الديمومة
ديمومه
Duration - Durée
الديمومة
الديمومة duration هي الزمان، فإذا أطلقت على الزمان المحدد سُميت مدة، وإذ أطلقت على الزمان الطويل سُميت دهراً. وتطلق الديمومة أيضاً على جزء من الزمان المطلق، وتكون حينئذ زمان فعل أو زماناً فصلاً بين فعلين، ويكون الزمان المطلق محيطاً بها إحاطة الكل بالجزء.
وقد شكلّت فكرة الديمومة محوراً أساسياً في فلسفة برغسون Bergson الحدسية، فكان لها معنىً خاصاً، هو الزمان النفسي أو الداخلي، أي الزمان الواقعي. وهذه الديمومة تدخل في مقولة الكيف لا في مقولة الكم، فلحظاتها متجددة من دون انقطاع، تدخل بعضها مع بعض لتشكل كتلة واحدة.
ولعل أهم أفكار برغسون في هذا الصدد تمييزه بين الزمن الذي تتحدث عنه النظريات العلمية، والزمن الذي يخبره الإنسان مباشرة، فالزمن العلمي مفهوم رياضي ترمز إليه النظرية الفيزيقية بالرمز «ز» وتقيسه الساعات والكرونومترات، ولأنها آلات مكانية، فإنها تصور الزمن العلمي في صورة الوسط الممتد المتجانس الذي يتكون من وحدات متماثلة (سنوات أو ساعات أو ثوان)، وهي وحدات تتحكم في الحياة العملية للإنسان في المجتمع، لكن الزمن بهذا المفهوم لا يتدفق وغير فعال، ووجوده سلبي، وهو زمان متجانس كالمكان، وخاص بالعقل، لأنه يهتم بالجامد.
أما الزمان الواقعي فهو خاص بالشعور العميق، ويعبر عن حالات متعاقبة سيّالة لا تنكص للوراء، وتذوب بعضها مع بعض لتكون صيرورة لا تتجزأ، غير متجانسة لكنها متغايرة، وغير مجردة لكنها عينية، زمناً خالصاً أو ديمومة حقيقية يخبرها الإنسان مباشرة كشيء فعّال ومستمر.
وهذه الديمومة هي جزءُ من الإنسان لا ينقطع، إنها تجربة نفسية، وحركة مستمرة وصيرورة تعد جوهر الحياة، إنها تلك الدفعة الحيوية التي تستقر بوساطتها الموجودات في الوجود. وعلى هذا تكون الديمومة البرغسونية ديمومة حية ومعاشة، يعيشها الإنسان من الداخل، وليست قابلة للملاحظة أو التحليل من الخارج، فهي تجربة مباشرة بل هي الواقع نفسه.
وقد فسر برغسون من خلال فكرة الديمومة الحالات النفسية التي يمر بها الإنسان، فتبنى فكرة سبنسر Spencer التي تقوم على الإيمان الراسخ بالطابع اللامتجانس للحياة النفسية، فالكيفيات اللامتجانسة التي تكوّن الحياة الروحية تختلف تماماً عن الأفكار العامة، كما تختلف عن كل ما هو متجانس، وقد رفض برغسون الرؤية التي ترد الشعور إلى مجرد تطابق مكاني لحالات نفسية متجانسة، وأكد الحقيقة الديناميكية للحياة الداخلية، والتي سماها الاتصال اللامتجانس، أي الاتصال الذي يقوم على بقاء الأحوال الماضية داخل الأحوال الحاضرة، وهذا ما يدل على وجود شيء ما داخل الإنسان لا يرد إلى المادة.
وللكشف عن الزمان الحقيقي، أي عن الديمومة التي يحياها الإنسان ويحسها، لابد من الانعزال عن العالم الخارجي والاتجاه إلى الداخل لمشاهدة الحالة الباطنية في تعاقبها واستمرارها، وعندئذ يشعر الإنسان بتدفق الزمان الحقيقي، حيث يجتمع الزمان الماضي والحاضر في دفعة واحدة، ويندفع متجدداً باتجاه المستقبل.
ويستحيل الفصل بين الحالات الباطنية المتعاقبة، ويستحيل التحدث عن حالة نفسية تظل دائماً على ما هي عليه دون أن تتغير، فالديمومة لا تعني الانتقال من حالة نفسية إلى حالة أخرى، وكأن هناك ذاتاً ثابتة تتتابع فوقها الحالات النفسية المتغيرة، وإنما هي تعني التغير في كل لحظة من اللحظات دون أن تنقطع الصلة بين الماضي والحاضر، فليست الديمومة آناً يحل محل آن، أو حالة تحل محل أخرى، وإنما هي بقاء الماضي حياً في الحاضر، فمن المستحيل على الشعور أن يمر بنفس الحالة مرتين، ففي كل لحظة هي شيء جديد ينضاف إلى ما قبله، وبهذه الإضافة تنمو شخصية الإنسان وتنضج من دون انقطاع، إن نمو الشخصية التي هي ديمومته، ليس إلا الخلق الدائم للجديد، إنه الفعل الخلاق الذي لا يخضع لأية قانونية، فعل يولد باستمرار حالات جديدة، لم تكن متوقعة أبداً، فلكي تعيش حالة نفسية جديدة فذلك يعني أن تمحي ذكريات الحالات السابقة، وفي هذه الحالة تتغير الشخصية حتى ولو لم تتغير الظروف الخارجية، فهناك تاريخ جديد بالنسبة لها، أي تاريخ غير متوقع وليس محدداً، فتفكير الإنسان يهتم عادةً بما هو قادم من غير أن يهمل الماضي والحاضر، أي إنه يشمل كل لحظات الماضي والحاضر والمستقبل، فكل لحظة تعتبر جديدة بالنسبة له والجديد غير متوقع، فلا يستطيع العقل أن يتنبأ بالمستقبل، لأن التنبؤ معناه إسقاط ما في المستقبل لما أدرك في الماضي، أو تصور تركيب جديد لعناصر قد أدركت سابقاً، ولكن ما لم يدرك بعد وما هو بسيط في الوقت نفسه، فإنه بالضرورة يبقى عصياً على التنبؤ، فكل لحظة من الحياة جديدة لأن الحركة مصدر أساسي لها لا تدرك سابقاً، وأي موقف جديد لا يتكرر، فهو يعد فريداً من نوعه في التاريخ، لأن الزمان المعاش هو خلق وليس تقديم الفرضيات فيما يخص المستقبل ولهذا يخلق المرء نفسه كل لحظة، وهذا الخلق يؤثر في شخصيته من جديد، فديمومته إذن لا تقبل الإعادة أو التكرار، إنها ابتكار مستمر متجدد وإبداع دائم لا يمكن التنبؤ به.
وتتضح الديمومة تحت الزمن المتجانس، لأن فيها تداخلاً نفسياً وجدة مستمرة لا تحتمل في سيلانها وتدفقها رجعة إلى الماضي وعودة ظروف بعينها.، وبهذه الديمومة المتجانسة، التي هي رمز امتدادي للديمومة الحقة، يمكن لعلم النفس أن يكتشف ديمومة تتداخل لحظاتها غير المتجانسة، كما يمكنه أن يستشف تحت الكثرة العددية للحالات الشعورية كثرة كيفية، وأن يرى تحت «الأنا» التي تتميز بالحالات المحددة «آناً» أُخَر، يقوم تعاقبها على الامتزاج والتنظيم، صحيح أنه في معظم الأحيان لا يلتفت المرء إلا إلى هذا الزمن المتجانس بيد أنه يستطيع أن ينفذ إلى الباطن وأن يتعمق في أحواله الداخلية، وعندئذ يشاهد ديمومته ويشعر بالتغير المتصل المستمر.
عبير الأطرش
الموضوعات ذات الصلة: |
برغسون ـ الحدس ـ الزمان.
مراجع للاستزادة: |
ـ هنري برغسون، التطور الخالق (دار الفكر العربي: مصر، بلا تاريخ).
ـ كمال يوسف الحاج، هنري برغسون (دار مكتبة الحياة: بيروت، 1955).
ـ حبيب الشاروني، بين برغسون وسارتر (دار المعارف: القاهرة، 1963).
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد التاسع - رقم الصفحة ضمن المجلد : 561 مشاركة :