الساحلية المصريون، ثم العثمانيون ينافسهم البرتغاليون، ثم الإيطاليون والفرنسيون، وظلت المنطقة الشرقية في أيدي المسلمين قروناً طوالاً، أما الجنوب فكان في أيدي الصوماليين وقبائل الأورومو. وهكذا كانت المملكة الإثيوبية المسيحية حتى بداية عهد منليك محصورة في ثلاثة أقاليم هي تغري وأمهرة وشوا، وكانت تمر أحياناً سنوات بعد وفاة أحد الملوك يبقى فيها العرش شاغراً فيشتد الصراع بين الحكام حتى يخلص الأمر أخيراً لأحدهم بفضل قوته العسكرية ودهائه وما يعقد من صفقات وتحالفات. وكانت مراكز القوة ثلاثة: الملك والكنيسة وحكام الأقاليم. فأما الملك أو ملك الملوك Negusa Nagast فكانت سلطته - استناداً إلى أسطورة انحداره من سلالة سليمان - مطلقة شريطة أن يكون قوياً وإلا فإنها تتقلص حتى تغدو شكلية تماماً. وأما الكنيسة فكانت تدعم الملك دعماً كاملاً إذا ضمن لها أمرين: أحدهما عدم المساس بنفوذها وثروتها وسيطرتها، وثانيهما عدم المساس بالمسيحية عامة وبمذهبها خاصة، فإن مُسّ أحدهما أو كلاهما قاومت الملك مقاومة شديدة وقد ينتهي الأمر بعزله أو إجباره على التنحي كما فعلت بزا دنغل Za Dengal (1603- 1604م) وسوسنيوس (1607- 1632م) وليج إياسو (1913- 1916م).
وكان حكام الأقاليم :الرؤوس» (جمعاً لكلمة «رأس» التي تنطق في الأمهرية «راس» بتسهيل الهمزة) يؤيدون الملك ويدفعون له ضريبة، ولكنهم يديرون شؤون أقاليمهم بأنفسهم، وقد يتخذ بعضهم لقب «ملك»، وربما انفصلوا عن ملك البلاد وساعدوا على الإطاحة به، إذا لم ترقهم سياسته كما فعلوا بثيودور الثاني (1855- 1868م) ثم بليج إياسو. ولم يكن ملوك إثيوبية - في أغلب الأحيان - قادرين على كسر شوكة هؤلاء الحكام بسبب جيوشهم الخاصة بهم وبسبب وعورة الطرق واتساع المساحات.
عدَّ حكام إثيوبية، وغالبيتهم من الأمهريين، أنفسهم سادة للشعوب والقوميات المجاورة التي خضعت لهم قروناً، فكانوا يبيعون جماعات من هؤلاء الأقوام عبيداً إلى الجزيرة العربية ومصر والسودان، وكانوا يستملكون الشعوب المقهورة في الحرب أرضاً وسكاناً. فأما الأرض فكانت توزّع على الكنيسة والقادة ورجال الحاشية. وأما أصحابها الأصليون فكانوا يلزمون بالبقاء فيها لاستغلالها وتقديم ريعها إلى أصحابها الجدد، وهكذا يتوارث هؤلاء العبودية جيلاً فجيلاً، وجرى العرف آنذاك أيضاً أن يتقاسم المنتصرون الأسرى والسبايا عبيداً فيما بينهم. وقد روى شاهد عيان من القرن التاسع عشر أن حصة منليك الثاني وحده بلغت من غنائم إحدى المعارك 1800 من الأسرى العبيد، وروى آخر زار إثيوبية في العقد الثالث من القرن العشرين أن بطريرك الكنيسة الإثيوبية يعدّ من كبار مالكي العبيد. ولم يكن حكام الأقاليم وجيوشهم وحاشيتهم - حتى عهد هيلاسلاسي - يأخذون رواتبهم من خزينة الملك، بل كان عليهم أن يضمنوا نفقاتهم بأنفسهم فضلاً عن الضريبة التي ينبغي إرسالها إلى الملك، فجعلوا الأرض ومن عليها وما عليها ملكاً لهم يسخرون من فيها وما فيها للحصول على ما يريدون، وكان الملك والحكام في حاجة إلى تأييد الكنيسة لتحقيق أغراضهم فأقطعوها مساحات واسعة من الأرض حتى صارت تمتلك في عهد هيلاسلاسي نحو ثلث أراضي الدولة كلها.
عمل هيلاسلاسي على تمكين قبضته عل البلاد بإجراءات متعددة فأنشأ جيشاً نظامياً بمساعدة البريطانيين وأضاف إليه الحرس الامبراطوري وقوات المقاومة السابقة ضد الإيطاليين فضمن بذلك تفوقاً عسكرياً ساحقاً على جميع خصومه ومنافسية، وهكذا ألغى جيوش الأقاليم وعزل حكامها واحداً إثر الآخر، وقسم البلاد إلى ولايات يدير شؤونها موظفون تعينهم حكومة الملك وتعزلهم وتدفع رواتبهم، وأصبح هيلاسلاسي، بعد انفصال الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة القبطية، رأس الكنيسة الذين يعين - وفقاً للدستور - أساقفتها، فألغى حق الكنيسة في جباية الرسوم والغرامات من الناس، واستبدل بحق السلب والنهب الذي كان يمارسه حكام الأقاليم السابقون ومعاونوهم نظاماً جديداً لجباية الضرائب، وأبطل كذلك نظام السخرة، وإن كان ما نُفذ من ذلك كله قليلاً جداً. وقد قرر النظام العسكري الذي أسقط نظام هيلاسلاسي 1974 تحويل إثيوبية إلى دولة اشتراكية ذات نظام ماركسي لينيني، واتبع نظاماً أوتوقراطياً عسكرياً، الغلبة فيه للقومية الأمهرية، مما أدى إلى ازدياد نشاط المنظمات المعارضة في البلاد وخاصة جبهات تحرير إريترية وتغري وأورومو. وتكررت الهزيمة في إريترية التي نالت استقلالها عام 1993 كما سقط الحكم الشيوعي فيها وحكم منغستو هايله مريام، وغدت إثيوبية جمهورية فدرالية تسير على هدى دستور جديد وضع عام 1995.
اللغات والآداب:
تقسم اللغات الإثيوبية إلى ثلاث مجموعات كبيرة: كوشية ونيلية وسامية. فأما أولاها فأهمها الصومالية وهي السائدة في أوغادين، والأورومو وهي لغة القبائل المعروفة بهذا الاسم (وتسمى أيضاً الغاليّة Galenna نسبة إلى الغالا)، وأما الثانية فتضم مجموعة من لغات القبائل الصغرى في أريترية ومنطقة الحدود مع السودان وهي محدودة الانتشار. وأما المجموعة السامية فأهم لغاتها ست: الجعزية Geez والأمهرية Amharic والتغرينية Tigrinya والتغرية Tigre والغوراجية Gurage والعربية، وتعد الجعزية أقدمها وأهمها لأنها لغة النقوش الأكسومية ولغة التراث الإثيوبي حتى عهد قريب، وخطها متطور عن الخط العربي الجنوبي «المُسند» الذي أضيفت إلى حروفه رموز للحركات فخلّصته من اللبس وعدم الوضوح، غير أن الأمهرية أخذت منذ القرن الثالث عشر تحل محلها بسلطان حكام إثيوبية الأمهريين وكانت أول الأمر لغة الحديث للقومية الأمهرية وحدها، ثم انتشرت انتشاراً واسعاً حتى أصبحت اللغة الرسمية والأدبية للبلاد، فتراجعت الجعزية واقتصر استعمالها على الشؤون الكنسيّة، شأنها في ذلك شأن اللاتينية في أوروبة في العصر الحديث. ويلي الأمهرية في الانتشار التغرينية ومواطنها في شمالي إثيوبية وبعض مناطق أريترية وتغري، فالتغرية في أجزاء من أرتيرية، والغوارجية في المنطقة التي تحمل اسم غوارجية في جنوب أديس أبابا وهي تتفرع إلى لهجات متعددة. أما العربية فموطنها في المنطقة الساحلية حيث يكثر المسلمون، وهي لغة التفاهم في الأسواق والمراكز التجارية في الداخل ولها مكانة خاصة في المدارس الإسلامية في هرر وسواها بصفتها لغة القرآن الكريم. وظلت العربية والتغرينية لغتين رسميتين لحكومة إقليم أريترية حتى عام 1957.
ويتسم الأدب الإثيوبي الذي وصل إلينا بسمتين مميزتين: إحداهما غلبة الطابع الديني عليه، والأخرى أنه أدب مترجم، ولعل ذلك يرجع إلى أن التعليم كان محصوراً برجال الكنيسة الذين لم يهتموا بآداب اليونان والرومان والعرب وفلسفتهم وعلومهم، بل جعلوا الكتاب المقدس وما يتصل به من علوم لاهوتية مصدر المعارف كلها. وقد مرّت الترجمة في عهدين تفصل بينهما مرحلة دامت نحو خمسة قرون لم يصل منها شيء يستحق الذكر، وكانت الترجمة في العهد الأول منهما - أي من القرن الخامس إلى القرن الثامن ، من اليونانية وشملت الكتاب المقدس، وأسفاراً أخرى أهمها: كتاب «اليوبيل» Jubilees و«أخنوخ» Enoch و«صعود اشعياء» Ascension of Isaiah و«ابن سيراخ» Sirach، وكتابان في الرهبنة هما «قوانين باخوم» مؤسس نظام الرهبنة في مصر و«كتاب الرهبان»، وكتاب عنوانه «كيرلس» Kyrillos نسبة إلى بطريرك الإسكندرية المتوفى عام 444م، وكتاب آخر يدعى «الفيزيولوجية» Physiologos عن النبات والحيوان مع تضمينه رموزاً مسيحية، وكانت الترجمة اللاتينية لهذا الكتاب شائعة في أوربة في القرون الوسطى. وبدأ العهد الثاني أواخر القرن الثالث عشر، وفيه صارت المؤلفات العربية مصادر الترجمة، وإن كان بعضها مترجماً أصلاً عن اليونانية أو السريانية، كما تدل بعض المواضع في النصوص المترجمة على أن أصولها العربية مترجمة عن القبطية، وأهم ما وصل إلينا «جلال الملوك» (كما سبق) و«نظام المملكة» وهو سجل للبلاط الملكي من القرن الثامن عشر، و«بيان يسوع» الذي يتنبأ بظهور ملك يدعى ثيودور يملأ العالم سعادة وقد ألف في عهد ثيودور الأول (1411- 1414م) دعاية له وكتاب «الضياء» المنسوب إلى الملك زرع يعقوب Zara Yakob (1434- 1468م) وكتابان قانونيان يشملان التشريعات الكنسية هما «قانون الملوك» وهو ترجمة «المجموع الصفوي» لصفي الدين بن العسال، و«السندوس» Synodus ومجموعة منها: كتاب الميلاد ومعجزات مريم وتقويم القديسين وسيرة الاسكندر، ضمن سلسلة طويلة من الكتب المحشوة بالأساطير تتحدث عن معجزات المسيح ومريم العذراء والقدّيسين والاسكندر المقدوني الذي يعدونه قديساً مسيحياً، وثلاث ترجمات في التاريخ، هي «تاريخ العالم» لجريس بن العميد الملقب بالمكين، و«الوقائع» لأبي شاكر، و«الوقائع» ليوحنا من نيقية وثمة مؤلفات أخرى كثيرة في الوعظ والتنجيم والسحر واللغة والنحو وسواها.
وللشعر الديني الذي يمجد مريم العذراء والقديسين منزلة خاصة عندهم، وهو ضربان يسمى أولهما «سلام أو صورة» Malke يحيّي ناظمه فيه صديقاً أو محبوباً أو يصف محاسن فتاة من الرأس حتى القدم، ويمثل ثانيهما مقطوعات قصاراً تغنّى غناء في المناسبات الدينية، ومما ألف في الأناشيد والتراتيل مجموعة في تسبيح مريم العذراء ونشيد آخر ظهر في مطلع القرن الخامس عشر يسمى «دقة» Deggua وإن كانوا ينسبونه خطأ إلى المغني ياريد Yared الذي عاش في القرن السادس.
أما التأليف بالأمهرية فكانت بدايته على يد المبشرين الذين ترجموا الكتاب المقدس ومؤلفات دينية أخرى إلى الأمهرية لينشروا المذهب الكاثوليكي، ثم ظهر ما يسمّى «أناشيد الملوك» وهو قصائد في مدح الملوك وتمجيدهم، ووصل إلينا سيرة حياة ثيودور الثاني التي ألفها أحد القساوسة، قد نشر أفاوَرق جبرا إياس Afawarq Gabra Iyasus أول رواية بالأمهرية عام 1908 وأتبعها سيرة حياة منليك الثاني، كما نشر هروي ولد سيلاسي Herouy Walda Sellase سيراً أخرى ومجموعات شعرية وروايات تاريخية. ومن الأسماء المعروفة في الأدب الأمهري المعاصر: ماكونين إندال كاتشو Makonnen Endal Katchew وكابادا ميكائيل Kabbada Mikael ومانغستو لاما Mangestu Lamma وليبان تادسة Liban Tadesse ولاما منغاسا Lamma Mangasa وبلاتا غبرا إغزيابحر Blatta Gabra Egziabher. وأما آداب اللغات الأخرى وهي لغات الحديث للقوميات غير الأمهرية فقد اهتم المستشرقون الذين قدموا إلى إثيوبية بجمعها من أفواه الناس ونشروا مجموعات منها ووضعوا لبعضها معجمات وافية.
العمارة والفن:
تعدّ أكسوم ولاليبلا وغوندر المراكز الثلاثة الكبرى التي تمثل حضارة إثيوبية المسيحية في تاريخها ويمتاز الطراز المعماري الأكسومي - المتأثر بنظيره في اليمن القديم - بشكل البناء المربع والمستطيل وإقامته على قاعدة مدرجة يصعد إليها بسلم مؤلف في العادة من سبع درجات، واستخدام الحجارة والخشب، ويتناوب في الجدران بروز بعض العوارض الخشبية وتراجع بعضها الآخر - ويسمون ذلك النمط «رأس القرد» وليس فيها من الملاط سوى الطين. ونجد تطويراً لهذا الطراز في كنائس لاليبلا التي بنيت في عصر تال، أي بدءاً من القرن العاشر، وأكبرها كنيسة مخلّص العالم التي يبلغ طولها 33 مترا وعرها 23 متراً وارتفاعها 11 متراًً، ولكن أكثرها غرابة كنيسة القديس جورج المنحوتة على شكل صليب مربع في منخفض عميق بحيث لايرى المرء سقفها إلا بعد أن يدنو منها، أما غوندر فكان تأسيسها بعد انفتاح إثيوبية على الغرب وقدوم المبشرين اليسوعيين البرتغال والإسبان، وسرعان ما أصبحت بفضل استقرار الملوك فيها وإنفاقهم الأموال الطائلة على توسيعها وتطويرها إحدى المدن الكبرى في إفريقية في القرن السابع عشر، ويذكر الطراز المعماري الغوندري كما تعرضه قلاع المدينة وقصورها وأبراجها وكنائسها وجسورها وبواباتها، بالطراز المعماري المعروف في أوربة في عصر النهضة.
ويلمح المرء فيما بقي سالماً من أيقونات ورسوم تمثل الحواريين والقديسين وموضوعات أخرى مستوحاة من الدين المسيحي أثر الفن البيزنطي الذي ساد آنذاك، وإن كان هنا أكثر بساطة. وفي بعض الكنائس كما في كنيسة مريم في دبرا صهيون Derba Seyon زخارف هندسية ونباتية على النمط المألوف في العمارة الإسلامية، وتحلّى المخطوطات برسوم دينية الطابع كصليب المسيح، والبشارة، وشجرة الحياة.
أما الطراز المعماري الإسلامي فما زالت منه بقية في هرر حتى اليوم، ومع أن منليك الثاني أخضعها في نهاية القرن الماضي لسلطانه وأقام عليها ابن عمه ماكونن Makonnen وهو والد هيلاسلاسي، ليصبغها بالصبغة الأمهرية، فإن هذه المدينة بسورها ذي البوابات السبع - المزينة بالآيات القرآنية وكتابات بالتركية العثمانية - ومساجدها الأربعة وأسواقها وبيوتها لاتختلف كثيراً عن مدن اليمن.
رفعت هزيم
- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - النوع : سياحة - المجلد : المجلد الأول - رقم الصفحة ضمن المجلد : 354 مشاركة :