مكان وزمان
Space and time - Espace et temps

المكان والزمان

 

المكان space من وجهة نظر الرجل العادي هو الحاوي على الأشياء، والزمان time هو المدة التي يستغرقها وقوع الأحداث، أما من حيث هما مفهومان نظريان؛ فالمكان يعرَّف بأنه نظام توزع الأشياء وتساوقها في الوجود، ومن صفاته أنه ثلاثي الأبعاد، أما الزمان فيعبر عن تتابع الأشياء وتتاليها أو تعاقبها في الوجود حيث تحل الواحدة محل الأخرى، والزمان ذو بعد واحد لايرتد، فاتجاه سير الأحداث يتطور باتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وهناك من ذهب إلى الربط بين الزمان والمكان فوجد مايعرف بالمتصل الزماني-المكاني، والزمان هو البعد الرابع للموجودات أو المادة الأولى التي تتشكل منها على حد تعبير صموئيل الكسندر Samuel Alexander.

وقد اختلفت الآراء في النظر إلى الزمان والمكان بين الفلاسفة، كل بحسب مذهبه وتأملاته، فتعددت تبعاً لذلك المفاهيم بشأنهما، وتباينت، ففي الفكر الفلسفي القديم وحّد أصحاب النظرية الذرية (ديمقريطس[ر] Democritus وأبيقور[ر] Epicurus) بين المكان والخلاء الذي عدّ مطلقاً،في حين عدّ زينون الايلي [ر] Zeno أن الزمان ينقسم إلى مالانهاية من الآنات، والمكان ينقسم إلى مالانهاية من النقاط، وهذه الفكرة عن الانقسام اللامتناهي للزمان والمكان قادته إلى القول باستحالة الكثرة والحركة بخلاف ماذهب إليه الذريون. أما أفلاطون[ر] Plato فينظر للمكان على أنه محل للتغير والحركة في العالم، ويحتوي على الموجودات المتغيرة والمتكثرة فهو مكان غير حقيقي، وكذلك الزمان فهو زمان عالمنا الحسي الذي يعده ظلالاً لزمان حقيقي وأبدي ينسبه لعالم المثل.أما أرسطو[ر] Aristotle فالمكان عنده السطح الباطن الملامس للجسم، وهو إما: مكان خاص يشغله جسم محدد أو مشترك يوجد فيه جسمان أو أكثر، والزمان هو مقدار الحركة أوعددها متفاوت زيادة أما نقصاناً، فهو إذن كم متصل يرتبط بالحركة السابق منها واللاحق. وقد انطلق فلاسفة العرب في آرائهم عن الزمان والمكان من أرسطو، فالمكان عند ابن سينا «السطح الباطن من الجرم الذي يحوي المماس للسطح الظاهر للجسم المحوي»؛ وعند المتكلّمين: «الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده» وكذلك الزمان لديهم أمر موهوم، وعند الأشاعرة: «متجدد معلوم، يقدر به متجدد آخر موهوم»، ويتحدث الرازي عن معنيين للزمان؛ أحدهما: أنه أمر موجود في الخارج متصل وغير منقسم وهو مساو للحركة، والآخر متوهم لايوجد في الخارج. لكن الزمان والمكان بقيا في الفلسفة العربية الإسلامية أسيرين للصورة الدينية للإسلام التي أعطت للمفهوم معنى أكثر اتساعاً مما كان عند أرسطو، فارتبط المفهوم بزمان خالد ومكان آخر غير الذي نحياه؛ وهو دار البقاء أو عالم الآخرة، وألحقت به جملة من المشكلات، منها مشكلة الوجود الفردي ومصيره، وحلت صراعات هذا الوجود بين التناهي الزماني والمكاني وبين اللاتناهي والخلود.

ومن معاني المكان في الفكر الفلسفي الحديث أنه وسط لانهائي متجانس يحتوي على الأجسام الموجودة فيه، وهو ليس سوى الامتداد المتناهي المجرد الذي يدركه الذهن، على حد تعبير ديكارت[ر]، فهو عنده مدرك بالعقل أوفكرة من أفكاره، والزمان زمان طبيعي منقسم إلى آنات نقيس به الحركة، وهو أيضاً الزمان النفسي أو الزمان الحدسي، وإذا كان المكان عند ديكارت Descartes يتسم بأنه موجود بنفسه فإن ليبنتز Leibniz وكَانْت Kant يخالفانه الرأي إذ قال ليبنتز أن المكان تصور مثالي، وهو مجرد نظام ترتيب «المونادات» monads وتساوقها في الحدوث، وعند كانت لا يوجد المكان خارج تمثلاتنا فهو صورة قَبْلية a priori سابقة على التجربة تنظم الأشياء الحسية كما الزمان، فلكل حدث موضع في الزمان، والمقادير المحدودة في الزمان ماهي إلا أجزاء لزمان لانهائي واحد.ومع هيغل[ر] Hegel نُظر للزمان والمكان نظرة ديناميكية جدلية ومقولتين للروح المطلق، فالمكان شكل إيجابي لوجود الطبيعة يفترض نقيضه السلبي (الزمان)، ومن جماع المكان والزمان نصل إلى الفكرة المركبة وهي عند هيغل الحركة، فكأن الحركة هي اجتماع الزمان والمكان وفكرتهما المركبة.

لكن فريقاً من الفلاسفة وبعض المثاليين على وجه الخصوص جعل من الزمان والمكان أمرين غير حقيقيين، فبرادلي Bradley يقرر أنهما مجرد مظهرين غير حقيقيين، ينطويان في داخلهما على التناقض الذاتي، فليس بوسعنا مثلاً التأكد من معنى المكان أو مايعنيه الزمان، هل هو متصل أم منفصل؟سابق أو لاحق؟ مرتبط بالمكان أم منفصل عنه؟ وكل ذلك يُظهر بوضوح شديد أن كلاً منهما مجرد «مظهر متناقض» داخل الحقيقة المطلقة على حد قوله.

وبخلاف هذا المعنى الميتافيزيقي الذي قدمه الفلاسفة للزمان والمكان، فإن العلم يتناول مفاهيم الزمان والمكان بأبعادهما الفيزيقية وسماتهما الواقعية بوصفها يعبران عن ظواهر العالم الخارجي ووقائعه، فهما يقدمان تصورات عن العالم ترتبط بخبراتنا الموضوعية أكثر من مجرد تصورات لإدراكاتنا، كما يفعل الفلاسفة، لذلك تطورت مفاهيم الزمان والمكان بطابعهما العلمي تطوراً كبيراً من العصور القديمة وحتى نيوتن[ر] Newton وآينشتاين[ر] Einstein وبدايات القرن العشرين، فكان هناك التطور الرياضي الذي ينظر إلى موجوداته بما فيها الزمان والمكان على أنها كيانات تصورية خالصة من صنع العقل البشري لاتأخذ بالحسبان مطابقة الزمان والمكان للواقع أم لا، فالزمان يصبح مجرد مقولة نظرية مطلقة تمثل المتصل المتجانس ذا البعد الواحد، كما أن المكان متناظر الاتجاهات ذو أبعاد ثلاثة، تطور فيما بعد إلى القول ببعد رابع، أما المفهوم الفيزيائي فينظر للزمان والمكان بعدهما مقولتين تجريبيتين، تُستمدان من الواقع، وترتبطان بمحسوساتنا، أمّا الفهم الفيزيولوجي لهما فيرتبط بإحساساتنا؛ لذا كان هذا الفهم أقرب إلى الفلسفة والقائلين بمثالية الزمان والمكان. وهناك أيضاً المفهوم الجيولوجي أو التكويني للزمان والمكان، والمفهوم السوسيولوجي وغيره.

وبقي العلم لفترة طويلة يدور في فلك تصورات نيوتن عن الزمان والمكان على أنهما وعاءان فارغان ومنفصلان كل منهما عن الآخر، ويوجدان باستقلال تام عن المادة والحركة، وبقي العلماء يعدون المكان مطلقاً ثابتاً إلى حين ظهور نظريات الفيزياء الحديثة التي قالت بالمكان المتعدد الأبعاد، تمييزاً له من المكان المعتاد(في الهندسة الإقليدية) ذي الأبعاد الثلاثة، وهو مكان تعرف أبعاده بالبعد(س)، قاد فيما بعد إلى ظهور مفهوم المكان ذي الأبعاد الأربعة أو ما يعرف بالمتصل(الزماني ـ المكاني) في نظرية النسبية [ر] التي اكتشفها آينشتاين، والتي أكد فيها أن الزمان ليس مطلقا ُوأن قياسه يتأثر بالحركة في المكان، كما أن المكان وقياس المسافة يتأثر بالزمان الخاص لكل مشاهد، وهذا يدل بوضوح على نسبية الزمان والمكان، وأن المكان يتغير تبعا ُلما يوجد فيه، ومن ثم كتل الأجسام تتغير مع السرعة(الزمن)، وأن خواص الزمان ـ المكان الهندسية ذات الأبعاد الأربعة تتغير وفق تراكم كتل المادة ومجال الجاذبية الناجم عنها.كما أن التشديد على الاتصال المكاني ـ الزماني يؤكد أن الكون متحرك وأن الصيرورة والحركة أهم مايميزه، وتؤدي سرعة الضوء دوراً فريداً في هذا المكان ـ الزماني الذي غيّر المفاهيم عن الكون، فغدا الكون منحنياً، لأن المكان ـ الزماني منحنٍ.

أما مايعرف بالفيزياء الكمية [ر. ميكانيك الكم] أو مستوى الكون الأصغر، فإن عوالمه خارج كل تحديد زماني ومكاني بالمقاييس العادية ولايخضع لمكان فيزيائي أو زمان طبيعي، وإن امتداد جزيئاته يتوقف على السرعة التي تتحرك بها تلك الجزيئات. وقد أسهمت أفكار لوباتشفسكي Lobachevsky وريمان Riemann وبولاي Bolyai الهندسية كثيراً في النظرية المعاصرة عن الزمان والمكان، مثل فكرتهم عن مكان واحد عام توجد فيه هندسات مختلفة، فمثلاً هندسة ريمان قامت على أساس المكان المحدب، وهندسة لوباتشفسكي أقامها على أساس المكان المقعر، أدتا إلى تغيير جذري في هندسة إقليدس التي قامت على مصادرة أساسية، وهي أنه لايمكن أن نرسم من نقطة واحدة سوى خط مستقيم واحد مواز لخط معين وأصبح معناها عند لوباتشفسكي أنه يمكن رسم أكثر من خط، وعند ريمان لايمكن رسم أي خط مواز لخط معين، كما دحضت الهندسة اللاإقليدية تلك تعاليم كَانْت عن قَبْلية الزمان والمكان بالمعنى الترانسندنتالي Transcendental والتي استندت أساساً إلى مفهوم المكان بالمعنى الإقليدي.

أما النتيجة الأهم التي ترتبت على تلك النظريات العلمية، وبالأخص نظرية النسبية؛ فهي تأكيد أن الزمان والمكان لايوجدان بذاتهما أو منفصلين ومنعزلين عن الأشياء المادية، بل هما جزء من العلاقة التبادلية والكلية التي يبرز فيها اتصالهما، ويفقدان استقلالهما، وقد عزز ذلك أصحاب النظرة الواقعية لبعض الفلاسفة الذين يؤكدون موضوعية الزمان والمكان وأنه لاوجود لأي حقيقة خارجهما ومن ثم فهما لا ينفصلان عن المادة والحركة، بل هما شكلان لوجودهما، فالحركة تشكل ماهية الزمان والمكان ومن ثم فهما متلازمان لاينفصلان، وأي قول بأن الزمان والمكان يوجدان باستقلال عن العمليات المادية هو ادعاء باطل بنظرهم. وتأكيد موضوعية الزمان والمكان يتعارض من حيث الجوهر مع النظرة المثالية التي تجعل منهما مجرد مفهومين عقليين لاوجود لهما خارج الذهن، وأنهما نتاج للوعي الفردي على ما ذهب إليه كل من إرنست ماخ[ر] Ernst Mach ووليم جيمس[ر] William James فميز ماخ بين مكان بصري ومكان لمسي وآخر شمي وسمعي … وهي كلها مرتبطة بحقل الإدراك الحسي ـ العقلي؛ وبين المكان الهندسي المجرد المتجانس والمتصل وغير المحدود، كما تحدّث وليم جيمس عن مكانية إحساساتنا حيث تتصف جميعها بالمقدارية والامتداد والتجسيمية، وهذه النظرة بمجملها ذاتية-داخلية متعلقة بإحساساتنا.

والزمان عند بعض المحدثين شكّل صلب تصوراتهم عن الكون والطبيعة والأشياء وكانت صفة الاتصال والاستمرارية التي تجعل من الحاضر ماضياً الصفة الأبرز لمفهوم الزمان عندهم، فهنري برغسون[ر] Henri Bergson يعدُّ الديمومة[ر] duration الزمان الحقيقي؛ لأنه الزمان الحي المشخص،يعيش معنا ونحيا فيه، وهو مختلف عن الزمان الرياضي أو الزمان العلمي، وهو تيار متدفق متصل لا انقسام فيه، تجري فيه الحوادث (زمان سقوط الأجسام أو زمان انصهار الجليد)، وهذا الزمان الحقيقي يتم الوصول إليه بالحدس؛ لأن الديمومة زمان كيفي ـ متصل خلاق يتصف بالجدّة المستمرة التي لايمكن ردها إلى ماهو أبسط منها، وبرغسون أطلق على الزمان الحي ـ الشعوري لفظ «الديمومة»، ليبعده عن أي احتكاك بالمكان؛ وليثبت عدم اعتماد الزمان على المكان والتوحيد بينهما الذي بدا واضحاً في النظرية النسبية.

والزمان عند الوجوديين هو زمان الوجود الشعوري المشخص، أو الانفعالي الوجداني كزمان الفراق أوزمان الانتظار، وهو زمان كيفي غير قابل للقياس بخلاف الزمان المرتبط بالأشياء أو ماعُرف بالزمان الفيزيقي، فهو زمان موضوعي كمي قابل للقياس، والوجوديون على اختلاف اتجاهاتهم يجمعون على أن الحالات النفسية وحياة الذات الفردية الشاعرة تقوم على آنات الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا كانت اللحظة الحاضرة تُشكل أساس اللحظة الدينية الأصلية عند كيركغارد[ر] Kierkegaard، فإن هايدغر[ر] Heidegger يجعل من الماضي والمستقبل أساساً للحظة الحاضر، فالحاضر نزوع نحو المستقبل يشارك فيه الماضي، في حين أن سارتر[ر] Sartre فصل بين الماضي والحاضر، فالذات عنده وجود حاضر يستشرف المستقبل، وعلى العموم فالزمان مقولة وجودية، وعندهم الوجود زماني، والزمان وجودي.

 

 

سوسان الياس

الموضوعات ذات الصلة:

أرسطو ـ برغسون ـ الديمومة ـ كَانْت ـ نيوتن.

مراجع للاستزادة:

ـ علي عبد المعطي محمد،مقدمات في الفلسفة (دار النهضة العربية، بيروت1985)

ـ محمد وقيدي،ماهي الابستمولوجيا (دار الحداثة، بيروت1983).


- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 321 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة