الإمكان
امكان
Possibility - Possibilité
الإمكان
الإمكان possibility هو القوة التي ينتقل بها الشيء من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، ويحتاج هذا الانتقال إلى قابل داخلي، وفاعل يُتِمُّ الفعل. القابل الداخلي هو القوة المنفعلة الكامنة في الشيء التي بها يتغير الشيء عندما ينفعل بآخر. أي هي كما يقول أرسطو: «مبدأ تغير منفعل من شيء آخر من جهة ما هو آخر». والفاعل هو «قوة الفعل التي هي مبدأ تغير في آخر بأنه آخر». والقوة فاعلة كانت أو منفعلة لا تنفك عن الشيء، لأن في الشيء قوة على أن يقبل أمراً، وفي الشيء قوة على أن يفعل أمراً ما. «وإنكار القوة هو إنكار الإمكان». وإمكان الوجود يرتبط بماهيات الأشياء الثابتة، ولكن إذا كان كل شيء يمكن أن يوجد، فإنه ليس من الضروري أن يوجد، وليس من الضروري ألاّ يوجد. وفي ذلك يقول أرسطو في التحليلات الأولى: «إن الممكن ليس باضطراري ومتى وضح أنه موجود لم يعرض من ذلك محال» وانسجاماً مع المعنى الوجودي للإمكان وضع أرسطو معناه المنطقي، فعدّه إحدى مقولات الجهة في القضية. فالجهة تنقسم عنده إلى ثلاثة أقسام هي: الوجوب أو الضرورة، ثم الإمكان، ثم الامتناع أو الاستحالة. وتنقسم القضية من حيث الجهة إلى أربعة أقسام هي:
ـ الواجب «ويعني به الضروري»، وهو الذي لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو كائن، يقول أرسطو: «إنَّ ما وجوده واجب ضرورة فهو بالفعل موجود».
ـ الممكن باعتبار ما كان وهو الشيء الذي حدث في الماضي، وكان يمكن ألا يحدث، أي لم تكن ثمة ضرورة وجودية تقتضي أن يكون قد وجد، وتقتضي ألا يمكن ألا يكون قد وجد.
ـ الممكن باعتبار ما سيكون، وهو الذي لم يحدث بعد، ولكن من الممكن أن يحدث ذات يوم.
ـ الممتنع أو المستحيل، وهو الذي لا يمكن أن يكون أبداً.
الإمكان في الفلسفة العربية
يميز ابن سينا[ر] الإمكان من الوجوب بهدف تأكيد القوة المطلقة لواجب الوجود (الله) على بقية الموجودات مقابل الممكنات والممتنعات: «فلابد من واجب الوجود»، وذلك لأن «الممكنات إذا وجدت وثبت وجودها كان لها علل لثبات الوجود». ومن الوجهة الأنطولوجية لا يمكن تخيل عالم بدون واجب الوجود لأنه حسب ابن سينا هو «الموجود الذي متى فرض غير موجود عَرَضَ منه محال» وهنا يبدو الممكن محتاجاً إلى الواجب ويقابله: «إن الممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود أو موجوداً لم يعرض منه محال».
ونرى الأفكار نفسها تقريباً عند الفلاسفة والمتكلمين المتأخرين، وهو يغدو عند ابن عربي[ر] مرتبطاً بنظام فلسفي جديد. فالإمكان: حقيقة معقولة، وهو عين الممكن من حيث ما هو ممكن. ويندرج هذا المعنى في نظريته في «الإنسان الكامل» الذي يجمع بين الحق والعالم. فحين يظهر بالأسماء الإلهية يكون حقاً، وحين يظهر بحقيقة الإمكان يكون خلقاً. وعلى العموم فإن الممكنات عند ابن عربي مهيأة لقبول الوجود، وهي في حال عدمها تفتقر إلى المرجح.
والإمكان في الفلسفة الغربية وبالخصوص عند ليبنتز أغنى من عالم الواقع، والممكن عنده يتحدد باعتبارين: أولهما، أنه بوصفه ماهيةً قائم في عقل الله، وفي ذلك يقول ليبنتز في المونادولوجية: «في أفكار الإله عدد لا متناه من العوالم الممكنة الوجود". ويقول أيضاً: «...إن الله ليس منبع الوجود فقط، ولكنه أيضاً منبع الماهيات من حيث واقعية الإمكان ... وعقل الله هو موطن الحقائق الأبدية ... ولولاه ما وجدت واقعية ما في الممكنات». وثانيهما أنّه تصور خال من التناقض، ولكن ليس كل تصور خال من التناقض شيئاً واقعياً، لأن الماهيات تخرج إلى الوجود بحسب كمالها، يقول ليبنتز في ذلك: «كل ممكن له الحق في الوجود بنسبة الكمال الذي ينطوي عليه» ولكن ليس كل الممكنات تظهر إلى الوجود بل أكثرها لا يظهر بسبب نقصه أو عدم اتفاقه مع «مبدأ الأحسن أو الملاءمة» فالله يختار من بين العوالم الممكنة اللا متناهية أجملها وأكملها. ويبرز من بين مجموع الماهيات «الممكنات» التي توجد في فكره على شكل تصورات غير متناقضة تلك التي تكون ممكنة في خير العوالم.
أما كَنت: فالإمكان والواقع عنده لا يخصان العالم الخارجي، بل العقل البشري والتمييز بينهما هو تمييز ذاتي محض يخص هذا العقل. والإمكان هو إحدى مقولات الجهة الثلاث وهي: الإمكان والوجود والضرورة. ولما كانت الذات العارفة هي التي تقرر وضْعَ هذه المقولات، فقد وضع كَنت ثلاث مصادرات للفكر التجريبي تقابل على التعاقب تلك المقولات، فقرر أولاً: «إن الممكن هو كل ما يتفق مع الشروط الصورية للتجربة» وهذه الشروط هي عنده الحدس الحسي والتصور الذهني، وثانياً: «إن الواقعي هو كل ما يتفق مع الشروط المادية للتجربة» والمادة هي الإدراك الحسي، وثالثاً: «الضروري هو الذي لا بد من وجوده، وهو كل ما يتحدد توافقه مع الوجود الواقعي وفقاً للشروط العامة للتجربة» بمعنى أن الضروري هنا هو نتاج التأليف بين الممكن والواقعي «الموجود». وعلى أساس هذا الفهم الذاتي المخالف لفهم أرسطو الموضوعي قسَّم كَنت القضية ذاتياً من حيث الجهة إلى ممكنة وواقعية وضرورية، فيقال مثلاً: من الممكن أو من الواقعي أو من الضروري أن تكون «أ» هي «ب»، بحسب ما تدرك الذات. إن فهم كَنت الذاتي للإمكان والواقع يجعل الحكم لا يقوم عل أساس العلاقة بين الذات والموضوع، من حيث إن لكل منهما ماهية ثابتة هي أساس تلك العلاقة، بل يرتبط الحكم بما تقرره الذات العارفة وبما تراه، على عكس أرسطو الذي يرى أن الحكم تقرره الماهية الثابتة لكل منهما، أي الضرورة الخارجية المستقلة عن الذات، ومهمة الذات عندما تحكم هي فقط الكشف عن هذه العلاقة.
والواقع عند برغسون هو خالق الممكن وأسبق منه. ويبني برغسون رأيه هذا على أساس مذهبه في الديمومة والخلق المتجدد، ورفضه للآلية، وتبنيه للحرية. فعنده أن «...الواقع هو خلق متصل لجِدَّة لا يُتَنبأ بها» و «نموٌ كلي غير منقسم ... وديمومة ... ويتخذ في كل لحظة أشكالاً غير متوقعة». ولما كان الواقع على هذا النّحو يخلق باستمرار شيئاً جديداً لا يتنبأ به، «...فإن صورة هذا الشيء تظهر وراءه في الماضي غير المحدد». ولهذا يبدو لنا ـ خطأ ـ وكأن هذا الشيء كان ممكناً في الماضي منذ الأزل، والحق أن الممكن لا يسبق واقعه، بل «يصبح ممكناً في الماضي لحظة تحققه الآن في الحاضر، فالممكن هو إذن سراب الحاضر في الماضي». ولهذا لا يحق للمرء، كما يرى برغسون، أن يتحدث عن شيء ممكن إلا عندما يصبح واقعاً، لأن هذا الممكن «...بعد أن يصبح واقعاً متحققاً يصبح أيضاً ممكناً متحققاً بنظرة تُلقى إلى وراء». ولهذا «فالممكن ليس إلا الواقع نفسه مضافاً إليه فعلٌ يقوم به الفكر، إذ يرمي صورة الواقع إلى الماضي متى تحقق» «إن الممكن نتيجة تنشأ عن ظهور الواقع وانعكاسه إلى خلف». ولكن يظن، بسبب الوهم، أن الممكن يسبق وجودُه تحققه، وهذا الوهم آت من عادات الناس الفكرية التي لا يعونها وهي: أنهم يعللون الحادث بعد حدوثـه بحوادث سابقـة، فـهم فـي «الحاضر يعيدون تنظيم الماضي بغير انقطاع ويعيدون ترتيب العلة بالمعلول باستمرار في حركة تمضي من أمام إلى وراء».
أما سارتر فيرى إن الإمكان هو وجود ناقص، أو هو نقص متعال على وجود الموجود ومكمل له، فالموجود حتى يوجد واقعياً يجب أن يحوز ما ينقصه، ويمتلك ما يتعالى عليه، فالغيم مثلاً يمثل نقصاً للمطر وتعالياً عليه، والمطر يحتاج إلى الغيم حتى يوجد واقعاً. فالممكن من حيث هو بذاته، هو موجود، ولكنه ليس قارَّاً على وضع، وهو كما يقول سارتر: مظهر أو وجه جديد لإعدام «ما هو بذاته» إلى «ما هو من أجل ذاته».
وعلى أساس ذلك تكون العلاقة بين الإمكان والواقع ليست هي علاقة أسبقية ـ كما يقرر أرسطو ـ ينتقل فيها الموجود من اللا وجود عبر الممكن إلى الوجود، لأن «الممكن ليس سابقاً على الواقع ولكنه يمثل خاصية عينية لوقائع موجودة من قبل». وهذا يعني أيضاً أن الممكن ليس وجوداً بالقوة، بل هو وجود بالفعل على نحوٍ ما، «إنه يوجد كنقص حقيقي في الوجود إنه يحدد بصورة إجمالية وضعاً للعدم» إنه شيء يزيد على العدم المطلق بقليل.
ولا تنفصل مقولة الإمكان عن مقولة الواقع بوصفهما مقولتين تعكسان تطور العالم موضوعياً. فإذا كان الإمكان تعبيراً عن اتجاه التطور الكامن في الظواهر، فإن الواقع ما يوجد فعلاً من حيث هو ثمرة تحقق الإمكان.
وينقسم الإمكان ـ تبعاً لتطور الظواهر ـ إلى إمكان صوري وإمكان واقعي. أما الإمكان الصوري فهو الذي ينظر إليه بمعزل عن الشروط الموضوعية لتحققه، غير أنه يجب أن لا يكون متناقضاً منطقياً، وغياب التناقض المنطقي شرط ضروري لكنه ليس كافياً لتحول الإمكان الصوري إلى واقع. وإذا ما تناقض الإمكان الصوري المنطقي مع القوانين الموضوعية فإنه يغدو مستحيلاً. في حين يتسم الإمكان الواقعي بتوافقه مع القوانين الموضوعية. فإذا ما توافرت الشروط الكافية واللازمة للإمكان الواقعي فإن الإمكان يتحول إلى واقع.
ويتم تحول الإمكان في الطبيعة إلى واقع عفوياً، بسبب ارتباطه بالشروط الموضوعية فقط. أما الإمكان في المجتمع فإنه محتاج إلى النشاط الإنساني ليتحول إلى واقع ـ إلى جانب الشروط الموضوعية الأخرى.
محمود خضرة
الموضوعات ذات الصلة |
ابن سينا ـ ابن عربي ـ أرسطو ـ برغسون ـ سارتر ـ كنت ـ ليبنتز.
مراجع للاستزادة: |
ـ ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، تحقيق الأب قنواتي (القاهرة 1960).
ـ ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق الأب بويج، قسم 2 (دار الشرق، بيروت 1983).
ـ أرسطو، التحليلات الأولى وكتاب العبارة، منطق أرسطو، ج1 تحقيق عبد الرحمن بدوي (دار القلم، بيروت 1980).
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد الثالث - رقم الصفحة ضمن المجلد : 614 مشاركة :