النمو
نمو
Growth - Croissance
النمو
النمو la croissance يستخدم تعبير النمو للدلالة على التغير الذي يطرأ على الكائن الحي، ويحقق له المزيد من النضوج والاستقلالية مع تزايد مستوى التعقيد في مكوناته العضوية والوظيفية، ويظهر ذلك بوضوح على المستويين الكمي والكيفي في آن واحد.
والنمو ظاهرة طبيعية تتصل بحياة النبات والحيوان والإنسان على اختلاف أشكالهم وأنواعهم، وعلى اختلاف مستويات تطورهم وتعقد بنيتهم العضوية والجسدية، أما الكائنات غير الحية فليس من الصحيح وصفها بالنمو مع تنوع التغيرات التي يمكن أن تصيبها لأن التغيرات البسيطة التي تصيبها يمكن أن تخرجها عن هويتها الأساسية في حين يحافظ الكائن الحي على هويته مع كل عملية نمو.
وللنمو قوانينه الطبيعية التي تجعله مستقلاً عن إرادة الكائنات الحية الخاضعة له، فليس في مقدور النبات أو الحيوان أو الإنسان رفض عملية النمو التي يخضع لها، غير أن بني البشر يحاولون الكشف عن القوانين التي تحكم ظاهرة النمو بغية التحكم بها وتوظيفها لخدمة الإنسان، وعلى الرغم من أن العلم قد كشف كثيراً من القوانين التي تحكم الظاهرة على مستوى الطبيعة، مازال الإنسان يكتشف كل يوم ما هو جديد في هذا الشأن.
ويولي الباحثون في علوم الحياة اهتماماً كبيراً بموضوع النمو، فهو يستحوذ على اهتمام الباحثين في المجالات المتعددة المتصلة بالإنسان والحيوان والنبات والتي يتميز كل منها من غيره بجملة من الخصائص، وعلى الرغم من ذلك يكتشف العلماء قوانين مشتركة تحكم الظاهرة الحيوية وتحدد مساراتها، الأمر الذي يدفع العاملين في كل حقل من الحقول إلى الاستفادة مما أنجزته الحقول الأخرى في مجال البحث والاكتشاف، ويمكن تصنيف العلوم المعنية بالنمو في مجالات عديدة منها علوم الحياة وعلوم النبات وعلوم الحيوان وعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد، وكل ما يخص الحياة الاجتماعية بصورة عامة.
ويميز الباحثون بين مفاهيم عديدة ترتبط ببعضها، وهي مشتقة من مفهوم النمو إلا أنها تحمل دلالات مختلفة، ومن ذلك مفهوما التنمية والإنماء، ففي حين ينطوي مفهوم النمو على التزايد الكمي والنوعي الطبيعيين من دون تدخل أي إرادة بشرية، يُستخدم التعبيران الآخران للدلالة على النمو الناجم عن الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية، وفي الوقت الذي يزداد استخدام التعبير الأول «النمو» في علوم الحياة، من حيث أشكالها والقواعد الناظمة لها، يزداد استخدام مفاهيم التنمية والإنماء في المجالات الإنسانية والاجتماعية المختلفة.
لقد ارتبط مفهوم النمو للوهلة الأولى بمفهوم الحياة، ذلك أن النمو ظاهرة تميز الكائن الحي وحسب، وتحدث بفضل خصوصية التكوين التي تحمل في طياتها نظماً وراثية تختزن صفات الكائن الحي، وتحدد سماته وخصائصه التي يتفاعل من خلالها مع البيئة المحيطة به، في الوقت الذي تنتقل فيه هذه النظم من الكائن الحي إلى الكائنات الحية المشابهة له في نوعه، أما الكائنات غير الحية فتفتقر إلى نظم وراثية تختزن سيرتها وخصائصها؛ مما يجعل تفاعلها مع البيئة المحيطة بها خاضعة لمنظومة أخرى من القوانين، وتتيح هذه الخصائص للكائن الحي أن يتميز من الكائنات غير الحية بالقدرة على التطور، والقدرة على الاستنساخ الذاتي، والقدرة على النمو والتمايز، والقدرة على التنظيم الذاتي للتكيف مع البيئة وغير ذلك من السمات التي لا توجد في الكائن غير الحي.
ويميز مينكس Mainx بين ثلاثة مجالات لعلوم الحياة، تعد من حيث النتيجة أشكالاً لعلم النمو هي علم الشكل morphologie، ويهتم بالتغير الكمي الذي يطرأ على شكل الكائن الحي، وعلم الجنين embryologie الذي يهتم بالمراحل الأساسية لتشكل الجنين ونموه، وعلم وظائف الأعضاء physiologie، الذي يهتم بالنمو الوظيفي لكل عضو من الأعضاء بما ينسجم والتزايد الكمي والنوعي للكائن الحي.
غير أن ڤايس Weiss يقترح تصنيف مجالات علم الحياة على أسس أخرى، فقد ميز في هذا السياق بين البيولوجيا الجزئية، والبيولوجيا الخلوية، والبيولوجيا الوراثية، والبيولوجيا التطورية، وبيولوجية الجماعات، وأخيراً بيولوجية البيئة، وقد أراد في هذا التقسيم أن يشمل العلم دراسة أشكال النمو في مختلف جوانب الحياة، إلا أن الأكاديمية القومية في فرنسا اقترحت تصنيف علوم الحياة في اثني عشر فرعاً أهمها البيولوجية الجزئية، وعلم الوراثة، وبيولوجيا الخلية، والفيزيولوجية، وعلم التبيؤ، وبيولوجية السلوك، وعلم التغذية، وعلم آليات المرض، وعلم العقاقير، وغيرها، وبذلك يصبح علم الحياة معنياً بجملة واسعة من الموضوعات التي تخص مظاهر الحياة بمعناها الواسع.
ويمتد تأثير علم الحياة في تحليله لمظاهر النمو إلى العلوم الاجتماعية، ويُعد هربرت سبنسر[ر] H. Spencer واحداً من أشهر الفلاسفة الذين حاولوا فهم الظواهر الاجتماعية من خلال تحليله لمفهوم النمو، إذ تشكل مسألة التشابه بين المجتمع والكائن العضوي الأساس الذي بنى عليه تصوره للتطور الاجتماعي، فالنمو ظاهرة مشتركة على حد تعبيره بين التجمعات الاجتماعية والتجمعات العضوية، وكلا النوعين من التجمعات يشتركان في سمة مميزة أولى هي التزايد المستمر في كتلتها، ويكمن الفرق في مستوى التطور وشكله وليس في آليته أو نوعيته، فجنين الحيوان العالي على حد تعبيره يتكون من أجزاء قليلة التباين تتزايد بسرعة وتتباين مع نمو الجسم وكبره، وينطبق الأمر على بنية المجتمع الحديث حيث يكون التباين في وحدته غير واضح مع بداية الأمر، لا في الكم، ولا في الكيف، ولا في الدرجة، غير أن ازدياد عدد السكان إلى درجة محددة يؤدي إلى الانقسامات المتزايدة والمتكررة، حيث تزداد مؤشرات التباين. ومع الانتقال من مجموعات صغيرة إلى مجموعات أكبر منها وأكثر تعقيداً يزداد التباين بين الأجزاء، ويصبح التباين أشد وضوحاً، في حين تكون المجموعات البسيطة الأقل تطوراً أكثر تجانساً، ويختلف حالها عندما يزداد حجمها.
ويربط سبنسر التغيرات في البناء التركيبي بمتغيرات مماثلة في الوظائف والأدوار، فتغير البنية في المجتمع على حد تعبيره يظهر في التغيرات الوظيفية أكثر مما يمكن رؤيته مباشرة، فالتنظيم الذي يتكون من تركيب كلي تعتمد أجزاؤه على بعضها اعتماداً كبيراً إلى حد ما يتعرض للفناء إذا ما حدث انفصال بينها، وتنطبق هذه الحقيقة على الكائن العضوي بقدر ما تنطبق على الكائن الاجتماعي، وبالمستوى نفسه.
ويبرز جليا أن ثمة ترابطاً وثيقاً عند سبنسر بين مستوى تطور العضوية وبين طبيعة التساند الوظيفي بين عناصرها، فالمخلوقات الدنيا مكوَّنة بشكل يبدو فيه كل جزء مشابهاً في مظهره للجزء الآخر، ويقوم بأعمال تشابه أعماله، وفي هذا الحالة إذا ما تم الانفصال بين هذه الأجزاء سواء أكان ذلك تصنعاً، أم تلقائياً فإن ذلك لا يؤثر في استمرار حياة كل منهما، كانفصال جزء من البروتوبلازما protoplasme عن أصله، حيث لا يعوق ذلك استمرار حياة الخلية، ويشبه ذلك إلى حد كبير التجمعات الاجتماعية الدنيا وللأسباب نفسها، فالمجموعات البسيطة غير المستقرة والمتجولة التي لا رئيس لها يمكن أن تنقسم من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى القضاء عليها، فكل رجل هو في الوقت ذاته محارب وصياد وصانع سلاح، وبانٍ وغير ذلك.. وتكون معه زوجته التي تقوم بالأعمال التي تحتاج إلى كدح، وبالتالي فإن الرجل لا يحتاج بالضرورة إلى الانسجام مع زملائه إلا في حالة الحرب فقط، أما في المجتمعات الأكثر تعقيداً فيبدو أن الأمر يختلف تماماً، كما هي الحال في الحيوانات الأكثر تطوراً، ذلك أن لوي عنق طائر وفصله عن الجسد يؤدي إلى موته، وكذلك عزل قرية في الوقت الراهن عن محيطها يؤدي إلى إخفاق كل نشاطاتها.
ويعد علم السكان[ر] من أكثر العلوم الاجتماعية اهتماماً بمفهوم النمو الذي يعني الزيادة التي تطرأ على عدد السكان، وقد ظهرت عبر التاريخ تغيرات واسعة على تصور الناس لمفهوم السكان، فقد كانت المجتمعات القديمة تولي اهتماماً كبيراً بموضوع الإنجاب بعده الوسيلة الوحيدة للتعويض عن الأفراد الذين يموتون بسبب ارتفاع معدل الوفيات أو بسبب الحروب وعمليات الغزو التي يتعرضون لها، ولم يظهر مفهوم للسكان على نحو واضح إلا في العهد اليوناني الكلاسيكي حين أرسى أفلاطون المبدأ القائل إن نوعية الناس أكثر أهمية من أعدادهم، بعد ذلك وعلى مدى قرون طويلة اكتسبت مفاهيم السكان والزيادة والنقص السكاني والمشكلة السكانية معاني جديدة، ففي عهد الامبراطورية الرومانية سادت المذاهب المؤيدة لزيادة المواليد لتوفير العدد الكافي لاستقرار المستعمرات. وفي القرون الوسطى مال الفكر الفلسفي تجاه «العذرية» بعدها أرقى شكل للوجود الإنساني (كتابات القديس أوغسطين[ر] Saint Augustinus على سبيل المثال)، ثم جاء توماس الأكويني[ر] Thomas Aquinas في القرن الثالث عشر الميلادي ليؤكد أن الزواج وتكوين الأسرة لا يقل قيمة وقدراً عن العذرية، وبحلول القرن السابع عشر الميلادي وظهور عصر الماركنتيلية ظهرت فكرة أن بناء الأمة يقوم على زيادة التجارة والثروة، ومن ثم النظر إلى النمو السكاني على أنه عامل ضروري لزيادة دخل الأمم وثروتها.
أما في القرن الثامن عشر فقد برزت أفكار آدم سميث Adam Smith ووليم غولدوين William Goldwin من المدرسة الطبيعية الذين اعتقدوا وجود تناغم بين النمو الاقتصادي والنمو السكاني حيث يعتمد الثاني على الأول. وبنهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ظهرت واحدة من أشهر نظريات السكان ألا وهي النظرية المالتوسية حين نشر توماس مالتوس Malthus مقالاته عن السكان التي تربط بين النمو السكاني ونتائجه الاجتماعية، وتجعل من النمو السكاني عائقاً أمام التنمية.
وعلى الرغم من تزايد الحجج التي تفيد بوجود علاقة سلبية بين النمو السكاني، والنمو الاجتماعي والاقتصادي، غير أن الحجج الأوسع تفيد أيضاً بالارتباط الوثيق بينهما، فمن الصعب التفريق بين النتائج والمسببات، حيث يبدو كل من هذه المؤشرات سبباً ونتيجة في آن واحد، كما يبدو من المتعذر في كثير من الأحيان وجود أي من المتغيرات السكانية أو تلك الاقتصادية من دون أن يكون له ارتباط معين مع المتغيرات الأخرى.
كما يستخدم مفهوم النمو استخداماً واسعاً في الدراسات الاقتصادية، والذي يعني توجيه الجهود من أجل توسيع خيارات الناس، والمقصود بالخيارات الفرص المنتقاة في ميادين أساسية للحياة الإنسانية من أهمها الحصول على دخل أكبر وزيادة التعليم، وزيادة توقعات الحياة نتيجة للرعاية الصحية، وإيجاد البيئة النظيفة، وتحقيق الحرية السياسية وحماية حقوق الإنسان.
إلى جانب ذلك يستخدم أيضاً مفهوم التنمية التي تعني إطلاق مجموعة من القوى المحددة في فترة من الزمن بغية أن تؤدي إلى تغيير في الواقع بالاستناد إلى قوانين النمو ذاتها، فتحقق الزيادة في الدخل بقدر يفوق الزيادة البسيطة التي تحدث في دورة تجارية طبيعية واحدة، الأمر الذي يجد آثاره في زيادة نصيب الفرد من الدخل الحقيقي، وخاصة إذا كان معدَّل التنمية أعلى من معدَّل الزيادة السكانية. كما أنّ الدخل القومي الحقيقي يزداد بموجب النمو الاقتصادي فترة من الزمن.
والتنمية بهذا المعنى تختلف عن النمو الاقتصادي الذي يهدف إلى زيادة الإنتاج ورفع معدَّلاته المعبر عنها بالناتج المحلي الإجمالي، والجانب الاقتصادي هو عنصر مهم من عناصر التنمية ولكنه لا يمثِّل العنصر الوحيد… إنّ التنمية كما هي في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي نسيج مؤلف من مكونات عديدة تتفاعل مع بعضها في إطار مفاهيم الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع والبيئة وغيرها، إنها جملة من المعايير مكتملة الجوانب، وتشمل توقعات الحياة والإنجازات التعليمية والثقافية والقدرات الشرائية الحقيقية للناس، وهي مؤشر مفتوح قابل لاستيعاب مكوّنات جديدة.
ومن الملاحظ أن الفروق بين مفهومي النمو والتنمية لم تكن بهذا الوضوح في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى عقد الستينيات، حيث إذ كان يستخدم مصطلح النمو بمعنى مرادف لمصطلح التنمية، ومنذ ذلك الحين صار الباحثون يفرقون بين الاثنين، فقصروا مفهوم النمو على الميدان الاقتصادي وما يطرأ عليه من زيادة في الناتج القومي ومتوسط الدخل الفردي، وضمّنوا مفهوم التنمية التغيرات التي تطرأ على القوى الاجتماعية والسياسية، وعلى مجالات الحياة الأخرى، إضافة إلى التحولات الاقتصادية؛ فأصبح مفهوم التنمية أوسع من مفهوم النمو وشاملاً له، بل إن مفهوم التنمية غدا في نمو مطرد يستوعب مكونات جديدة مع الأيام، ومن أبرز هذه المكونات الجديدة مفهوم التنمية البشرية الذي ظهر في عقد الثمانينات المنصرم نتيجة للمراجعة النقدية التي أجريت لدراسة إخفاقات التنمية في البلدان النامية، حتى أصبحت التنمية تعني عملية توسيع خيارات الناس، والمقصود بالخيارات هو الفرص المبتغاة في ميادين أساسية للحياة الإنسانية.
بهاء الدين تركية
الموضوعات ذات الصلة: |
التنمية الاقتصادية والاجتماعية ـ الحياة (أصل ـ) ـ الحياة (علم ـ) ـ سبنسر (هربرت ـ) ـ مالتوس والمالتوسية.
مراجع للاستزادة: |
ـ محمد سعيد الحفار، الطبيعة والنفس البشرية (هيئة الموسوعة العربية، دمشق، 2002).
ـ عبد الرحيم بوادقجي وعصام خوري، علم السكان: نظريات ومفاهيم (دار الرضا، دمشق، 2002).
ـ روي كالن، عالم يفيض بسكانه: عرض لأسباب المشكلة وحل جذري لها، ترجمة ليلى الجبالي (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1996).
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد الواحد والعشرون - رقم الصفحة ضمن المجلد : 66 مشاركة :