logo

logo

logo

logo

logo

التجارة في العصر الإسلامي

تجاره في عصر اسلامي

-

التجارة

نجدة خماش

 

 التجارة في العصور الإسلامية

كان لقيام دولة عربية إسلامية موحّدة تضم الجزيرة العربية وإيران (وما يتبعها من خراسان) والعراق وسورية ومصر وشمالي إفريقيا والأندلس؛ تأثيرٌ كبيرٌ أدّى إلى تغييرات هائلة في أوضاع المنطقة العربية وما حولها، وفي كل نواحي الحياة، فقد وحّدت الفتوحات منطقة العراق والخليج مع سورية ومصر، وأزالت هذا الانقسام الذي أوجده خلفا الإسكندر؛ والذي تكرَّس بعدهم في أيام الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، ولما كانت الحروب كثيراً ما تقوم بين دولة الفرس سيدة إيران والعراق ودولة بيزنطة سيدة الشام ومصر وجز من الشمال الإفريقي، فإنّ هذه الحروب كانت تمنع مرور التجارة وقت الحرب بين الدول المتعادية أو يتعرقل مرورها لفقدان الأمن، أو أن رسوم المرور بين حدود السلطات والأتاوى التي تفرضها القبائل الكثيرة على الطريق لضمان أمن وسلامة التجارة قد يمنع المبادلات أو يحد منها أو أنه في أحسن الأحوال يزيد في سعر تكلفتها.

بسط العرب السلام الإسلامي على هذه البقعة من العالم زمن الأمويِّين، واستطاع العباسيون أن يجعلوا عاصمتهم بغداد تسطع على امبراطورية تمتد من الهند إلى حدود المغرب الأقصى، وعاصمة حضارية بهذا القدر لا بُدَّ أن تصبح المحرّك للحياة الاقتصادية والثقافية في العالم كله، فالفتح الإسلامي ساعد الدولة على أن تسيطر على شرايين اتصال العالم القديم، وأدَّت إلى تطور ودفع إنساني حضاري شامل في كل الميادين الحياتية مما وصفه المؤرخون «بانطلاق حضاري خارق»؛ فقد ترك الإسلام بصماته على هذه المساحات الشاسعة التي دخلها أو مرّ بها سوا بصماته الدينية بالانتشار الإسلامي أم التجارية، كما تشهد على ذلك لُقيَّات النقود التي يعود معظمها إلى العصر العباسي ما بين (١٤٨-٢٠٠هـ/٧٦٥-٨١٦م)، والتي وجدت في المجرى الأعلى والأسفل لنهر الفولغا وفي السويد وبريطانية، ووحّدت التجارة الأسواق التي نشأت في شكل مدن جديدة كالقيروان وتونس وفاس، أو مدن غيّرت هويتها فأصبحت إسلامية كإشبيليا وقرطبة وبالرم Palermo، هذه المراكز الكبيرة للغرب الإسلامي ستصبح على علاقة وثيقة مع مدن الشرق القديمة كالإسكندرية ودمشق وأنطاكية أو مع المدن الإسلامية الجديدة كالفسطاط وبغداد مروراً ببلخ والري وبخارى وسمرقند، وقد ساعد على هذه العلاقة الوثيقة تعهد العباسيين لنظام البريد[ر] الذي استعمله الأمويون لربط أقاليم دولتهم الكبيرة بالعاصمة دمشق، وقد قدم هذا البريد للدولة العباسية شبكة من المواصلات عنيت كتب الخراج فيما بعد على تعيينها وشرحها، وكان أول من تناول المعلومات القيمة التي سجلها عن الطرق التجارية التي ربطت آسيا وأوربا في عصره ابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك» إذ يصف الطرق التجارية، كما يحدد المسافات التي تفصل بين البلاد والمواقع التي يتحدّث عنها.

وأعطت الطرق البرية المنطلقة من بغداد والمتشعبة كنجمة مكانة مهمة لمنطقة العباسيين في بغداد ووسعت مجالهم الاقتصادي، وأقيمت مدن تجارية في كل من بلخ ومرو وبخارى وسمرقند وكاشغر، وعُدّت خراسان في الشمال الشرقي من إيران مدخلاً نحو السهوب الطورانية وآسيا الوسطى والصين، وعُدّت الرَيّ عاصمة منطقة الجبال مستودعاً كبيراً في التجارة العباسية نحو الشرق؛ فهي نقطة انطلاق ووصول القوافل إلى خراسان، ونحو بغداد، وكان لها دورٌ مميزٌ في تجارة القوافل من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي حتى الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي فإليها كان التجار الروس أي الصقالبة والإسكندناف يجلبون السيوف والفرو والرقيق، كما شكلت المدن في خراسان وما حولها واحات محاطة بزراعات غنية كالأرز والقطن والحبوب، وأهمها بلخ ومرو وهرات ونيسابور، وتعد هذه المدن في العصر العباسي إلى جانب المدن السامانية- كبخارى وسمرقند- المدن الفاصلة التي تقع على طول طريق الحرير الكبير الذي يمتد من الصين إلى البحر الأسود.

ولم يكن طريق الحرير طريقاً واحداً وإنما شبكة من الطرق الفرعية التي تصب في طرق أكبر أو بالأحرى في طريقين كبيرين، أحدهما شمالي (صيفي) والآخر شتوي يسلكونه في زمن الشتا ، والذي يجمع بين هذه السبل والمسارات جميعها هو أنها مسالك للقوافل المتجهة من الشرق إلى جهة الغرب لتمر في طريقها بمدن ما لبثت أن ازدهرت مع ازدهار هذا الطريق التجاري الذي لم يكن مجرد طريق تجاري؛ لكنه كان شرياناً للاتصال بين الحضارات، وهذه المدن كانت مزدهرة بالربط والخانات. ويذكر أنّ مدن ما ورا النهر كان بها ما يزيد على عشرة آلاف رباط وفي كثير منها كان إذا نزل التاجر قُدِّم له طعامه وعلف دابته. ولم تكن مدن ما ورا النهر وحدها تعج بهذا الكم من الخانات والربط، بل انسحب هذا على كل المدن على طريق القوافل في العالم الإسلامي من العاصمة حتى الثغور.

وقد انتظمت مسارات طريق الحرير منذ القرن الخامس ق.م وظلت منتظمة لألف وخمسمئة سنة، ولم يشهد هذا الطريق أمانه وازدهاره إلا تحت إمرة المسلمين، وكان طريق الحرير خلالها معبراً ثقافياً واجتماعياً ذا أثر عميق في المناطق التي يمر بها، فانتقلت عبره الديانات فعرف العالم البوذية، وعرفت آسيا الإسلام، وانتقل عبره البارود، فعرفت الأمم الحروب المدمرة، والورق فحدثت طفرة كبرى في تراث الإنسانية مع النشاط التدويني الواسع الذي سهل الورق أمره، وانتقلت عبره أنماط من «النظم الاجتماعية» التي كانت ستظل لولاه مدفونة في حواضر وسط آسيا.

من اليابسة إلى البحر انتقل الاقتصاد العالمي نقلة كبيرة مع اكتشاف التجار أن المسارات البحرية أكثر أمناً من الطرق البرية، وقد تزامن ذلك مع اشتعال الحروب المغولية الإسلامية في القرن السابع الهجري، وشيئاً فشيئاً اندثرت معالم طريق الحرير البري، وصارت البضائع والثقافات الإنسانية تنتقل في مسارات بحرية منتظمة، وكانت سفن التجار العرب والمسلمين تبحر من جنوبي الجزيرة العربية (عدن) ومن الخليج العربي (من البصرة و الأبلة أو سيراف) (على الساحل الغربي لإيران) وتمر بجزر المالديف ثم تواصل سيرها إلى سواحل ماليبار على شاطئ الهند الغربي حيث تستريح ثم تتزود وتمضي في رحلتها حول شبه جزيرة الهند مارة بجزيرة سرنديب (سيلان) ثم يواصلون السير حول سواحل جزر الهند الشرقية حتى يبلغوا ساحل شبه جزيرة الملايو، ويستأنف بعض التجار رحلتهم إلى سومطرة. ومنهم من يواصل رحلته إلى كانتون (مدينة شنغهاي الحالية) على ساحل الصين الشرقي. وكان لهذه الرحلات التجارية واتساع دورتها أكبر الأثر في انتشار الإسلام في إندونيسيا وماليزيا وجنوب شرقي آسيا، حيث حمل التجار العرب والمسلمون مسؤولية نشر الإسلام في أقصى الجنوب الشرقي لآسيا في إطار نشاطهم وتحركاتهم على المحاور البحرية منذ وقت بعيد، ولعلّ إندونيسيا اليوم التي تعد مركزاً من أهم مراكز الثقل في العالم الإسلامي، لأنها تضم أكبر تجمع للمسلمين في إطار دولة واحدة، استطاعت بكل شجاعة وصمود أن تتحمل التحدّي الاستعماري الهولندي المباشر حضارياً وثقافياً واقتصادياً بفضل تجذّر العقيدة الإسلامية الصلبة فيها.

التجارة والملاحة عبر البحر المتوسط:

كان البحر المتوسط قبل الفتح وحدة اقتصادية مبنية في الأصل على وحدة سياسية كانت للرومان أولاً ومن بعدهم للبيزنطيين، لكنّ هذه الوحدة السياسية لم تلبث أن فُقِدت بقيام الفتوحات العربية الإسلامية التي استخلصت الشام ومصر وشمال إفريقيا من أيدي البيزنطيِّين، وكان من الممكن للوحدة الاقتصادية أن تستمر لولا قيام عبد الملك بن مروان (٦٥-٨٥هـ/٦٨٥-٧٠٤م) بتعريب الدينار البيزنطي وضرب الدينار الذهبي العربي متجاوزاً بذلك الامتياز الذي حرص الامبراطور البيزنطي على الانفراد به. ورد على ذلك بمحاصرتهم اقتصادياً وإغلاق البحر المتوسط في وجه الملاحة العربية.

وقد بدأت العملية فعلياً واستمرت حتى سقوط الدولة الأموية سنة ١٣٢هـ/٧٥٠م واستطاع البيزنطيون بصورة عامة أن يحافظوا على هذا الوضع طوال القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي، ولكن العرب المسلمين لجؤوا لوصل مغربهم بمشرقهم وبأوربا إلى اتباع طرق جديدة، يسيرون في البر عبر أراضيهم إلى مسافات داخل المغرب ومن ثم يبحرون إلى بلاد غاليا (فرنسا)، وتلمح في أخبار السفارات والهدايا بين هارون الرشيد وشارلمان من الفرنجة بعض ملامح هذا الطريق. فقد أهدى هارون الرشيد لشارلمان فيلاً سمي (أبو العباس) وسلكت الهدية الطريق البري إلى مصر ثم إلى الشمال الإفريقي، وحمل من هناك إلى ثغر «لوني» Luni ليتابع بعد ذلك رحلته إلى بلاط شارلمان، لكن هذا الطريق كان متعرجاً يستغرق زمناً طويلاً، إذ تُفيد بعض الأخبار أن سفارة غادرت من دولة الفرنجة الكارولنجية إلى بلاط العباسيِّين سنة (١٨٦هـ/٢٠٨م) فلم تبلغ مقصدها إلا بعد أربع سنوات.

في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي استطاع العرب قلب الأوضاع رأساً على عقب، وفرضوا إشرافهم على المرور في البحر المتوسط وذلك بفتح جزره التي كانت للبيزنطيين فيها في السابق قواعد تحكم ومراقبة وإشراف على الممرات في البحر المتوسط. وقد حقق هذا الهدف العرب المسلمون في الجز الغربي. ففي سنة ٢١٢هـ/٨٢٧م قام مهاجرو الربض الأندلسيين بفتح كريت وأزالوا السيطرة البيزنطية بذلك على مدخل بحر إيجه.

وفي العام نفسه وجه الأغالبة من المغرب الأدنى حملة ضد صقلية، بدأت بعمليات فتحها التي انتهت في العقد السادس من القرن الثالث الهجري. كما فتحوا في أثنا عملياتهم القواعد البيزنطية في جنوبي شبه الجزيرة الإيطالية، برنديزي Brindisi وتورنتو Torontoوباري Bari، ونظراً لقوتهم هذه قلبت بعض المدن الإيطالية الموالية لبيزنطة ظهر المجن لها وتحالفت مع الفاتحين، كما فتح العرب مالطة أيضاً وقدّم لهم فتحها تحطيم قاعدة بيزنطية، ومصدراً للأخشاب لبنا السفن حيث «العود فيها أمكَن ما يكون» بحسب تعبير أحد الجغرافيِّين العرب.

وفي أقصى الغرب قام الأندلسيون بدور لا يقل أهمية عن دور المغاربة في الشمال الإفريقي، ويلاحظ فيه اشتراك جهتين بالقيام بنشاط فيه: الدولة ومجموعات من السكان، وقد شهد عمل الدولة في الأندلس تعاظماً كبيراً في عهد الخلافة الأموية خلال القرن الرابع الهجري /العاشر الميلادي، وكانت تدفعها آنذاك ضرورة ملحة لدفع خطرين كبيرين، أولهما المجوس (اسم أطلقه العرب على الغزاة النورمان لعبادتهم النار قبل اعتناقهم المسيحية) من الأطلسي، وثانيهما خطر الفاطميِّين الذين ورثوا الأغالبة وبحريتهم في المغرب الأدنى وصقلية، ومن معالم هذا النشاط إنشا قاعدة بحرية في «المرية» Almeria وجعلها مركزاً لأسطول المتوسط. كما جعلوا قاعدة الأسطول الثاني مدينة «إشبيليا» على الأطلسي.

أما مجموعات السكان فقد اهتمت بتوفير حرية الملاحة والدفاع عن سفنها بالهجوم على سفن الأعدا الأوربيين وعلى شواطئهم، وفي الوقت نفسه القيام بالتجارة مع الشواطئ الإسلامية، وأطلق المؤرخون والجغرافيون العرب على جماعات السكان هذه اسم البحريين، وقد اتخذوا لأنفسهم أول الأمر قاعدة في الأندلس اسمها طرطوشة Tortosa، الواقعة في شرقي الأندلس على جرف عالٍ يوفر لها الحماية من المباغتة في الهجوم، وفيها من المواد الأولية ما يساعد على صناعة السفن، وفي أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي سيطروا على مينا (بجاية) الأندلسي قرب مدينة المرية الحالية. حيث كان يتم تجميع العبيد الصقالبة، الذين كانوا مادة التصدير الأساسية للأندلس وأقام العرب في هذه القاعدة وانطلقوا بسفنهم ليتاجروا مع البلدان الإسلامية في شمالي إفريقيا وليغزوا شواطئ الفرنج في الجزر وعلى البر الأوربي ويغيروا على سفنهم.

ويظهر أن الأندلسيين كانوا يقومون بدور كبير في تجارة المغرب البحرية، ذلك أنه يندر ذكر الجغرافيين لمرسى من مراسيه من دون إشارة إلى وجود جالية أندلسية فيه، وقد اتخذ الوجود الأندلسي في شواطئ المغرب إقامة لأمد قصير أو طويل، ومن أشكال الإقامة المؤقتة أن يقصدوا مدينة من المدن في فترة إقامة الأسواق بها، كما هو حال مدينة أصيلة في المغرب الأقصى حيث كان يقام سوق في العيدين وعاشورا ، وفي حالة الإقامة الدائمة التي يقيم الأندلسيُّون فيها مع السكان فإنهم كانوا يلتمسون حماية بعض هؤلا السكان مقابل حصة معينة من الأرباح أو كمية من المال. كما هو الحال في مليلة.

وكثيراً ماتقوم الجاليات التجارية الأندلسية ببنا مدن جديدة كما هو الحال في مدينة تينس الحديثة بين وهران والجزائر التي أقامتها جماعة من البحريين الأندلسيِّين من أهل ألبيرة وتدمير سنة ٢٦٢هـ/٨٢١-٨٢٢م. وفي سنة ٢٩٠هـ قامت جماعة أخرى من البحريِّين الأندلسيين فبنت مدينة وهران، وهي كما يقول ابن حوقل «مرسى في غاية السلامة والصون من كل ريح قد كنفته الجبال».

سيطر العرب على المتوسط بهذه القوى التي انطلقت من المغرب الإسلامي وبسطت سلطانها على جزر البحر المتوسط وعلى ممراته والتي دعمتها قوة الطولونيين في المشرق في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي التي وحدت أساطيل الشام ومصر واهتمت بالبحر كما يظهر من عمل أحمد بن طولون في بنا مدينة عكا.

أدّى حلول السيطرة العربية الإسلامية محل السيطرة البيزنطية على المتوسط إلى وصل منطقتي تجارة الشرق الأقصى مع تجارة المتوسط، أي إنه ربط تجارياً كل بلدان العالم الإسلامي ومناطق تجارتها مع الشرق الأقصى، وكوَّن ذلك قاعدة لوحدة اقتصادية امتدت من نهر التاجة في وسط إسبانيا الذي يصب في الأطلسي إلى جزر الهند الشرقية. وأهم مظاهر هذه الوحدة استخدام الدينار الذهبي العربي الإسلامي الذي غدا في أواسط القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي نقداً دولياً من دون منازع.

ومن قواعد هذه الوحدة الاقتصادية، تطور الأساليب المصرفية الدولية، وكان كبار رجال المصارف من أهل فارس والبصرة بأرض العراق يعطون الحوالات وكتب الاعتماد التي يمكن أن تصرف لدى من يمثلونهم أو لدى شركائهم الذين أقاموا في كل زوايا العالم الإسلامي، فهم في «جدة» عند نهاية طريق الحج، وهم في سجلماسة ببلاد المغرب، وهم كذلك في طرابلس المغرب ومصر. ويرى ابن حوقل أنّ هذه الحوالات المسحوبة على رجال من أهل الشرق والقابلة للصرف ببلاد الغرب، قامت مقام النقود في السودان في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.

ولم تلبث فروع الاقتصاد الأخرى أن لحقت بالتجارة لتعكس ولتضع قاعدة ومظهراً من مظاهر الوحدة الاقتصادية التي شملت العالم الإسلامي، وتتمثل في انتشار نباتات المنطقة الحارة وشبه الحارة ذات القيمة الاقتصادية على نطاق واسع في أنحا ديار الإسلام. وعلى الأخص في غرب المتوسط، إذ دخلت الحمضيات من الهند إلى البصرة وسورية وانتقلت بعد ذلك إلى صقلية والأندلس، وأخذت دودة القز أيضاً الطريق المماثل عندما زُرِع التوت في أنحا شتى من سورية الجنوبية ومنطقة قابس في تونس ومنطقة جيان في الأندلس، وفي هذه المنطقة كانت زراعة التوت وتربية دودة القز واستخراج الحرير ونسجه تحتل مكانة متزايدة باستمرار في اقتصاد المنطقة، ويقول إدريس أنه كان بالمرية في القرن ٦هـ/١٢م ٦٠٠٠ نول لنسجه، وبصورة عامة كان الإنتاج الزراعي من الحرير يفوق القدرة على التصنيع الملائم، لذا ظلت بعض أنواع المنسوجات الحريرية الثمينة تستورد من الصين، وفي الوقت نفسه كان العرب يصدرون كميات من الحرير الخام لبيزنطة كي تصنعه.

أما القطن فهو نبات هندي الأصل انتقل إلى التركستان، وعندما تكوَّن العالم العربي الإسلامي اتبع انتشار القطن خط التجارة المعروف فانتقل إلى أعالي مابين النهرين، حيث اشتهرت المنطقة المحيطة بالموصل بزراعته ونُسج في المدينة التي اشتهرت به ونُسِب إليها بتسميته (بالموصلين). ثم انتشر في سورية الشمالية، ثم انتقل إلى الجنوب فزرع بالغور وفلسطين. لكن زراعته لم تنتشر بمصر آنذاك لترسخ زراعة القنب مما جعل مصر تستورده، لكن هذا لم يمنعه من عبور زراعته إلى شمالي إفريقيا فزرع في الجريد (منطقة في الجنوب الغربي لتونس) وكذلك بالأندلس في حوض نهر الوادي الكبير.

ويأتي على رأس هذه المزروعات قصب السكر المهم بوصفه عنصراً غذائياً وعنصراً دوائياً كان له أثره في اقتصاد بلدان الحضارة العربية الإسلامية قروناً عدة. وهذا النبات هندي الأصل، عرفه اليونانيون عندما غزا الإسكندر بلاد الهند، وبدأ اسمه يظهر لدى أطبائهم، ثم دخل إلى المنطقة التي سيطر عليها العرب، وكانت أول البلدان نقلاً له أقربها للهند، وهي منطقة عربستان حيث انتشر في كل نواحيها وخاصة في قاعدتها جند نيسابور، وبعد الفتح العربي سارت زراعته باتجاه الغرب. وفي القرن ٤هـ/١٠م تحدث الجغرافيون العرب عن زراعة قصب السكر في الشام ومصر، وانتقلت زراعة قصب السكر بعد ذلك إلى المغرب ومن ولاية إفريقيا نقله العرب المسلمون إلى صقلية وفي المغرب الأقصى تمركزت زراعته في الجنوب بمنطقة وادي السوس، وخاصة مدينة تارودنت التي يقول عنها الحميري. «هي أكثر بلاد الدنيا قصب سكر وفيها معاصر للسكر كثيرة. والسوس بلد السكر ويصنع بها منه كل شي كثير ويتجهز منه إلى الآفاق ويصل فاضله إلى أقصى خراسان».

وتصلح زراعة قصب السكر مثلاً على أن انتقال زراعة ما، تنتقل مع تقنياتها وهي في الغالب تقنيات معقدة وتحتاج إلى جهد إنسانيٍّ أكبر، وذلك بالمقارنة مع الزراعات الأصلية في المنطقة كالحبوب مثلاً، ويصف كل من النويري والمقريزي طريقة الزراعة ومراحلها.

ويتضح مما تقدم أن الفضل يرجع للعرب لا للرومان في إدخال حاصلات ذات قيمة اقتصادية كبيرة إلى بلاد البحر المتوسط وأقلمتها في تربة هذه البلاد.

شهد القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي وخاصة النصف الثاني منه انحسار السيادة العربية عن المتوسط، بدأت بضعف القوى العربية الإسلامية المقيمة على شواطئها وتجزئتها، ففي الأندلس تحطمت الخلافة الأموية وحلّت محلها دويلات بلغ عددها في إحدى الفترات خمسين دويلة، وفي المغرب انقسمت دولة الزيريين إلى دولتين في المغربين الأدنى والأوسط، وحكمت في المغرب الأقصى دويلات زناتية عدة، وفي أقصى الشرق كانت بلاد الشام عرضة للمنازعات بين الفاطميين والقوى المحلية، أدّى كل ذلك إلى بقا قوى البحرية العربية الإسلامية ضعيفة، وأفسح المجال لأعدائها كي يستعيدوا سلطانهم على البحر الأبيض المتوسط وحلّ محل القوة البحرية العربية الإسلامية في المتوسط قوة بحرية للجمهوريات الإيطالية التي ساعدت على قيام الحملات الصليبية على المشرق، ثم أدّى نجاح هذه الحملات إلى دعم الهيمنة البحرية لهذه الجمهوريات، لكن السيادة الإيطالية لم تمنع الاتصال بين أجزا المتوسط بل سهلته وقامت بدور الوسيط تنقل عبره الناس والتجارات، بصرف النظر عن انتمائهم الديني أو تبعيتهم السياسية، حتى إن سفنهم كانت وسيلة الانتقال المعتادة للعرب المسلمين سوا بين الموانئ الأوربية وموانئ بلادهم أو بين الموانئ العربية الإسلامية في أقصى غرب المتوسط وأقصى شرقه، فابن جبير مثلاً قام برحلته إلى المشرق أواخر العقد الثامن من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، على مركب جنوي منطلق من سبتة إلى الإسكندرية، وعاد إلى موطنه بعد قضا فريضة الحج عن طريق مينا عكا الواقع في قبضة الصليبيين، كما أن محمد بن عبد الملك الباجي ارتحل بعد أكثر من نصف قرن على ظهر مركب إيطالي من سبتة إلى عكا.

 

التصنيف : آثار إسلامية
المجلد: المجلد الرابع
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1043
الكل : 58491691
اليوم : 64205