النهضة الأوروبية (عصر-)
نهضه اوروبيه (عصر)
European Renaissance - Renaissance européenne
النهضة الأوربية (عصر ـ)
تسمية أطلقت على حركة ثقافية وفنية واسعة انطلقت من إيطاليا، وعمت بلدان أوربا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، واتسمت خصوصاً برفض قيم العصور الوسطى ومثلها المعنوية والاجتماعية والسياسية وذلك بإحياء تراث العصور الكلاسيكية الرومانية والإغريقية وإغناء قيمها الفكرية والفنية والحياتية بإنجازات الحاضر؛ لتصبح إحدى المكونات الأساسية في الحضارة الأوربية الحديثة.
أما عن مصطلح النهضة فقد جاء من اللفظة الفرنسية (رونيسانس) Renaissance التي تعني الولادة من جديد والتي هي في الواقع ترجمة للكلمة الإيطالية ريناشيتا Rinascita التي كان المؤرخ الفني الإيطالي ڤرساري Versari أول من استخدمها عام 1550م للدلالة على انبعاث الفن من جديد. ومنذ أن أصدر المؤرخ والمفكر السويسري الكبير ياكوب بوركهارت Jacob Burckhardt كتابه الشهير «حضارة النهضة في إيطاليا» Die Kultur der Renaissance in Italien عام 1860 شاع هذا المصطلح واتسع مفهومه فصار يدل على ذلك التحول الشامل الذي طرأ على صورة العالم والإنسان عند منعطف العصر الحديث بوساطة إعادة اكتشاف العصور الكلاسيكية وبعث تراثها واستيحاء منجزاتها وقيمها الاجتماعية والحياتية، أي إنه صار يدل على عصر تاريخي محدد له شخصيته الحضارية وسماته المتميزة بالنزعة الفردية والتأثر بالثقافة الكلاسيكية والآراء الدينية الحرة والأسس الأخلاقية المنعتقة من القيود الكنسية والكهنوتية.
وقد ارتبط بالنهضة بصورة وثيقة حركة النزعة «الإنسانية»[ر] Humanism التي برزت في إيطاليا في القرن الرابع عشر، وامتدت إلى باقي البلدان الأوربية (الغربية) بوصفها حركة فلسفية وأدبية تسعى إلى إحياء التراث الكلاسيكي وقيمه الإنسانية، وكانت من أهم عوامل ترسيخ العلم والثقافة في العصور الحديثة.
أرسى المفكرون «الإنسانيون» أسس النزعة الطبيعية التي تجعل الإنسان سيد مصيره بوصفه المقياس الوحيد الذي تحدد به جميع أنواع القيم الأخلاقية والإنسانية، وتجلى هذا في مجموعة من الأفكار والرؤى مؤداها:
- أنه لا وساطة بين الإله والإنسان، وأن الإله والكون شيء واحد.
- أن تحرير الإنسان من خوفه الدائم يكون بمعرفة قوانين هذا العالم الذي يعيش فيه.
- العقل الإنساني هو مظهر للعقل الإلهي، ومن ثمّ يمكن الاعتماد عليه في معرفة العالم والذات الإنسانية.
- ينبغي تخليص القيم الإنسانية من الوصاية الدينية ، والدعوة إلى المساواة بين الناس والتسامح والتعاون واحترام الكرامة الإنسانية على أساس العقل والمنطق وعمل الفرد وعلمه ومنجزاته.
تلقت الحركة الإنسانية دعماً قوياً بوساطة تجدد الدراسات الأفلاطونية بعد قدوم عدد من العلماء البيزنطيين، وتكلل ذلك بإنشاء أكاديمية أفلاطون في مدينة فلورنسا Firenze نحو عام 1440م.
كما ترجم الطبيب فيتشينو M. Ficinoت(1433-1499) أفلاطون إلى اللغة اللاتينية، وسعى إلى التوفيق بين فلسفة أفلاطون والمسيحية.
يعد الفلورنسي بيكو ديلا ميراندولا Pico della Mirandola من أشهر مفكري عصر النهضة، وقد لخص آراءه الفلسفية والدينية عام 1486 في خطبة شهيرة دعيت «خطبة في الكرامة الإنسانية»، يُنظر إليها على أنها بيان للنهضة ولفكر الإنسانيات. يقول ميراندولا: «قرأت في كتب العرب أنه ليس في الإمكان أن نرى في العالم شيئاً يثير إعجابنا أكثر مما يثيره الإنسان». ويؤكد هذا حِكَم هرمس وموسىu وأفلاطون وفيثاغورس وزرادشت والنبي محمدr والقديس بولص وغيرهم. كما يشيد ميراندولا بالمكان الفريد الذي يحتله الإنسان في هذا العالم، الذي يخاطبه الإله قائلاً: «لم أخصص لك مكاناً أو حدّاً تقف عنده أو مهمات معيّنة؛ وذلك لكي تستطيع أن تقوم بكل عمل من الأعمال ، وتحتل الموضع الذي تحب».
لئن كان عصر النهضة يمثل فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة؛ فإن إرهاصاته تعود إلى أواخر العصر الوسيط خاصة أن النهضة ليست في منطلقها سوى التفاتة نحو الماضي ورجعة إلى القديم الوثني والقديم المسيحي، قامت لتعرف الأجيال بالأدب الإنساني في العصور القديمة، ولتعيد الدين المسيحي إلى نقائه الأول. وقد أظهرت الدراسات التاريخية أن الهوة بين عصر النهضة والعصر الوسيط لم تكن بالمقدار الذي أحس به الإنسانيون. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن ثقافة العصور الوسطى شهدت سلسلة من «النهضات» بدأت بالنهضة الكارولنغية في بلاط شارلمان[ر]، ثم تلتها أخرى في عصر أوتو الثالث والبابا سلفستر الثاني، ثم جاءت نهضة القرن الثاني عشر مع نشأة أولى الجامعات وانطلاقة الدراسات الأكاديمية وازدياد الترجمات من العربية والإغريقية. وقد تعزز هذا التوجه، وتنامى في القرن الثالث عشر مع تأسيس المزيد من الجامعات في إيطاليا (بادوا وسالرنو) وفرنسا (باريس ومونبلييه) وبريطانيا (أكسفورد وكامبردج) وانتقال التعليم إليها من الأديرة، وكان هذا يعني تحرر الفلسفة والعلم من نير الأفكار الجاهزة.
وزادت اتصالات الأوربيين بالحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وصقلية ثم في بلاد الشام في أثناء الحروب الصليبية، وترجمت المؤلفات العلمية والفلسفية العربية إلى اللاتينية وتم بوساطتها تعرف الفكر الإغريقي وإعادة اكتشاف أرسطو.
وقد أنشأ الامبراطور فريدريك الثاني Frederick II سنة 1224 مجمعاً في نابولي لنقل العلوم العربية والفلسفية كما أن جامعتي بولونيا Bologna وبادوا Padua الإيطاليتين صارتا من أهم مراكز الثقافة العربية في أوربا.
وما إن أطل القرن الرابع عشر حتى بدأت تباشير النهضة في إيطاليا مع الشاعر الكبير دانتي Danteت(1265-1321) وملحمته الخالدة : «الكوميديا الإلهية»، ثم ظهر بتراركا[ر] Petrarcaت(1304-1374) الذي يجمع النقاد على أنه أول الكتاب الانسانيين وأول من عبر بوضوح وقوّة عن حق الإنسان في الاهتمام بهذه الحياة الدنيا وفي الاستمتاع بما تحويه من روعة وجمال… وهكذا فقد كان بحق أباً للنهضة وتوج أميراً لشعرائها في روما. يقول أحد المفكرين الأوربيين: «لم تبدأ النهضة الفكرية في أوربا إلا بعد أن انتقل التعليم من الأديرة إلى الجامعات، وإلا بعد أن حطمت العلوم الإسلامية والأفكار اليونانية والاستقلال الاقتصادي سلطان الكنيسة».
إن الذي حرر عقل النهضة وحواسها كان النزعة الدنيوية التي انبعثت من نشأة الطبقات الوسطى البورجوازية التي بدأت تزداد قوة بانتعاش الصناعة والتجارة. وأدت هذه المتغيرات الاقتصادية والتقدم المادي إلى حدوث شرخ في اللاهوت والفلسفة الوسيطة وبروز توجه دنيوي نحو تعظيم الإنسان والطبيعة. لقد عمل مفكرو النهضة على تعظيم الإله عبر مخلوقه، وتمجيد كل ماهو إنساني، وإعادة الاعتبار للعقل مما أدى لاحقاً إلى ولادة الفكر العلمي والتجريبي وإلى تجاوز أرسططالية العصور الوسطى ونظام بطلميوس الفلكي الذي جعل الأرض مركز الكون.
كانت إيطاليا المهد الطبيعي للنهضة الفنية والأدبية في أوربا، وذلك بسبب عدة عوامل يأتي في مقدمتها:
- ماضي إيطاليا التاريخي وبقاء التراث الروماني والأوابد الكلاسيكية على أرضها وبين أهليها ماثلاً للعيان.
- وهي بحكم موقعها الجغرافي أقرب البلدان الأوربية إلى اليونان والحضارة البيزنطية وأقواها اتصالاً بالحضارة العربية.
- شهدت مدنها - ولاسيما في الشمال - ازدهاراً اقتصادياً كبيراً بسبب انتعاش الصناعة والتجارة وسيطرتها على الطرق البحرية بين أوربا الغربية وبلدان حوض البحر المتوسط (البندقية وجنوة) وهذا ما جعلها أغنى إقليم في العالم المسيحي آنذاك وشكل القاعدة المادية للأعمال الفنية والعمرانية التي جاءت بها النهضة .
لقد أدى تعدد المراكز السياسية والثقافية إلى منافسة نبيلة بين المدن والأمراء لرعاية الثقافة والفنانين والعلماء يدفعها الحرص على التفوق والرغبة في أن تضيف إلى بهاء صروحها وروعة مجد مناصرة الفن والعلم والأدب وحمايتها.
كانت مدينة فلورنسة الموطن الأول لهذه النهضة، إذ كانت في القرن الرابع عشر أغنى مدن إيطاليا بعد البندقية، وكان الفلورنسيون أكبر صيارفة البلاد؛ وذلك بفضل تنظيم الصناعة واتساع نطاق التجارة والأعمال المالية والمصرفية. وقد جعلوا من مدينتهم عاصمة إيطاليا الثقافية بفضل تنافس أسرها الغنية في رعاية الأدب، مثل تنازعها على الحكم والسلطان ، كانت فلورنسا تفخر بأنها أنجبت أعظم شعراء إيطاليا (دانتي) وأحد أعظم أدبائها (بوكاتشو)[ر] وكثيراً من رجالاتها المبدعين وبقيت طوال القرن الخامس عشر تحمل لواء الزعامة الفكرية والفنية تحت حكم آل مديتشي وعلى رأسهم كوزيمو Cosimoت(1389-1464) ولورنزو المهيب Lorenzo il Magnificoت(1449-1492) وحفيده الذي أقام مكتبة ضخمة في كنيسة سارن ماركو، وكان يجمع بين النشاط الدبلوماسي ورعاية الفنون والشعر. وهكذا نشأت النهضة في فلورنسا بعد أن تجمعت أسبابها من سبل كثيرة عظيمة الأثر، وأضحت هذه المدينة بذلك أثينا إيطاليا مثلما كانت تلك في عهد بركليس[ر]. ويتطابق عصر العظمة هذا مع ما يسميه الإيطاليون الكواتروشنتو Quattrocento، وهو أزهى عصورهم الفنية.
عمت النهضة سائر أنحاء إيطاليا، ومع أن كل بلاطات الأمراء الإيطاليين تقريباً من الشمال حتى نابولي قد اهتموا برعاية العلماء الإنسانيين ، برزت ثلاثة مراكز كبرى لعصر النهضة كان لها الأثر الأكبر في رسم توجهاتها وهي فلورنسا والبندقية وحاضرة الفاتيكان. وكانت البندقية أغنى مدن إيطاليا على الإطلاق، وكان حكامها من أكبر رعاة الفنون والآداب، فأقاموا الأندية والمجامع العلمية لنشرها وتشجعيها.
اشتهرت البندقية بالطباعة، وخرجت منها أجمل الكتب المطبوعة في ذلك العصر، وقبل أن ينتهي القرن الخامس عشر كان قد طبع فيها 2835 كتاباً مقابل 925 كتاباً في روما و300 كتاب في فلورنسا. واشتهر العالم اللغوي ألدوس مانوتيوس Aldos Manutius بطباعة روائع المؤلفات لكبار الشعراء والأدباء والمؤرخين والفلاسفة الإغريق والرومان. وقد احتضنت كثيراً من العلماء البيزنطيين الذين وجدوا فيها وطناً ثانياً بعد سقوط القسطنطينية، فعملوا على نشر اللغة والتراث الإغريقي.
كما كانت على صلة بأشهر الأدباء الإنسانيين في أوربا، الذين جاؤوها من كل حدب وصوب. وفي عام 1500 تأسس فيها المجمع العلمي الجديد Neaakademia الذي كان يعمل للحصول على كتب الآداب الإغريقية وطبعها ونشرها. وشيدت البندقية عام 1536 أجمل مكتبة في أوربا من الناحية العمرانية، ضمت مئات المخطوطات النفيسة، كما نشأت فيها أشهر مدارس الرسم في عصر النهضة.
لم تبق روما بمعزل عن هذه التطورات، إذ احتضنت الكنيسة النزعة الإنسانية في عهد البابا نيقولاوس الخامس Nicolaus Vت(1447-1455) وظلت نحو مئة عام تقريباً تتيح للعقول في إيطاليا قدراً كبيراً من الحرية وتدعم الفن والفنانين بمختلف الوسائل حتى صارت حاضرة الفاتيكان من أعظم مراكز النهضة. أسس البابا نيقولاوس مكتبة الفاتيكان التي ضمت روائع المخطوطات والمؤلفات الثمينة ووضعت هذه المكتبة في متناول الجمهور عام 1475م. كما أن سكرتيره لورنزو ڤالا Lorenzo Valla قاد الحركة الإنسانية في فقه اللغة مع نقد النصوص التاريخية والكتاب المقدس ونظم الكنيسة.
واستمر هذا النهج في عهد البابا ليون العاشر Leo X الذي أصدر عام 1513 مرسوماً بإنشاء جامعة روما، وجاء إليها بعدد كبير من العلماء الممتازين، ويعود إليه الفضل بإنشاء قسم لدراسة اللغات السامية.
ونظم بمساعدة العالم البيزنطي يوحنا لاسكاريس J. Laskaris مجمعاً علمياً إغريقياً منفصلاً عن الجامعة، وأنشئت الكلية الإغريقية على هضبة الكويرينال في روما، وأرسل السعاة والمبعوثين للبحث عن المخطوطات والمؤلفات واقتنائها.
ارتكز الأساس السياسي لعصر النهضة على حرية المدن الإيطالية وتحررها من عوائق الإقطاع والأرستقراطية الطفيلية وظهور الطبقة الوسطى القوية بزعامة أمراء مثقفين احتضنوا المواهب الجديدة، وقدموا لها كل وسائل الدعم والحماية. لقد صارت الثقافة والفنون للأمير الأداة الرئيسة لسياسة جديدة وبروز الشخصية المتميزة. واتخذت للبورجوازية الصاعدة دلالة اجتماعية سمحت لها بالتميز عن بقية أفراد الشعب، كما أن ازدياد الثروة والحرية الفردية بدأ يحطم القواعد الأخلاقية والتقاليد القديمة، وتقهقر الاهتمام بالحياة الآخرة أمام الاهتمامات الدنيوية، وأعلت النهضة من شأن المرأة التي بدأت تتحرر من القيود التي تكبل نشاطها، وتجلى ذلك في شخص إيزابيلا دسته Isabella d’Este في مانتوا Mantua وغيرها.
ومن أهم ما أدى إليه تفاعل مبدأي الفردية والدنيوية وهما من أبرز خصائص عصر النهضة وأوضحها، تغيّر المثل الأعلى للإنسان وانتشار فكرة الإنسان ذي التجربة الحياتية الكاملة. وقد رسم الأديب الإيطالي كاستليوني Castiglioneت(1478-1529) صورة الإنسان الشامل Uomo Universale المثقف بكل شيء والشخصية العظيمة التي تعرف كيف تنسجم مع الطبيعة وقادرة على كل شيء إذا أرادت . ولذلك كان الرجال المشهورون في عصر النهضة يجمعون بين العلم والأدب والفن والسياسة والرياضة والتعلق بالجمال، ويعد ليوناردو دافنشي[ر] Leonardo da Vinci مثالاً لهذا التكامل العبقري شأنه شأن ميكيل أنجلو[ر] Michelangelo الشاعر والرسام والنحات والمهندس المعماري الشهير. وفي فلورنسا طور ليوناردو بروني L.Bruni في كتابه «شيشرون الجديد» Cicero novus نموذج الشخصية المثقفة والنشيطة سياسياً.
أسهم في تقدم حركة النهضة الإنسانية وانتشارها حدثان مهمان في أواسط القرن الخامس عشر، يتمثل الأول في سقوط القسطنطينية عام 1453 في أيدي العثمانيين وهجرة كثير من علمائها إلى الغرب خاصة إيطاليا حاملين معهم قدراً كبيراً من علوم الإغريق والحضارة البيزنطية، إضافة إلى نفائس المخطوطات والمؤلفات الكلاسيكية.فكان لهم دور كبير في نشر المعرفة باللغة الإغريقية والتراث الإغريقي وفي تأسيس المجامع العلمية والنهوض بالدراسات الكلاسيكية.
أما الحدث الآخر فكان ابتكار الطباعة بالحروف المعدنية المتحركة على يد العالم الألماني غوتنبرغ[ر] Gutenberg نحو عام 1450م، وهو الاختراع الذي أتاح نشر النصوص القديمة التي جمعها العلماء الإنسانيون على نطاق واسع، وأدى إلى تيسير العلم والمعرفة والثقافة وجعلها في متناول الجميع، كما ساعد على انتشار أفكار النهضة الإنسانية ثم أفكار الإصلاح الديني في القرن السادس عشر.
ويكفي - للدلالة على سرعة انتشار الطباعة في أوربا- الإشارة إلى أنه بحلول عام 1500م كان قد أنشئ في إيطاليا 73 مطبعة، وفي ألمانيا 50 مطبعة، وفي فرنسا 45 مطبعة. لقد شعر الانسانيون شعوراً عميقاً بأهمية الطباعة، ووجدوا فيها اختراعاً يكاد يكون إلهياً.
وكانت في الحقيقة من أهم عوامل انتشار حركة النهضة شمالاً وغرباً، يضاف إليها دور المدن الإيطالية الشمالية وعلاقاتها التجارية والمالية مع بلدان أوربا الغربية ، كما أن حروب الفرنسيين الإيطالية في أواخر القرن الخامس عشر جعلتهم يقعون تحت سحر النهضة الثقافية والفنية في إيطاليا. وهكذا جذب الملك فرانسوا الأول (1515-1547) إلى بلاطه شعراء وموسيقيين وفنانين إيطاليين، وعلى رأسهم ليوناردو دافنشي.
وتكلل هذا التوجه بافتتاح الكوليج دي فرانس Collège de France عام 1530 الذي كان أكثر انفتاحاً على النهضة الإنسانية من جامعة السوربون وقد تولى إدارته غليوم بودي G.Budé، وهو أشهر علماء اللغة الإغريقية في زمانه وصار هذا المعهد رمزاً للدراسات العلمية الإنسانية.
وهكذا دخلت أفكار جديدة إلى بنية الفلسفة المدرسية الوسيطة، وهضم الفنانون والأدباء الفرنسيون إنجازات النهضة الإيطالية والعصور القديمة وأبدعوا أعمالهم الكلاسيكية.
امتدت المعارف الإيطالية الجديدة في القرن الخامس عشر بسرعة في اتجاه الشمال، واهتم بها في إنكلترا جماعة من العلماء الإنسانيين عرفوا بـ »مصلحي اكسفورد« وصارت جامعة اكسفورد مركزاً للدراسات الإغريقية والإنسانية.
تفاوتت طبيعة النهضة بين البلدان الأوربية ففي حين كانت النهضة في إيطاليا تعنى في المقام الأول بالإقبال على التراث السلفي وإحيائه، كانت ألمانيا منهمكة في حركة الإصلاح الديني، ولم يكن هناك اهتمام كبير بالتراث والدراسات. وكانت اهتمامات الإنسانيين الشماليين أقل علمانية من زملائهم الإيطاليين، ولكن عنايتهم بالثقافة الكلاسيكية السابقة للمسيحية ودعوتهم إلى ديانة ذات طابع شخصي قوي أدى إلى اصطدامهم بالكنيسة.
كان إيراسموس[ر] Erasmus الهولندي أهم شخصية في تاريخ النزعة الإنسانية الأوربية الشمالية، فقد جمع بين الاهتمام الإيطالي بالتراث الكلاسيكي والطريقة العلمية الجديدة في تحقيق النصوص التي طبّقها لإخراج نص إغريقي خالص للكتاب المقدس.
كان يتعهد الحركة الإنسانية الجديدة العلمانيون وأمراء أوربا وملوكها الذين كانت سلطتهم تتعاظم وتشهد قصورهم الفخمة على أبهتهم ونفوذهم، وكان هذا مدعاة لاهتمام مفكري النهضة بالسياسة والدولة المثلى والحاكم النموذجي وأفضل القوانين، ولاسيّما وأنهم كانوا يعتقدون أن بوسع البشر تحسين أوضاعهم بأنفسهم، وهكذا تناول ايراسموس الشؤون السياسية في مؤلفاته، ولكن مَكياڤِلّي Machiavelli هو أشهر من يمثل هذا الاتجاه في فكر النهضة. وقد أسّس مفهوماً واقعياً للدولة يعتمد على قوة السلطة ووضع الخطوط الكبرى لفن السياسة العملية في كتابه «الأمير» il Principe عام 1532 وكذلك في مقالاته عن الكتب العشرة الأولى للمؤرخ الروماني ليفيوس Livius. وأكسبته أفكاره صيت السياسي المحتال والمخاتل. وعلى النقيض من ذلك أصدر المفكر الإنكليزي توماس مور[ر] Th.More مؤلفه باللغة اللاتينية الموسوم «يوتوبيا» Utopia عام 1516، وهو مقالة في السياسة والحكمة المثاليتين.
حوت حركة النهضة - شأن الحركات العظيمة في التاريخ - كثيراً من المزايا وبعض المثالب. وكان أهم اتجاهين سادا هذه الحركة هما: إحياء المؤثرات الكلاسيكية في الأدب والفن، ثم تحرير الفكر والفرد من قيود العصور الوسطى وأغلالها، وقد أدى اتجاه النهضة نحو حرية البحث والاستقصاء إلى حركة الإصلاح الديني. ومن الآثار الطيبة لحركة النهضة تنوير الفكر وانتشار التعليم الذي تحققت بفضله أعظم نتائج النهضة وأكثرها ديمومة واستمراراً، وهي إيجاد نوع من الوحدة الثقافية والخلقية بين بلدان غرب أوربا قامت على أساس الضمير الفردي وحرية الفكر.
محمد الزين
الموضوعات ذات الصلة: |
الإصلاح الديني ـ الإنسانية (النزعة ـ) ـ إيراسموس ـ بتراركا ـ البندقية ـ روما ـ فلورنسا ـ النهضة الأوربية (أدب عصر ـ) ـ النهضة الأوربية (فن عصر ـ).
مراجع للاستزادة: |
ـ سعيد عبد الفتاح عاشور، أوربا العصور الوسطى، ج2، النظم والحضارة، ط2 (القاهرة 1963).
ـ س. درسدن، الحركة الإنسانية والنهضة، ترجمة عمر شخاشيرو (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1972).
- JOHN J.MARTIN (ed.),The Renaissance World Trinity University (Texas 2007).
- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - المجلد : المجلد الواحد والعشرون - رقم الصفحة ضمن المجلد : 88 مشاركة :