معيار
Norm - Norme

المعيار

 

المِعيار normجمعها معايير، أو العِيار وجمعها عيارات هو في اللغة العربية ما تُقارن به الأشياء وتُقايس به لتسوّى عليه أو لتُمتحن به. وأكثر استعماله في الوزن والكيل، كما يذكر معجم العين. بيد أنه يُستعمل مجازاً في كلّ ما يجري القياس عليه. وتحمل الكلمة الانكليزية norm، ذات الأصل اللاتيني، المعنى ذاته. ومن المفيد أيضا الإشارة إلى إضافة اللاحقة متر أو غرام في اللغة الانكليزية إلى المفهومات التي تُطبّق عليها إجراءات القياس أو المعايرة، مثل كيلوغرام kilogramm، والكيلومتر kilometers والجيوميتري geometry والتيرمومتر thermometer، وهذا يؤكد أصل التقييس والتعيير.

يُعرّف المعيار بالمعنى العام والمتداول المستفاد من الأصول اللغوية في العربية والانكليزية بالآتي: هو المقياس المرجعي، (الوزن، النموذج، القاعدة، المبدأ) الذي تُقارن به الأشياء المادية والمعنوية والأفكار والأفعال لتُختبر به، وتسوّى عليه، ويُتخذ حيالها موقف قرار للقيام إزاءها بفعل. وقد يكون المعيار حالاً واقعية شائعة أو وسطيّة، شأن المعايير المستعملة في مجالات الطب الجسدي أو النفسي أو على صعيد المقاييس التربوية. وقد يكون نمطاً مثالياً لا وجود له في الواقع، لكن أشياء الواقع تُقاس به، كما هي حال المعايير المنطقية والرياضية. ويمكن أن يكون المعيار قاعدةً شارطةً مقيّدةً للفعل، من حيث الحض عليه، أو زجره، كشأن القواعد والنصائح الأخلاقية والأوامر الدينية والمعايير الاجتماعية التي تتجلّى في هيئة قوانين وتعليمات إدارية وأعراف وعادات وطقوس. وربما كان المعيار مبدأً عاماً تُستمدّ منه جميع القواعد في مجال معين، كمعيار الحقيقة ومعيار الأخلاق. ويستدلّ مما تقدّم ذكره أن المحاكمة المعيارية تتضمن جملة عمليات أهمّها: المقارنة والموازنة والتمييز والتفريق والتثمين والتقييم والتصنيف والضبط والتسوية، وهذا ما يجعلها لازمة لسائر العلوم المعيارية منها (كالمنطق وعلم الأخلاق وعلم الجمال) أو غير المعيارية (كالعلوم الاجتماعية والطبيعية)، علاوة على استعمالها الواسع في ميادين الحياة العمليّة المتعدّدة.

المعايير في علم الاجتماع

تولي النظريات الاجتماعية اهتماماً كبيراً للمعايير الاجتماعية، وتعدّها واحدة من المكوّنات الأساسية للحياة الاجتماعية. ولقد أشار ابن خلدون ـ المفكر العربي الإسلامي والرائد المؤسس لعلم الاجتماع - في مقدّمته إلى وظيفة المعايير التي تتجلى في الضبط الاجتماعي؛ حيث إنها تحفظ النظام، وتخدم مصالح الناس، وتدفع عدوان بعضهم على بعض. وصنّف هذه المعايير (التي لم يدعوها بهذه التسمية) بالآتي: القوانين، وتعاليم الدين والشريعة، وقواعد الأخلاق النابعة من الضمير. ويُصنّف فردناند تونيس F.Toennis عالم الاجتماع الألماني المعايير الاجتماعية في ثلاثة أنواع هي: معايير النظام العام والمعايير القانونية والمعايير الأخلاقية، مميّزاً بين المعايير المكتوبة وغير المكتوبة، ومبرزاً دورها في تكوين الإرادة الجماعية (إرادة المجتمع المحلّي) والإرادة الاجتماعية (إرادة المجتمع الكلّي). أمّا عالم الاجتماع الفرنسي إميل دركايم E.Durkheim فقد وصف بدقة حال اللامعيارية anomie، التي يتضاءل فيها التزام الناس بالمعايير إلى حدّ يتعطّل معه عملها؛ فتفضي بالمجتمع إلى الفوضى، والصراع التناحري، وارتفاع معدلات الجريمة والانحراف والانتحار، وقد تؤدّي إلى التفسّخ والانحلال. يشير هذا إلى أن وظيفة المعايير عند دركايم تكمن في تحقيق التضامن الاجتماعي في المجتمع والحفاظ على تماسك أفراده وتقويم الانحراف. والمعايير عند تالكوت بارسونز T.Parsons، عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر، هي عناصر بنائية مكوِّّنة للمجتمع ولأي جماعة إنسانية أخرى؛ إذ تؤلف المعايير مع القيم النظام المعياري normative order، الذي يحقّق عبر المعايير اندماج أفراد الجماعة وتكامل وظائفهم، والذي يحمي الجماعة ويصون وحدتها من خلال القيم. ومن وظائف المعايير أيضاً أنها تتيح للأفراد إمكانية توقّع نتائج سلوكهم وردّات فعل الآخرين نحوهم، علاوة على توقّع سلوك الآخرين في المواقف والأوضاع المتعددة والمتنوعة. ويمكن القول من وجهة نظر بارسونز: إن المعيار هو القيمة التي تحدّدها الجماعة وتجعلها نموذجاً عاماً مُلزِماً لأعضائها. وثمّ إضافة مهمّة لعالم الاجتماع الانكليزي المعاصر أنتوني غِدِنز A.Giddens الذي يؤكد أن وظيفة المعايير أو القواعد الاجتماعية لا تقتصر فقط على توصيف أفعال الناس بأشكالها الموجبة أو السالبة وتشريطها أو تقييدها وتنظيمها وتبيين حدودها، بل إنها تجعلها ممكنة. إن قواعد اللغة ليست فقط مجرد قيود وضوابط مفروضة على مستعمليها تسهم في تحقيق تماثلهم وتكاملهم وانسجامهم، بل إنها تجعل التواصل اللغوي بينهم ممكناً؛ وكذا يمكن القول أيضاً إن الوظيفة الأساس لقوانين الملكية هي أنها تجعل التملّك ممكناً، علاوة على وظائفها الأخرى في توحيد الناس ومنع التنازع بينهم.

يُولي علماء الاجتماع اهتماماً بعمليات امتثال الناس للمعايير، فلا أهمية أو تأثير لها إن لم يتمثلوها أو يأخذوها بحسبانهم. ويتحقق الامتثال للمعايير الاجتماعية عبر نوعين من الآليات: الأول هو عمليات استبطان الأفراد لها من خلال التنشئة الاجتماعية وشعورهم أنها نابعة من ذواتهم وتخدم مصالحهم، والثاني هو وضع المجتمع لنظام جزاءات (الثواب والعقاب) يكافئ الملتزمين بمعاييره ويحفّزهم على احترامها ويعاقب الخارجين عليها والمنحرفين عن تعليمها. ومن القضايا المهمة المثيرة لاهتمام المفكرين حالة اللامعيارية التي يشتد خطرها في المجتمعات التي تشهد تحوّلات اجتماعية وحالات تعدد المعايير واختلافها لدى الجماعات المكوّنة للمجتمع الواحد، أي ظهور معايير فرعية مضادة؛ فيؤدّي ذلك إلى تنازع داخلي قد يسفر عن تصدّع المجتمع والنيل من وحدته وحالة التباين الشديد بين أفراد المجتمع في مستوى الالتزام بالمعايير وحالات تغيّر المعايير وتطوّرها.

وقصارى القول: إن المعايير من وجهة نظر علماء الاجتماع هي قواعد للفعل، يضعها المجتمع (أو الجماعة) من وحي قيمه وثقافته ومصالحه، لتؤدي له ولأفراده وظائف ضرورية (ذُكرت آنفاً)، ويجعل الأفراد يمتثلون لها عبر وسائل الالتزام (الاستبطان من خلال التنشئة) والإلزام (نظام الجزاءات). ويصنّف علماء الاجتماع المعايير في نوعين: المعايير المكتوبة وهي القوانين والدساتير والأوامر الإدارية، والمعايير غير المكتوبة كالأعراف mores والعادات والطقوس الشعبية والرأي العام. ولها نوعان عامّان: المعايير الآمرة الحاضّة على إتيان الفعل، والمعايير الزاجرة التي تنهى عن القيام بالفعل.

 

هاني يونس محمد عمران

الموضوعات ذات الصلة:

الاجتماع (علم ـ) ـ بارسونز ـ ابن خلدون ـ دركهايم.

مراجع للاستزادة:

K.COLLEGE, Sociology (New Jersey 2005). -

TALCOTT PARRSONS, Societies (Printice - Hall Inc.New Jersey 1966).-


- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - المجلد : المجلد التاسع عشر - رقم الصفحة ضمن المجلد : 136 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة