logo

logo

logo

logo

logo

التدجين

تدجين

-

التدجين

يوسف كنجو

 

التدجين domestication هو إحدى الاستراتجيات التي ابتكرها الإنسان للتغلب على الطبيعة خلال مسيرته على الأرض التي حدثت في مناطق مختلفة، حيث بدأ الإنسان بالتدجين منذ ما يزيد على عشرة آلاف سنة مضت و هي ذات شقين؛ أحدهما في مجال الزراعة تمثّل بزراعة بعض الأنواع النباتية في أماكن محددة وتسهيل نموها بتهيئة الأرض وصيانة التربة والحصاد عند النضج وتوج بتدجين القمح، والآخر في المجال الحيواني؛ فقد تحول الحيوان (الوحش) أو (البري) الذي يكون عادة خارج سيطرة الإنسان إلى احتياطي غذائي متوفر دائماً وذلك بالسيطرة على سلوكه والتحكم بإعادة إنتاجه أي تناسله وتكاثره، ونتيجة لذلك تم الحصول على أنواع نباتية أو حيوانية أهلية «داجنة». كما أن التدجين يتضمن معنيين متلازمين معاً؛ أولهما بيولوجي يتعلق بالشكل المورفولوجي للنبات والحيوان، والآخر أتنولوجي يتعلق بالسلوك البشري تجاه النبات والحيوان.

أدى التدجين إلى مجموعة من التغيرات شملت جميع النواحي الاقتصادية والفكرية والاجتماعية للجنس البشري، وقد سُمِّي لاحقاً بالثورة النيوليتية Neolithic revolution مع العلم أنه لم يكن انقلاباً جذرياً أو مفاجئاً، بل كان عملاً تدريجياً طويل الأمد نتج منه التخلي عن اعتماد الإنسان على الطبيعة إلى التحكم بمواردها أي انتقاله من مستهلك سلبي للطبيعة إلى منتج إيجابي، إذ توصل الإنسان بخبرته الطويلة إلى معرفة الحيوانات والحبوب القابلة للتدجين، وقد بدأت هذه العمليات فعلياً منذ الثقافة النطوفية، حيث كانت مرحلة الجمع والالتقاط والصيد، ومن ثم المرحلة الانتقالية Proto Neolithic أو ما قبل التدجين حيث بدأ بزراعة الحبوب على نطاق ضيق بكميات قليلة وتربية بعض الحيوانات بالقرب من المنزل، وكان ذلك في الألف العاشر قبل الميلاد، في حين كانت المرحلة الأخيرة «مرحلة التدجين» التي بدأت منذ الألف التاسع قبل الميلاد.

رحى طحن الحبوب في إيبلا

انطلق تدجين الحيوانات أولاً من خلال تربية الحيوانات التي اصطادها الإنسان ولا سيما الصغيرة منها التي لديها استعداد فطري للتدجين، فهي ذات طبع اجتماعي ومستعدة للتآلف مع الإنسان والاحتكاك به وتتحرك في جماعات لها قائد، ووجدت في مناطق الحبوب البرية. وقد مر تدجين الحيوان بمراحل إذ بدأ بالترويض الذي سمح باقتراب الحيوان من الإنسان مما ساعد على فهم سلوك الحيوان وهجرته وأوقات تناسله، إذ كان في البداية نوعاً من الرعاية التي تتركز على الحيوانات الصغيرة وطعامها وحفظها واستهلاكها عند الضرورة وأما المرحلة الثانية من التدجين فقد تركزت على ضبط أعداد الأنواع الحيوانية وتكاثرها وتناسلها ومن ثم الاستفادة ليس فقط من اللحم؛ بل من الحليب والصوف أيضاً.

وتشير الدلائل الأثرية إلى أن الإنسان قد اهتم بالغزال أولاً إذ راوحت نسبة عظام الغزال بين البقايا العظمية الأخرى في المواقع الأثرية النطوفية ما بين ٦٥-٩٥٪ إضافة إلى تجسيده في أعماله الفنية. إلا أن أول ما دجن الإنسان الكلب ربما لحاجته إليه في الصيد والحراسة في الفترة النطوفية، وتلاه الغنم والماعز والخنزير في الفترة النيوليتية إذ بلغت نسبة هذه الحيوانات ٧٠٪، ثم البقرة التي تعطي الحليب واللحم والجلد، وأخيراً الحصان والجمل والحمار لاستخدامها في الجر والركوب والحرب في العصور البرونزية.

أما بالنسبة إلى الزراعة فقد دلت الأبحاث الأثرية على أن المنطقة الأولى لاكتشافها كانت منطقة الهلال الخصيب وخصوصاً تلك الواقعة شمالي سورية، حيث كشفت أعمال التنقيب في كل من موقعي المريبط و»أبو هريرة»] ر[ على أن الإنسان قام هناك بالأعمال الأولى التي أدت إلى انتشار واسع للزراعة وتدجين الحيوان. ولكن عموماً تعد المنطقة الممتدة من حوض الفرات إلى حوض الأردن مروراً بحوضة دمشق في الوسط من أقدم المناطق التي عرفت الزراعة في العالم. ومن أبرز الدلائل على ظهورها وجود الأدوات الزراعية الثقيلة والثابتة كالمدقات والجوارش والمطاحن والأدوات الزراعية القاطعة كمناجل الحصاد والأواني الحجرية، وكان الشعير والقمح بأنواعهما المختلفة أول ما زرع الإنسان بعد أن قام بجمع هذه الحبوب لفترة طويلة.

مرّت الزراعة بثلاث مراحل رئيسية؛ بدأت أولاً بمرحلة الجمع والالتقاط والتعرف على الحبوب البرية كالقمح والشعير والشوفان، ومن ثم المرحلة الوسطى التي تشمل بدايات الزراعة التي قام بها الإنسان على نطاق ضيق حيث جرب الإنسان زراعة الحبوب بالقرب من المنزل، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة التي جرت فيها أعمال تدل على الزراعة كالحراثة والحقل والحصاد.

حبوب مدجنة

كما بات معروفاً أن الزراعة والتدجين لم يكتشفا معاً في الوقت نفسه، إذ سبقت الزراعة التدجين كما هو الحال في بلاد الشام في حين تقدم التدجين على الزراعة كما هو الحال في بلاد الرافدين، ومن ثم تعاصرا معاً في جميع المناطق. وعليه فالبدايات الأولى للزراعة وتدجين الحيوان مختلفة حيث إن الزراعة تتطلب وجود قرى مستقرة كونها تساعد على وجود مستودعات للتخزين فمن دون تخزين للحبوب فإن الزراعة لا تعطي جدواها في حين تدجين الحيوانات يتطلب أولاً ملاحقة الحيوانات من مكان إلى آخر، ووجود الحيوانات في القرى المستقرة دليل واضح على مرحلة متقدمة من التدجين.

إلا أنه من الصعوبة بمكان تحديد الفترة الزمنية التي يمكن أن تكون البداية الحقيقة للتدجين كون العملية كانت قد بدأت تدريجياً وفي أماكن وفترات زمنية مختلفة ومن المحتمل أنها استمرت لفترة طويلة، ولكن الأبحاث الأثرية المعتمدة بالدرجة الأولى على المستحاثات النباتية والحيوانية تكاد تكون متفقة على أن بدايات التدجين الأولى في المشرق (الهلال الخصيب) تعود إلى المرحلة ما قبل المرحلة النيولتية (الألف العاشر قبل الميلاد) إلا أن التدجين الفعلي بالنسبة إلى الحبوب (القمح والشعير) بدأ في الألف التاسع قبل الميلاد، ومن ثم تلاه مباشرة تدجين الحيوان في الألف الثامن والسابع قبل الميلاد (الغنم والماعز).

عظام حيوان قبل التدجين وبعده

وكمثال على ذلك؛ يعد تل المريبط الموقع الأقدم على مستوى العالم في اكتشاف الزراعة حيث بينت التنقيبات الأثرية أن السكان عرفوا الزراعة منذ الألف التاسع قبل الميلاد كما بينت الطبقة الثالثة منه؛ إذ عثر المنقبون في الطبقات النطوفية على القمح البري الذي استمر في كامل المرحلة النطوفية. وقد بينت دراسات حبوب الطلع في تل المريبط على احتمالية وجود ما يسمى بالزراعة التمهيدية، مع ملاحظة زيادة الحبوب بنسبة ٨٪. وفي المرحلة ذاتها لوحظ تحول تدريجي في تقنيات الصيد، من قتل بالغ التنويع يشتمل على البقر والحمار البريين أي تسيطر فيه المجترات الصغيرة، لينتقل أهل المريبط بعد ذلك إلى صيد متخصص ستكون الغالبية فيه للعاشبات الكبيرة كحمار الوحش والبقر البري، وفي هذا المجال يلاحظ تغير في استراتيجية الصيد وليس في المحيط الحيواني الذي يوفر كمية كبيرة من اللحم أكبر بكثير بالعدد نفسه من الحيوانات المقتولة. وهذا يبرهن على أن التحول إلى التدجين سوا للحيوان أم للنبات بدأ بالتوازي وإن كان بالنسبة إلى النبات أسرع منه إلى الحيوان.

ويعد موقع «أبو هريرة» من المواقع المهمة في مجال التدجين؛ فقد بلغت نسبة الغنم والماعز ٧٠٪ من الحيوانات المدجنة فيه.

ماعز جبلي بعد التدجين ماعز جبلي قبل التدجين

وأخيراً فإن التدجين هو استراتيجية ابتكرها الإنسان بهدف الحصول على حيوانات أو نباتات تختلف شكلياً عن أجدادها، وهذا الاختلاف ناتج بسبب تدخل الإنسان بعملية تكاثر الكائن على نحو مباشر أو غير مباشر، ونتيجة تدخل الاصطفا الطبيعي؛ بحيث يمكن هذا التغير الإنسان من السيطرة على سلوك هذه الحيوانات والتحكم بتكاثرها. ويمكن القول بوجود التدجين فعلياً عندما دخل التدجين في بنية التنظيم الاجتماعي – الاقتصادي للجماعة البشرية وأصبح جز اً لا يتجزأ من الحياة اليومية للإنسان الذي سيطر باستراتيجيته هذه على الطبيعة وتحكم في إنتاج قوته في مختلف الفصول ولفترة زمنية طويلة

مراجع للاستزادة:

- سلطان محيسن، بلاد الشام في عصور ما قبل التاريخ (المزارعون الأوائل) الأبجدية للنشر (دمشق ١٩٩٤م).

- جاك كوفان، القرى الأولى في بلاد الشام من الألف التاسع حتى الألف السابع ق.م. ترجمة إلياس مرقص (دمشق ١٩٩٥م).

- Susan Fostr MCCARTER, Neolithic (New York and London 2007).

- Ian KUIJT, Life in Neolithic Farming Communities: Social Organization, Identity, and Differentiation (New York 2000).

- Alan H. SIMMONS, The Neolithic Revolution in the Near East, Transforming the Human Landscape (The University of Arizona Press, 2007).

 


التصنيف : عصور ما قبل التاريخ
المجلد: المجلد الرابع
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1056
الكل : 58492377
اليوم : 64891