المهدي المنتظر
مهدي منتظر
Al-Mahdi al-Muntadhar - Al-Mahdi al-Muntadhar
المهدي المنتظر
إمام آخر الزمان، وحاكمه، وهو المخلّص الذي ينصر الحق على الباطل؛ ولا تكاد تخلو ديانة أو نحلة من هذه الشخصية؛ فعند اليهود مخلّصٌ منتظر يتحدر من نسل داود، وتعتقد النصارى أيضاً أن المسيح سيعود مخلصاً وناصراً لهم في آخر الزمان، أما عند المسلمين فهو قضية خلافية تنازعت فيها الفرق الإسلامية الدليل والحجة، فمنهم المُنْكِر، ومنهم المثبت، ومنهم المُقيِّد، ومنهم المفَصِّل.
فقد كذّبَتْ أخبارَه جماعات كثيرة مثل الخوارج، والجهمية، والمعتزلة[ر]، والشيعة الزيدية الذين أنكروا الروايات المتعلقة بالمهدي إنكاراً شديداً، ورووا عن أئمة أهل البيت روايات تعارض روايات (الاثني عشرية) في ذلك، وسار على رأيهم العديد من الكتّاب والمفكرين ممن اعتمدوا في رفضهم لتلك الأخبار أموراً عدة؛ منها أن الأحاديث الواردة في المهدي لم ترد في الصحيحين (البخاري ومسلم) على الرغم من أن الصحيح بل الحسن في غير الصحيحين مقبولٌ معتمدٌ عند أهل الحديث، واستند آخرون في إنكارهم هذا إلى ما ورد من حديث عن رسول اللهr أنه قال: «لا مهدي إلاّ عيسى ابن مريم» على ما في هذا الحديث من ضعف، وجاء تضعيف ابن خلدون (ت 808هـ) لأحاديث «المهدي» في فصل من فصول مقدمة تاريخه «العبر وديوان المبتدأ والخبر» فاتحةً لمن تبعه في الرأي مثل أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام»، وقد صنف في الرد عليه أحمد بن الصديق الغماري كتاباً يفند فيه كلامه وينقضه، أسماه «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون».
وقد قبل أهل السنّة من روايات الحديث الشريف ما يتلخص بالدلالة على صفات رجل صالح يؤمّ المسلمين في آخر الزمان، ويحكم فيهم، فيملأ الأرض عدلاً، يتميز للناس بعمله وجهاده وعدله، ويُعد ظهوره من علامات قيام الساعة، فلا يُبْنَى على التصديق بأخباره إيمان ولا كفر، فمما صح بإسناد حسن عند بعض رواة الحديث من رواية أبي داود في سننه وابن ماجة وابن حبان بروايات مختلفة عن رسول اللّهr أنه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطول اللّه ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منا يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» وفي رواية أخرى «يملأهـا عدلاً كما ملئت جوراً». ولم تثبت صحة أخبار المهدي عند المحققين من أهل الحديث على وجه التفصيل، بل جاءت الأحاديث الصحيحة غير صريحة في ذكره، والصريحة في ذكره وذكر لقبه وأخباره غير مجمع على صحتها؛ فمنها الحسن ومنها أقل من ذلك رتبة؛ مما جعل علماء الحديث يختلفون في حَسَنِها وضعيفها، وقد عدّ السخاوي نقلاً عن أبي الحسين الآبري، ومحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي تعاضد الأحاديث الحسنة والضعيفة لكثرتها والإشارات الواردة في الصحيح أنها تنزل منزلة التواتر المعنوي فأخذ عنهم كثير هذا الرأي، وعارضهم فيه آخرون.
وذهبت فئات أخرى من أهل الشيعة من غير الزيدية إلى غير ذلك، فرفعوه فوق منزلة البشر، وأصبح المهدي إماماً معصوماً، حياً غائباً لأكثر من اثني عشر قرناً، يتصل بسفرائه ويخبرهم أمر دينهم ودنياهم، له رجعة في آخر الزمان ينصر الشيعة على أعدائهم، فهو المنتظر عندهم، وله قدسية كبيرة، وتأثير عظيم على الناس، ويمتاز بسلطة تكوينية لا يبلغها مَلَكٌ مقرّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَل.
وجعلوا الإيمان بقدراته عقيدة أساسية، وركناً من أركان الإيمان إذ هو جزءٌ من الإيمان بالإمامة عندهم، يقوم عليها الدين، وينهدم الدين دونها، لاتتم الرسالة المحمدية ولا يكون النبي r أتم تبليغه إلا بها، على الرغم من التنازع في تحديد هوية المهدي وشخصيته بين فرقهم.
وتُظهر كتب الشيعة المعتمدة خلافاً شديداً حول أمر المهدي؛ إذ يروي الكُلَيني (ت 329هـ) في كتابه «الكافي في الأصول» ما ينص على الحيرة في أمر المهدي وغيبته خوفاً من القتل، ووصلت هذه الحيرة إلى الخلاف بينهم والتشتت، بل وصلت إلى حد التكفير واللعن والضرب بالنعال كما يذكر محمد بن إبراهيم النعماني (ت 342هـ) في كتابه «الغيبة»، ومنهم من قال بتسلسل الأئمة إلى المهدي، ومنهم من قال بانقطاع الإمامة قبله، وكل فريق يبرز حججه بنصوص منسوبة إلى آل البيت، وقد أورد هذه الحجج صفوة علماء الشيعة مثل القُمي، والمفيد، والطوسي، والحرّ العاملي، ووصل الحدّ في اختلافهم إلى تفرقهم في أربعة عشر رأياً.
ويبدو أن فكرة المهدوية كانت مرافقة للحركات السياسية التمردية؛ إذ راقت هذه الفكرة لكثير من الجماعات لإصباغ الشرعية على التحركات المطالبة بالحكم مما أدى إلى اختلافهم؛ فتهافتت جماعاتهم لادعاء المهدوية لمن يزعمون إمامته، ليلزموا الناس بنصرة جماعاتهم على الحاكم تحت لواء الواجب الديني، فقام أصحاب الفِرَق يدَّعونها لأئمتهم؛ فمِنَ الشيعة الكيسانية مَن ادعاها لمحمد بن الحنفية ومنهم من ادعاها لعبد الله ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومن شيعة أبناء الحسين من ادعاها لأبي جعفر محمد الباقر ابن علي زين العابدين، ومنهم من ادعاها لجعفر الصادق بن محمد الباقر، ولابنه موسى الكاظم بن جعفر الصادق، واختلف آخرون بأن رأوها لمحمد بن جعفر، وقيل إنها لمحمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق محتجين بأنه الإمام السابع؛ فسموا بالسبعية، كما ادعيت لمحمد بن عبد الله النفس الزكية، وزعمت كل فرقة راغبة في الحكم أن مهديها حي لا يموت حتى يملك الأرض كلها، وأنه هو (المهدي) الذي تقدمت البشارة به، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم.
لكن الأمر لم يقتصر على شيعة علي والحسين، بل ظهر أيضاً في البيت الأموي مهدي آخر يلقب بالسفياني المنتظر؛ إذ إن خالد بن يزيد بن معاوية نغص عليه غلبة مروان بن الحكم على الحكم وأراد أن يعيد الخلافة للفرع السفياني، فيذكر ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة أن «خالداً المذكور كان موصوفاً بالعلم والعقل والشجاعة، وكان مولعاً بالكيمياء، وقيل إنه هو الذي وضع حديث السفياني أنه يأتي في آخر الزمان لما سمع بحديث المهدي».
ومن الطريف أنه لما قال الشيعة بالمهدي، وقال بعض الأمويين بالسفياني، وضع الشيعة الأحاديث بأن المهدي إذا خرج سيقابل السفياني إذا خرج، فسيبايع الناس المهدي؛ ليحارب السفياني.
كما يروي الطبري في حوادث سنة 132هـ أيام النزاع بين دعاة العباسيين والأمويين أن جماعة من أهل قنسرين وحمص وتدمر تجمعوا، وقَدِمهم ألوفٌ عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمد ودعوا إليه وقالوا: «هو السفياني الذي كان يُذكر، وكانت موقعة شديدة انهزم فيها أتباع أبي محمد وقُتل، وأرسل برأسه إلى أبي جعفر المنصور».
ولما رأى العباسيون أن الانقلابيين يستمدون شرعيتهم من ادعاء المهدوية، اختاروا أن يكون لهم مهديٌ أيضاً؛ فوضعوا الأحاديث في ذلك، مما حَمَل أبا جعفر عبد الله المنصور على تلقيب ابنه محمد بن عبد الله بالمهدي، لتطابق اسمه مع ما ورد في الأحاديث.
وتأخر تحديد مهدي الفرقة (الاثني عشرية) حتى وفاة إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري (260هـ) إذ ذُكر أن له ولداً اسمه محمد بن الحسن هو الثاني عشر وهو مهديهم، ويروي الكليني في كتابه «الكافي في الأصول» أن أم هذا الإمام جارية حملت به ومات أبوه دونه، واستتر أمره فلم يره أحد وقت ولادته، فشكك كثير في وجوده، وقيل إنهم رأوه صبياً لم يبلغ الحلم، ولم يبلغ سن التكليف، ثم اختلفوا في سنه فمنهم من قال: إنه كان ابن أربع سنين، ومنهم من قال: ابن ثماني سنين، وإنه حي غاب عن أعين الناس إلى أن يؤذن له في الخروج، وهو يتصل بنوابه السفراء الأربعة، وقيل إنه اختبأ في سرداب وسيفرج عنه عندما يشاء الله.
وقد لزم غياب هذا الطفل عقيدة الإيمان بالتَغْيِيْبِ التي انقسمت إلى غيبتين، غيبة صغرى امتدت من وفاة الحسن العسكري سنة (260هـ) حتى وفاة رابع السفراء الأربعة الذين ينوبون عن المهدي في أمور المسلمين سنة (329هـ)، وتتميز هذه الغَيْبة بنص المهدي الغائب على اسم السفير النائب، أما الغيبة الكبرى فتبدأ مع نهاية الغيبة السابقة إلى يوم الرجعة أو الظهور للمهدي، وتتميز بشروطٍ محددةٍ للنيابة، من تحققت فيه اتصل بالمهديّ، ونال الحظوة؛ كما لزم أصحاب فكر الغَيْبَة فكرتان أساسيتان تحولتا إلى عقيدة، وهما فكرة الانتظار، والرجعة؛ اللتان تعوضان الإخفاق السياسي في تَسَلُّمِ الشيعة الحكم، فتمنع أن يتسرب اليأس إلى نفوس أتباعهم وأن يذوب حزبهم، فيعم الرجاء والأمل في نفوس الشيعة، فتكمن رغبتهم في الحكم في صدورهم ولا تتبدد، لأن الأمر لهم في النهاية على يد مهديهم صاحب القدرات الاستثنائية، فمكانة المهدي عندهم لا تدانيها مكانة؛ إذ نقل الكليني نصوصاً منسوبة إلى جعفر الصادق سئل فيها: «أما على الإمام زكاة؟ فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء، ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله، …». وروايات أخرى تظهر تحريم ذكر اسم المهدي يرد فيها: «صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلا كافر»؛ فهذه القدسية والصفات تؤكد للشيعة قدرة المهدي على الانتقام من جميع أعدائهم؛ إذ يرد في «تفسير الصافي» لمحمد بن محسن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني (ت 1091هـ) في تفسيره لسورة البقرة رواية منسوبة إلى جعفر الصادق أنه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام بفعال آبائهم».
وإن النيابة عن المَهدي بهذه الصفات بالتصرف في شؤون المؤمنين به أمرٌ غايةٌ في القدسية وله أهمية عظيمة، مما جعل رتبة النيابة محطاً فكرياً مهماً لدى علمائهم الذين لمسوا مكانتها في قيادة الشيعة خاصة بعد تغيّر المفاهيم الاجتماعية والسياسية عبر الزمن، مما دفعهم إلى تطوير النيابة في الفكر الاثني عشري؛ إذ ظهرت نظرية ولاية الفقيه ونيابته عن المهدي أول ما ظهرت على يد «محمد بن مكي الجزيني العاملي» (876هـ/1471م) في كتابه «اللمعة»، ولم تعد نيابة الفقيه عن المهدي في شؤون الدين فقط، بل أصبحت نيابة عامةً في الحكم والقضاء والحدود وإقامة الصلاة، محسناً بذلك شروط الانتظار لعودة المهدي؛ ليظهر بعد ذلك مصطلح «نائب الإمام»، وبعد أربعة قرون طور «أحمد بن محمد مهدي نراقي كاشاني» في كتابه «عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام» أفكار الجزيني حول صلاحيات الفقهاء مستخدماً مصطلح «ولاية الفقيه» أول مرة رافضاً «التقية» و«عصر الانتظار»، داعياً الفقهاء إلى تولي زمام الأمور والحكم لجماهير الشيعة، واقترح أيضا منصب الإمامة الكبرى، وتبعه الشيخ «مرتضى الأنصاري» الملقب بـ«خاتم المجتهدين» حيث أفتى بوجوب تقليد الشيعة المرجع الديني أو الفقيه كل أمورهم الحياتية والمذهبية، فترسّخت مرجعية الفقهاء ودورهم كنواب للإمام الغائب الثاني عشر، وهو ما أدى إلى تحويل وظيفة الفقيه من مجرد ناقل للأحاديث إلى مجتهد، ثم إلى مرجع يجب تقليده على نحو ينزله منزلة المنصب الشرعي، أو ما يطلق عليه في الفقه الشيعي «النيابة العامة» التي صعدت إلى مصاف الولاية المستمدة من الله. (وهذه النيابة هي التي ارتكزت عليها دعوة الخميني).
لم يقتصر ادعاء المهدوية على أهل الفرق والجماعات المذكورة لأئمتهم المزعومين، بل تجاوز الأمر إلى ظهور عدد هائل من الأدعياء الذين ادعوها لأنفسهم؛ فنصرة المهدي دعوة ثورية استخدمت لجمع الأتباع والأعوان، وقد استغلها كثير من أصحاب المصالح في محاولات للاستيلاء على الحكم والسلطان؛ مثل عبيد الله المهدي العبيدي (ت 322هـ) مؤسس الدولة الفاطمية بالمغرب، ثم ادعاها حفيده المعز بن المنصور الفاطمي العبيدي (ت 365هـ) إذ يذكر المؤرخ العلامة أبو شامة المقدسي في «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين» أنه بثّ دعاته فكانوا يقولون هو (المهدي) الذي يملك، وهو الشمس التي تطلع من مغربها، كما ادعاها لنفسه أيضاً محمد بن عبد الله بن تومرت (ت524هـ) أمير الموحدين، وكان أصحابه يخطبون له على منابرهم؛ فيقولون في خطبتهم: «الإمام المعصوم المهدي المعلوم الذي بشرت به في الصريح، الذي اكتنفته بالنور الواضح والعدل اللائح، الذي ملأ البرية قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً»، كما ادعاها العديد من الصوفية، مثل الحسين بن منصور الحلاج، وظهر في إيران أيضاً الميرزا علي محمد رضا الشيرازي (ت1850م) زعيم الطائفة البهائية[ر] الذي ادعى المهدوية لنفسه ثم النبوة، وكذلك ادعاها الميرزا غلام محمد القادياني (ت 1908م) زعيم الطائفة القاديانية[ر].
كما ادعاها زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي (ت1961م) ونوه بذلك في كتابه «يسألونك عن المهدي» واضعاً فيه أسساً علمية جديدة لفكرة المهدوية، قبلها العديد من أبناء جلدته، ورفضها آخرون.
ولا يكاد عصر يخلو من عشرات المُدَّعين للمهدوية من ثائرين، ومنقلبين، وراغبين، وطامحين يستغلون المنتظرين من المؤمنين بالانتظار المترقبين لمن يحقق الشريعة بعد أن ضيعها أهلها تقرباً من السلطان.
جواد معين ترجمان
مراجع للاستزادة: |
ـ السيوطي، العَرْفُ الوَرْدِي في أخبار المَهْدِي، ضمن الحاوي للفتاوى، تحقيق أبي يعلى البيضاوي (دار الكتب العلمية، بيروت 1983م).
ـ ابن قيم الجوزية، المنار المنيف في الصحيح والضعيف، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة (دار مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، د.ت)
ـ حمود بن عبد الله التويجري، الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر (طبعة الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإ فتاء الأولى، 1403هـ).
ـ عدّاب محمود الحمش، المهدي المنتظر في روايات أهل السنة والشيعة الإمامية، دراسة حديثية نقدية (دار الفتح للنشر، 2001م)
ـ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي في الأصول (نشر المكتبة الإسلامية، طهران 1388هـ).
ـ محمد بن إبراهيم النعماني، الغيبة (مكتبة الصدوق، طهران، د.ت).
ـ علي اليزدي الحائري، إلزام الناصب في إثبات الحجة للغائب (مؤسسة الأعلمي، بيروت 1397هـ)
ـ أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه (عمان 1997).
- التصنيف : التاريخ - النوع : أعلام ومشاهير - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 776 مشاركة :