الهيروغليفية
هيروغليفيه
Hieroglyph - Hiéroglyphe
الهيروغليفية
تعدّ الكتابة أعظم ظاهرة حضارية أبدعها الإنسان في نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد (نحو3200ق.م)، إذ انتقل الفكر بوساطتها بين البشر مهما بَعُدَ المكان وبَعُدَ الزمان، فازدهرت الثقافات الإنسانية التي أبدعت المظاهر الحضارية في البناء والطب والهندسة والأدب والإدارة. وغني عن القول إن البشرية مَدينة للمشرق العربي بإبداع الكتابة وتطورها ونقلها إلى قارات العالم القديم، ولولا هذا الإبداع لما استمتع البشر بروائع الشعر والنثر والترانيم الدينية، ولما توارثت الأجيال علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك التي أوصلت الإنسان إلى ما هو عليه اليوم من المعرفة المذهلة.
الهيروغليفية Hieroglyphics: يُستخدم هذا المصطلح للدلالة على كل نظام كتابي تصويري، مثل الهيروغليفية المصرية والحثية والمينوية الكريتية. وستقصر هذه الدراسة على الهيروغليفية المصرية أقدم هذه الكتابات وأعظمها.
الهيروغليفية المصرية: مصطلح يوناني مؤلف من مقطعين؛ هيرو ويعني مقدساً وغليفين ويعني خطّاً، وهكذا يصبح معنى هذا المصطلح الخط المقدس، وقد أطلق المؤرخون اليونان والرومان ـ الذين زاروا مصر بدءاً من القرن السادس قبل الميلاد ـ هذه التسمية على الكتابات المصرية التصويرية المنقوشة على جدران أقدس الأبنية في مصر (المعابد والمقابر). ومن الجدير بالذكر أن آخر مثال للخط الهيروغليفي وجد في جزيرة فيلة وراء الجندل الأول، وهو مؤرخ بنحو 394م.
الهيروغليفية كتابة تصويرية تُكْتَب عادة بشكل أفقي من اليمين إلى اليسار. ولكن المصري القديم كَتَب الهيروغليفية أحياناً من اليسار إلى اليمين حسب متطلبات المنظر المرسوم والمساحة المتوافرة، كما يمكن كتابة الهيروغليفية بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل، ويدل اتجاه الطيور والحيوانات على بداية الكتابة.
استخدم المصري القديم البردي والسطوح الملساء من الحجر والخشب المغطى بالجص وجدران المعابد وأعمدتها وجدران المقابر والمسلات والنصب الحجرية في إنجاز كتاباته الهيروغليفية التي تناولت النصوص الدينية والحربية والطبية وعلاقاته الخارجية.وقد أنجزها المصري بالحبر على السطوح الملساء، أو نحتها بشكل نافر أو غائر على الحجر الصلد.
بدأت الكتابـة الهيروغليفية تصويريـة ideograms، فالصورة تدل على ما تصور، فالدائرة مثلاً O تدل على الشمس. وفي مرحلة لاحقة أدرك الكـاتب المصري أنه يمكن أن يكون للصورة قيمة صوتية، وبذلك تكون رمـزاً لصوت ضمن كلمة مؤلفة من مقطعين أو أكثـر. وهكذا بدأت الكتابـة التصويرية المقطعية، فالصورة ـ والحالة هذه ـ أصبحت رمزاً لجزء صوتي من الكلمة ولا تدل على ذاتها. وهكذا جمع المصري صورتين رمزاً لصوتين يدلان على كلمة جديدة لا علاقة لها بالصورتين.
كان المصري القديم يحرص على أن تكون الدلالة واضحة جلية فيما ترمز إليه علامات كتابته، ولزيادة الوضوح أضاف المصري القديم في نهاية علامات كل كلمة ما يسمى (determinative). فهو يكتب مثلاً العلامات الدالة على صوت «ست = امرأة» لكنه يُضيف إليها صورة امرأة في نهاية الكتابة ليؤكد أن الكتابة تعني امرأة، كما وضع الكاتب المصري صورة ملف البردي ليشير إلى معاني الكلمات غير المادية مثل يعرف، ومثل يحب، يفرح، يغضب. ورمز المصري للأعداد حتى العدد 9 بخط عمودي صغير وللعدد عشرة إلى المليون برموز معروفة.
عرف المصري كتابة المثنى بأن كرر العلامة الهيروغليفية الدالة على شيء ما مرتين، مثل (Pr) بيت (Prwy) بيتان. وإذا أراد الجمع فإنه يكرر الصورة ثلاث مرات (Prw). أو يرسم الصورة (العلامة الهيروغليفية أو العلامات الهيروغليفية) ويضــع ثـلاثة خـطـوط عمودية تـحـتـها أو بـجانبها، وقد استخدم المصري القديم علامات تدل على صوت واحد وعلامات ثنائية الصوت مثل (nb) وعلامات ثلاثية الصوت مثل (nfr). وقد حرص المصري على التناغم والجمال في شكل كتابته وفي ترتيب العلامات بشكل متناغم عند كتابته أيّ كلمة؛ مما أضفى على كتاباته جمالاً وتناسقاً واضحين.
الخطوط المشتقة من الكتابة الهيروغليفية:
ـ الخط الهيراطيقي Hieratikos: وتعني هذه التسمية الخط الكهنوتي، وسمي كذلك لأن الكهنة المصريين استخدموه في كتابة نصوصهم الدينية على البردي والسطوح الملساء، وقد استخدم المصري في كتابته هذه الريشة والحبر، ولذلك جاءت علاماته ممطوطة ومتشابكة. والهيراطيقية قديمة قِدم الهيروغليفية، واستمرت في الاستخدام إلى نحو 700ق.م.
ـ الخط الديموطيقي Demotikos: وهذه التسمية مشتقة من الكلمة اليونانية «Demos» وتعني شعباً، ونسبتها شعبي، حيث كان يُستخدم في العصرين البطلمي والروماني في شؤون الحياة الشعبية اليومية كالبيع والشراء والعقود والزواج، ولم يستخدم هذا الخط في الأغراض الدينية. وقد استمر استخدام هذا الخط من عام 700ق.م. إلى نحو 394م. وأول من أطلق عليه هذه التسمية المؤرخ اليوناني هيرودوت (484ـ424ق.م). وقد استخدم في كتابته كل ما استخدم في كتابة الخط الهيروغليفي من أوراق وسطوح ملساء.
الكتّاب المصريون:
نسب المصريون إبداع الكتابة إلى الإله «تحوت» الذي كان عندهم إله الحكمة ورسول العلم ورب السحر و«سكرتير» الآلهة الذي أبدع الكتابة، أما الكتّاب البشر فكانوا من الكهنة، وقد لقوا التبجيل من المصريين فنحتوا لهم التماثيل في هيئة كاتب متربع وبين ركبتيه ملف من البردي يكتب عليه. وفضلاً عما سبق فقد جاء في إحدى البرديات ما يأتي: «أما الكتبة المتعلمون فإن أسماءهم أصبحت خالدة للأبد على الرغم من أنهم ذهبوا. إنهم لم يصنعوا لأنفسهم أهراماً من المعدن… إن كتب الحكمة هي أهرامهم».
فك رموز الهيروغليفية:
لم تُستخدم الهيروغليفية من عام 394 إلى 1824م. وقد بدأت مرحلة فك رموز هذه الكتابة بحملة نابليون على مصر عام 1798، ففي يوم من أيام شهر تموز/يوليو من عام 1799 عثر ضابط فرنسي يدعى بوشار Bouchard على حجر رشيد بالقرب من قرية رشيد الواقعة عند نهاية الفرع الغربي لنهر النيل، والحجر من صخر البازلت الأسود، أبعاده 100×75×25سم. كُتب على وجهه الأملس نص واحد بلغتين وثلاثة خطوط. وهي الآتية: الخط الهيروغليفي في أعلى الحجر ويتكون من 14 سطراً. الخط الديموطيقي ويتألف من 32 سطراً ويقع في وسط الحجر. أما الخط الثالث فهو الخط اليوناني وعدد سطوره 45 سطراً. والحجر نصب أقامه المجمع الكهنوتي احتفالاً بالذكرى الأولى لتتويج الملك بطلميوس الخامس (196ق.م)، يشكر الكهنة من خلال النص المكتوب الملك لإعفاء معابدهم من ضرائب فرضها أسلافه.
استقر حجر رشيد أخيراً في بريطانيا بعد هزيمة نابليون وتحطيم أسطوله في ميناء «أبو قير» قرب الإسكندرية على يد قائد الأسطول الإنكليزي. وأول من أسهم في حلّ طلاسم كتابة هذا الحجر:
ـ الدبلوماسي السويدي أكربلاد Akerblad، حيث اكتشف أن الخط الموجود في وسط الحجر هو نفسه الخط الديموطيقي الذي أشار إليه هيرودوت، وأن اللغة المستخدمة في النص الأخير هي اللغة التي عاشت في العصور المتأخرة من تاريخ مصر (العصر البطلمي)، وعُرفت باسم اللغة القبطية.
ـ توماس يانغ T.Young: اكتشف هذا العالم الإنكليزي أن الخط الديموطيقي مشتق من الخط الهيروغليفي، وافترض أن الخراطيش الموجودة ضمن النصوص المصرية القديمة مخصصة حصراً لكتابة أسماء الملوك المصرية، ولذلك عرف خرطوش بطلميوس.
ـ شامبليون ما بين (1790 Champollion ـ1832): عالم فرنسي، ينسب إليه العالم فك رموز الكتابة الهيروغليفية بعد أن أعدّ نفسه الإعداد العلمي المناسب بأن جعل جميع المصادر الكلاسيكية في متناول يده، وأتقن اللغة القبطية إتقاناً تاماً. وبعد سنة من البحث المتواصل توصل إلى أن الكتابة المصرية ليست رمزية، ولكن يمكن أن تصبح هجائية. وعن طريق مقارنة العلامات المستخدمة في كتابة أسماء الملوك المصرية داخل الخراطيش المعروفة توصل إلى معرفة قراءة كثير من أسماء الملوك المصريين وأسماء الملوك من العصرين اليوناني والروماني، وبذلك عرف شامبليون العلامات المصرية ومكافئها الصوتي بكل ثقة.
نشر شامبليون أبحاثه بدءاً من عام 1824 إلى عام 1832، وتُوفِّي في تلك السنة. وبفضل الجهود التي بذلها شامبليون ومن جاء بعده من العلماء تطور علم المصريات تطوراً عظيماً، بحيث يمكن القول: إن أسرار الكتابة واللغة المصرية القديمة قد عُرفت، ومكن ذلك من الاطلاع على كل المظاهر الحضارية المصرية القديمة.
وهكذا تبين أن الهيروغليفية كتابة تصويرية، تتألف من علامات تصويرية استوحاها المصري من بيئته لترمز لأصوات لغته المصرية. وقد اشْتُق من الهيروغليفية خطوط أبسط منها، ولكنها لم تصل إلى مرحلة التجريد والابتعاد عن أصلها التصويري لاعتقاد المصري بقدسيتها، ولذلك لم يمارس الهيروغليفية غير كتّاب كهنة مطهرون، كانوا مبجلين من الحكام وعامة الشعب بدليل أن الكاتب المصري القديم ذمَّ كل المهن المصرية، ووصف ما يلاقيه أصحابها من متاعب، ولكنه أشار إلى المنزلة الرفيعة والتبجيل الذي يتمتع بهما الكاتب.
محمود عبد الحميد أحمد
مراجع للاستزادة: |
ـ جاردنر، مصر الفراعنة، ترجمة نجيب ميخائيل إبراهيم (القاهرة 1973).
ـ محمود عبد الحميد أحمد، دراسات في تاريخ مصر الفرعونية (دمشق 1996).
ـ الموسوعة المصرية، تاريخ مصر وآثارها، م1، ج1.
- A.H. GARDINER, Egyptian Grammar (Oxford 1957).
- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - المجلد : المجلد الثاني والعشرون - رقم الصفحة ضمن المجلد : 41 مشاركة :