logo

logo

logo

logo

logo

الدفن (طرق وشعائر-) في عصور ماقبل التاريخ

دفن (طرق وشعاير) في عصور ماقبل تاريخ

-

الدفن في عصور ما قبل التاريخ

 

تمتع إنسان النياندرتال- الذي عاش قبل نحو ١٥٠ألف سنة- بمشاعر رقيقة وسمو روحي كبير، دفعاه إلى أن يكون أول مخلوق بشري دفن موتاه، وأولاهم عنايته الفائقة، وزودهم ببعض الأسلحة والأدوات الصوانية والحلي، ووضعهم في قبور فردية وجماعية ضمن المغاور والملاجئ الصخرية والمواقع المكشوفة التي كان يسكنها. ومن أهمها في منطقة المشرق العربي مغارة القفزة ومغارة العمود ومغارة الطابون ومغارة الكبارا ومغارة السخول بجبال الكرمل، ومواقع قرب بحيرة طبريا في فلسطين، وكهف شانيدار في العراق، وكهف عفرين في سورية، وغيرها من المواقع.فقد عثر في كهف شانيدار على هيكل عظمي لرجل يبلغ نحو الأربعين سنة من العمر، كان منذ طفولته نصف مشلول، ودفنه أهله بعد موته في قبر فرشت أرضه بالورود. أما في كهف الديدرية (منطقة عفرين) فقد تم الكشف سنة ١٩٩٣م عن هيكل عظمي لطفل عمره نحو السنتين، دفن بعناية فائقة حيث وضع في حفرة مستلقياً على ظهره ويداه ممدودتان ورجلاه مثنيتان، وتحت رأسه بلاطة حجرية ناعمة، وعلى صدره من جهة القلب أداة صوانية. كما عثر في الكهف نفسه سنة ١٩٩٧م على هيكل آخر لطفل (أنثى)، عمره نحو ٣ سنوات، دفن بوضعية مشابهة، ووجد معه درع سلحفاة. وهي كلها مؤشرات على عملية دفن مقصود مارسه هذا النوع من الإنسان.

نموذج لأحد القبور في تل الشيخ حسن ويظهر توضع الهيكل فيه نموذج دفن من موقع تل فرس (موسم ٢٠٠٨)
نموذج دفن من موقع تل فرس (موسم ٢٠٠٦) نموذج دفن من موقع تل فرس
نموذج دفن من موقع تل فرس (موسم ٢٠٠٦) نموذج دفن من موقع تل فرس

أما الإنسان العاقل الذي ظهر في العصر الحجري القديم الأعلى (الباليوليت الأعلى) - قبل نحو ٤٠ ألف سنة خلت - فقد اهتم بموتاه أكثر، ودفنهم بعناية وبأوضاع مختلفة ضمن مدافن فردية وجماعية، وطلى الجثث بالمغرة الحمراء رمز الحياة، ووضع مع الجثث بعض المرفقات الجنائزية.

في العصر الحجري الوسيط(الميزوليت) كانت معظم مدافن المواقع الفلسطينية والأردنية العائدة إلى الثقافة النطوفية (١٢٠٠٠- ١٠٠٠٠ق.م) من النوع الفردي والجماعي، وقد وجدت في مواقع: الواد وعرق الأحمر وعين الملاحة، وضم المدفن الواحد أحياناً بين ٣-٧ أشخاص، ووضعت الهياكل أحياناً بعضها فوق بعض.

أدوات صوانية مرافقة لأحد الهياكل في تل الشيخ حسن أحد نماذج الدفن الجماعي في تل صبي أبيض
القبر ٢٠٥ مع أوانٍ فخارية مرافقة في تل شغار هيكلان من المنطقة EME في تل براك

في حين وجدت في موقع عرق الأحمر جثة واحدة كاملة في مدفن ومعها عدة جماجم، وبقرب كل منها سن حصان. وتميز موقع عين الملاحة بالمدفن (رقم ٢٥) الذي عثر فيه على كمية كبيرة من المغرة الحمراء، وفيها ثلاثة عراقيب غزلان مما يؤكد الأهمية الرمزية والدينية لهذا الحيوان الذي دلت عليه التماثيل أيضاً. إن حقيقة كون الجماجم تحظى بالاهتمام الأكبر بين بقية الأجزاء المدفونة يدل على المكانة الخاصة للرأس في معتقدات المجتمعات النطوفية المتعلقة بحياة ما بعد الموت.

   
وضعيات مختلفة للدفن في تل صبي أبيض  أحد القبور المكتشفة في تل الشيخ حسن 

 

خلال العصر الحجري الحديث وبدءاً من الألف العاشر قبل الميلاد دفن السكان موتاهم إما في حفر المواقد، وإما أسفل أرضيات البيوت، وإما في أماكن قريبة للسكن. كما تم العثور على مقابر منعزلة للبالغين، وأخرى خاصة بحديثي الولادة. وقد لوحظ أنّ سكان هذا العصر استخدموا الدفن الأولي والثانوي لموتاهم، وتمّ الدفن فردياً وجماعياً، وكان هناك اختلاف بوضعيات الدفن، فوضعت الجثث ممددة، أو شبه منحنية، أو بوضعية القرفصاء والجنين.

نموذج لأسلوب دفن مختلف في تل حموكار قبر طفل داخل حفرته في تل براك
طبعات من الحصير على التراب خلف الجمجمة في الخندق B في تل أبي هريرة قبر لرجل شاب يحمل الرقم ٧٢,٢٥٠ من الجنوب حيث الجمجمة منزوعة مع وجود رأس سهم في تجويف الصدر في الخندق E في تل أبي هريرة

وتميزت القبور بالمرفقات الجنائزية المتنوعة المصاحبة للمتوفى، من أدوات زينة، وحصى نهرية، وأصداف، وإبر عظمية، وكرات حجرية، وأدوات صوانية، ودمى طينية، وتماثيل حجرية، وأوانٍ فخارية وحجرية وجصية، وأدوات من الأوبسيديان، وقطع من المغرة الحمراء، وبقايا عظمية وحيوانية ونباتية، وحلي على شكل فراشات من الكوارتز والعظام والحجر الأخضر، مما يشير إلى تطور الفكر الاجتماعي والديني ورسوخ فكرة حياة ما بعد الموت لدى إنسان هذا العصر، وظهور عبادة تقديس الأسلاف. وهذا ما يظهر جلياً من خلال بعض الطقوس الجنائزية، ومنها لفُّ جسد الميت بنوع من الكفن، واستمرار الاهتمام بالجماجم من خلال دفنها مستقلة، وحرق بعضها أحياناً، أو وضعها على وسادة من الطين الأحمر، فيما طليت بعض الجثث بالمغرة الحمراء، وهو ما قد يشير إلى أمل الأحياء في تجدّد حياة الأموات. وتمّ أحياناً تجميع الهياكل العظمية في منـزل واحد، ربما كان مركزاً روحياً ومكاناً لتقديس الأموات. كما ظهرت بعض حالات حرق الجثث، أو حرق الجماجم التي تم دفنها أحياناً قرب المواقد أو تحتها.

قلادة من الأثاث الجنائزي من احد القبور في تل حالولة حلي مكتشفة في أحد القبور في تل حالولة خرز نحاسي مرافق لهيكل من تل حالولة
قلادة من احد القبور في تل حالولة سوار خرز مع عقيق لطفل من تل حالولة ثقالة من تل حالولة عليها بعض آثار المغرة الحمراء

وقد انتشرت عقيدة تقديس الأسلاف انتشاراً كبيراً في منطقة بلاد الشام، وهذا ما تعبر عنه الجماجم التي دفنت تحت أرضيات البيوت أو بالقرب منها، وكذلك الجماجم المليسة المقولبة والمطلية أحياناً بالمغرة الحمراء، والتي تم دفن الكثير منها دفناً جماعياً، وكانت لبالغين من الذكور والإناث، كما في تل أسود وتل الرماد في ريف دمشق، وفي أريحا في فلسطين. وقد كانت بعض الجماجم تستخدم أحياناً في أثناء احتفالات معينة ثم تعاد إلى أماكنها، كما في تل الرماد وأريحا، وقد وجدت أحياناً مجموعة من الدمى إلى جانب الجماجم المليّسة، ربما استخدمت لأداء الطقوس نفسها. ومن المواقع السورية الأخرى التي ظهرت فيها هذه العادات أو بعضها:الجرف الأحمر وجعدة المغارة وتل المريبط وتل الشيخ حسن وتل الغريفة وتل بقرص وتل حالولة وتل أبي هريرة وتل صبي أبيض.

أوانٍ فخارية من تل كشكوك استخدمت مرفقاتٍ جنائزية
نموذج من أساليب الدفن - تل فرس

في العصر الحجري النحاسي وبدءاً من منتصف الألف السادس قبل الميلاد استمرت ظاهرة دفن الجماجم دفناً مستقلاً، فيما دفن الأطفال تحت أرضيات البيوت السكنية، والبالغون خارج السكن إلا الشخصيات المهمة منهم، فقد ظلت تدفن تحت أرضيات البيوت، وكانت وضعيات الجثث هي الاستلقاء على الظهر والانحناء. ورافق الميت مجموعة من الأثاث الجنائزي تضمنت أواني فخارية تنتمي إلى الثقافة الحلفية، وأدوات مصنوعة من العظم والصوان والأوبسيديان، وبعض الأواني الحجرية، وأنواعاً من الحلي المصنّعة من حجارة متنوعة. و غلب على القبور الشكل البيضوي العميق كما في شاغربازار، واستخدمت الجرار الفخارية للدفن أيضاً كما في تل صبي أبيض. وكانت أغلب حالات الدفن فردية خلال هذه المرحلة، ومن المواقع الأخرى التي عثر فيها على هذا النوع من الدفن: تل عربيد وتل كشكشوك وتل أم القصير.

نموذج من الجماجم المليسة من تل أسود نموذج من قبور تل صبي أبيض مع بعض الجرار الفخارية
نموذج من قبور تل صبي أبيض مع زناره نموذج لعظام مهشمة من قبر في تل فرس

في المرحلة العبيدية وبدءاً من مطلع الألف الخامس قبل الميلاد استمر تأثر السكان بتقاليد الدفن التي كانت سائدة في عصر حلف ولاسيما من حيث الدفن الفردي، لكن الجديد هو المرفقات الجنائزية التي تضمنت علاوة على فخار مرحلة عبيد، بعض المغازل و المخارز العظمية و الحلي و أدوات الزينة. كما تم لف الأموات بما يشبه الكفن، ووضعت وسادة من اللبن تحت الرأس، ووضعت المرفقات ضمن حفرة جانبية. ومن المواقع السورية التي شهدت هذا النوع من الدفن: تل زيدان وتل مشنقة وحمام التركمان وتل كشكشوك II. في منتصف الألف الرابع ق.م (عصر أوروك) ظهر أسلوب جديد من الدفن تواكب مع التطور الاقتصادي والاجتماعي والعمراني الحاصل، فقد تم لأول مرة دفن هياكل الأطفال ضمن المعابد، كما عثر على مقابر خاصة داخل حدود الأحياء السكنية، فيما استمرت وضعية الانحناء للجثة مع الوضعية الجنينية ضمن الأوعية الفخارية، وبقي اتجاه الهيكل واحداً من الأدوار الماضية من الشرق إلى الغرب. أما المرفقات الجنائزية فقد أصبحت أكثر عدداً وقيمة، ومنها الأواني الفخارية، والحلي وأدوات الزينة التي صنعت من مواد ثمينة كالذهب واللازورد وغيره من الأحجار الكريمة. وهناك الدمى العظمية ذات العيون الكبيرة، ودمى طينية لنساء، و الإبر والمشابك البرونزية التي وضعت لتثبيت ثوب ما، وهذا ما أكّده وجود قطعة ثياب متقنة الحياكة، مزينة بالعديد من حبات الخرز، مما يشير إلى دفن الميت بملابسه.

نموذج دفن في تل فرس نموذج لأسلوب دفن في تل حموكار
نموذج لأسلوب دفن في تل حموكار نموذج لأحد قبور تل شعير

وهناك استمرارية لعادات الدفن القديمة خلال هذا العصر ولاسيما فصل الرؤوس عن الهياكل، ووضعها أحياناً فوق الكتف اليسرى، وكأن هذا العمل ترجٍ لعودة الميت لأنها جهة القلب. كذلك تم دفن الأطفال الصغار تحت عمر الـخمس سنوات- بالتنور بعد حرق الجثة فيه ومن ثم تغطيتها بالآجر. وقد يكون لهذا الطقس علاقة بالأضاحي البشرية، لكونها اقتصرت على منطقة المعابد، فيما احتوت قبور أخرى على عظام حيوانية، ربما كانت أضاحي تقدم للميت. ويدل التفاوت في قيمة المرفقات الجنائزية وشكل القبور وحجمها على تفاوت طبقي كبير في المجتمع. ومن المواقع السورية التي تعود إلى هذه الفترة: تل الشيخ حسن وتل براك وحمام التركمان وحبوبة الكبيرة وتل زيدان وتل حموكار وتل شعير وتل كشكشوك وتل كشكشوك II وتل فرس.

ليلى السماك

 

التصنيف : عصور ما قبل التاريخ
المجلد: المجلد السابع
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1051
الكل : 58491355
اليوم : 63869